البدايةالدليل الاقتصادي للشركات  |  دليل مواقع الويبالاتصال بنا
 
 
 
المقالات الاكثر قراءة
 
تصفح باقي الإدراجات
أحدث المقالات

مالذي جعل البريطانيين يحبون ملكتهم ؟

كاتب المقال جعفر عباس - السودان   
 المشاهدات: 747



عملت حينا من الدهر في السفارة البريطانية في الخرطوم، في وظيفة ضابط إعلام ـ مترجم، وكان من صميم المهام اليومية الموكلة إليّ، إصدار نشرة باللغة الإنجليزية تتضمن أهم الأخبار الواردة في الصحف السودانية، ثم ترجمة تقارير كانت تصل بانتظام من المكتب المركزي للمعلومات البريطاني Central Office of Information إلى العربية وتوزيعها على الصحف السودانية، وكانت هذه التقارير ثقيلة على نفسي لأنني كنت أجدها هزيلة المحتوى، لأنها في معظمها لم تكن تتعلق بأمور السياسة والاقتصاد والقضايا الحيوية الأخرى، بل كان ما يصلني منها على الأقل يتعلق بأخبار كنت أرى أنها "هايفة": الأميرة آن تتعرض لكسر في الذراع اليمنى بعد سقوطها من حصان.. الأميرة مارغريت تمارس التزلج في جبال الألب.. الأمير تشارلز يثبت أن النباتات تتفاعل معه عندما يخاطبها؛ وكنت أتميز غيظا وصحفنا تنشر كل ما أبعث به إليها من تلك الشاكلة من الأخبار، بينما كان الطاقم الدبلوماسي سعيدا بعدم إغفال تلك الصحف لأي مادة تصلها من السفارة.

ثم دارت الأيام وتسنى لي العيش في بريطانيا كطالب علم ثم كصحفي، وزيارتها عديد المرات، وكنت دائما في حيرة من أمر الشعب البريطاني: لماذا يحبون الملكة اليزابيث الثانية وذريتها لدرجة التقديس أحيانا، بينما واقع الحال يشي بأنها عائلة تعيش حياة مترفة، عالة على دافع الضرائب البريطاني؟ لماذا يرفض نحو 80% من البريطانيين إلغاء الملكية والانتقال إلى النظام الجمهوري؟ بل لماذا يرضى الكنديون والأستراليون والنيوزيلنديون بالبقاء تحت التاج البريطاني؟

في اليوبيل البلاتيني، أي بمناسبة مرور سبعين سنة على جلوس الملكة اليزابيث على العرش، تكبدت الخزينة العامة في بريطانيا نحو ستين مليون جنيه إسترليني، لتمويل نحو مائتي فعالية في مختلف المدن في الجزر البريطانية، وشهدت تلك الفعاليات نحو 16 مليون شخص منهم أكثر من مليونين من خارج بريطانيا، بل وحتى في غير مثل تلك المناسبات تجذب المؤسسة الملكية البريطانية ملايين السياح الذين يضخون المليارات في الخزينة العامة سنويا، فأي سحر يشد الناس إلى ملكة لم تكن تهش أو تنش، ولا يسمع الناس لها صوتا إلا نحو مرتين في السنة تهنئ فيهم الشعب بهذه المناسبة أو تلك؟

تتفاوت الأجوبة على هذا السؤال، ولكن معظمها يقول بأن حب البريطانيين للملكة ينبع من حبهم لـ "المؤسسية"، واحترامهم للتقاليد والأعراف، وليس أدل على ذلك من أنه ليس لبريطانيا دستور مدون، ومع هذا فجميع الأحزاب ملتزمة بأصول مرعية ومتوارثة للحكم وتداول السلطة، وعمر النظام الملكي في بريطانيا يناهز الألف سنة، وفي القرن السابع عشر نجح القائد العسكري أوليفر كرومويل في الإطاحة بالملك وأسس نظاما جمهوريا دام أحد عشرة سنة، ومنذ وقتها ومعظم البريطانيين يعتبرون كرومويل خائنا وديكتاتورا، وفيما يتعلق بالملكة إليزابيث التي ووريت الثرى في 19 أيلول/ سبتمبر الجاري، فإن سحرها يكمن في أنها لا تهش ولا تنش، ولم يحدث أن نطقت بكلمة يمكن أن تحسب تحاملا على طرف او انحيازا لجهة، وبما أنها نأت بنفسها عن العمل التنفيذي، فلم يكن هناك من يحملها مسؤولية تدني الخدمات العامة أو حدوث ضوائق اقتصادية، وما عطَّر سيرتها أكثر، اقتران عهدها بالفترة التي برزت فيها بريطانيا كقوة عسكرية مهابة، بعد أن قادت التحالف الذي انتصر في الحرب العالمية الثانية، وكونها تطوعت خلال تلك الحرب بأن تعلمت قيادة السيارات وأصول ميكانيكا السيارات في سياق دعم المجهود الحربي.

في أوروبا وحدها هناك 32 جمهورية تأخذ بالنظام البرلماني، مما يعني أن حامل لقب "رئيس جمهورية" فيها لا يملك أي سلطات تنفيذية، أي أن منصبه "تشريفي" مثل ملك / ملكة بريطانيا، وتفيد استطلاعات متواترة بأن غالبية الناس في كل الأقطار لا تعرف أن في ألمانيا رئيس للجمهورية، لأن من يشغل منصب المستشار فيها، وهو ما يعادل رئيس الوزراء في الدول الأخرى، هو الكل في الكل.

ثم أنظر الجمهوريات العربية التي توحي أسماؤها بأن شاغلي المناصب الدستورية والسيادية فيها منتخبون من قبل الشعب، وتذكر الرؤساء المزمنين من شاكلة عمر البشير (سجين اليوم) وصدام حسين وعلي عبد الله صالح ومعمر القذافي (رحلوا من مناصبهم قتلا)، وحسني مبارك طار من منصبه طريدا إلى السجن لبعض الوقت، وتسلم الراية عبد الفتاح السيسي الذي أعطى نفسه صلاحية الحكم لـ 17 سنة قابلة للتمديد إذا مد الله في أيامه، بينما حافظ الأسد مات على سريره بعد أن أدخل سوريا سرير العناية الفائقة، تحت إشراف الطبيب بشار الأسد، الذي يقوم حاليا بتقطيع أوصالها.

وتماثل جامعة الدول العربية المؤسسة الملكية البريطانية فقط من حيث أنها تعيش عالة على خزائن الشعوب العربية، ولأنها تعاني، أو يراد لها أن تعاني من إعاقات مُركَّبة، فلم يصدر عنها قط قول أو فعل يجعل الجماهير العربية تكنّ لها أي قدر من الود، ورغم أن ميثاق الجامعة يعطيها حقوقا وصلاحيات تفوق تلك التي كانت تتمتع بها ملكة بريطانيا الراحلة، إلا أنها غير معنية سوى بامتيازات ومخصصات الكوادر العاملة فيها، والتي لا يعرف أحد لها عملا مجديا.

وما يؤكد أن النظام الملكي البريطاني يعرف الأصول أن عبد الفتاح البرهان سافر إلى لندن للمشاركة في تشييع إليزابيث إلى قبرها، فجاء توصيفه في قائمة الزوار على أنه "قائد عسكري السودان"، ولم يخصصوا له مكانا في طابور رؤساء الدول الذين قدموا لتقديم العزاء، ويُحمد للبرهان أنه عرف قدر نفسه فحطت طائرته في مطار شبه مهجور في لندن، وكان في استقباله مندوب من هيئة المراسيم في وزارة الخارجية البريطانية، وربما حز ذلك في نفس البرهان، فكان الوحيد بين المعزين الذي لم يلتزم ببروتوكول العزاء فارتدى حُلّة زرقاء، كانت نشازا وسط بحر السواد المتلاطم.

ملكة بريطانيا لم تشتر حب الناس واحترامهم بالمال أو بالغصب بقوة السلاح، بل باحترام تقاليد بلدها، والعمل في صمت (ولو أدبيا) في كل مجال يسهم في رفعة بلدها، وبلغ من حب شعبها لها، وهو حب للتاريخ والأصول المتوارثة المرعية، إن من يتحدث بلغة إنجليزية رفيعة يقال عنه إنه يتكلم "إنجليزية الملكة"، باعتبار أن الملكة لا تنطق بكلام فيه خطأ.

-------------
وقع تغيير في العنوان الاصلي للمقال
محرر موقع بوابتي


 اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة:

ملكة بريطانيا، بريطانيا، الملكية،

 





تاريخ نشر المقال بموقع بوابتي 26-09-2022   المصدر: عربي 21

تقاسم المقال مع اصدقائك، أو ضعه على موقعك
لوضع رابط لهذا المقال على موقعك أو بمنتدى، قم بنسخ محتوى الحقل الذي بالأسفل، ثم ألصقه
رابط المقال

 
لإعلام أحدهم بهذا المقال، قم بإدخال بريده الإلكتروني و اسمك، ثم اضغط للإرسال
البريد الإلكتروني
اسمك

شارك برأيك
لوحة مفاتيح عربية بوابتي
     
*    الإسم
لن يقع إظهاره للعموم
     البريد الإلكتروني
  عنوان المداخلة
*

   المداخلة

*    حقول واجبة الإدخال
 
كم يبلغ مجموع العددين؟
العدد الثاني
العدد الأول
 * أدخل مجموع العددين
 
 
 
أكثر الكتّاب نشرا بموقع بوابتي
اضغط على اسم الكاتب للإطلاع على مقالاته
محمد الطرابلسي، عزيز العرباوي، صلاح الحريري، الهادي المثلوثي، عمار غيلوفي، سفيان عبد الكافي، محمود فاروق سيد شعبان، حسن الطرابلسي، سلوى المغربي، الهيثم زعفان، عبد الله الفقير، د. عادل محمد عايش الأسطل، فتحي العابد، د- محمد رحال، علي عبد العال، مراد قميزة، د. أحمد بشير، سلام الشماع، د- جابر قميحة، محمد الياسين، أشرف إبراهيم حجاج، محمد عمر غرس الله، محمد العيادي، د. مصطفى يوسف اللداوي، أ.د أحمد محمّد الدَّغَشِي ، عبد الله زيدان، رضا الدبّابي، صباح الموسوي ، د. ضرغام عبد الله الدباغ، وائل بنجدو، رافع القارصي، رمضان حينوني، كريم السليتي، خبَّاب بن مروان الحمد، رافد العزاوي، عبد الغني مزوز، سامح لطف الله، إسراء أبو رمان، مصطفي زهران، ضحى عبد الرحمن، د. عبد الآله المالكي، المولدي اليوسفي، ياسين أحمد، المولدي الفرجاني، د- محمود علي عريقات، أحمد بوادي، عراق المطيري، صالح النعامي ، د - المنجي الكعبي، يزيد بن الحسين، د. صلاح عودة الله ، محمد أحمد عزوز، فوزي مسعود ، نادية سعد، فتحي الزغل، خالد الجاف ، د. كاظم عبد الحسين عباس ، محمود طرشوبي، الناصر الرقيق، د - محمد بن موسى الشريف ، مجدى داود، محمد اسعد بيوض التميمي، طارق خفاجي، د.محمد فتحي عبد العال، د - عادل رضا، صلاح المختار، محمد علي العقربي، فتحـي قاره بيبـان، رحاب اسعد بيوض التميمي، العادل السمعلي، أنس الشابي، د - مصطفى فهمي، فهمي شراب، د. أحمد محمد سليمان، مصطفى منيغ، أحمد بن عبد المحسن العساف ، أحمد ملحم، حميدة الطيلوش، تونسي، د. طارق عبد الحليم، د. خالد الطراولي ، د - صالح المازقي، إياد محمود حسين ، ماهر عدنان قنديل، أبو سمية، د - ‏أحمد إبراهيم خضر‏ ، د - الضاوي خوالدية، منجي باكير، محرر "بوابتي"، سليمان أحمد أبو ستة، بيلسان قيصر، محمود سلطان، رشيد السيد أحمد، يحيي البوليني، سامر أبو رمان ، أحمد الحباسي، محمد شمام ، صفاء العراقي، كريم فارق، عبد الرزاق قيراط ، طلال قسومي، عواطف منصور، سعود السبعاني، أحمد النعيمي، حاتم الصولي، عبد العزيز كحيل، سيد السباعي، عمر غازي، حسني إبراهيم عبد العظيم، د - محمد بنيعيش، علي الكاش، إيمى الأشقر، جاسم الرصيف، محمد يحي، حسن عثمان، صفاء العربي، د - شاكر الحوكي ، أ.د. مصطفى رجب، د- هاني ابوالفتوح،
أحدث الردود
ما سأقوله ليس مداخلة، إنّما هو مجرّد ملاحظة قصيرة:
جميع لغات العالم لها وظيفة واحدة هي تأمين التواصل بين مجموعة بشريّة معيّنة، إلّا اللّغة الفر...>>


مسألة الوعي الشقي ،اي الاحساس بالالم دون خلق شروط تجاوزه ،مسالة تم الإشارة إليها منذ غرامشي وتحليل الوعي الجماعي او الماهوي ،وتم الوصول الى أن الضابط ...>>

حتى اذكر ان بوش قال سندعم قنوات عربيه لتمرير رسالتنا بدل التوجه لهم بقنوات امريكيه مفضوحه كالحره مثلا...>>

هذا الكلام وهذه المفاهيم أي الحكم الشرعي وقرار ولي الأمر والمفتي، كله كلام سائب لا معنى له لأن إطاره المؤسس غير موجود
يجب إثبات أننا بتونس دول...>>


مقال ممتاز...>>

تاكيدا لمحتوى المقال الذي حذر من عمليات اسقاط مخابراتي، فقد اكد عبدالكريم العبيدي المسؤول الامني السابق اليوم في لقاء تلفزي مع قناة الزيتونة انه وقع ا...>>

بسم الله الرحمن الرحيم
كلنا من ادم وادم من تراب
عندما نزل نوح عليه السلام منالسفينه كان معه ثمانون شخصا سكنو قريه اسمها اليوم هشتا بالك...>>


استعملت العفو والتسامح في سياق انهما فعلان، والحال كما هو واضح انهما مصدران، والمقصود هو المتضمن اي الفعلين: عفا وتسامح...>>

بغرض التصدي للانقلاب، لنبحث في اتجاه اخر غير اتجاه المنقلب، ولنبدا بمسلمة وهي ان من تخلى عن مجد لم يستطع المحافظة عليه كالرجال، ليس له الحق ان يعامل ك...>>

مقال ممتاز...>>

برجاء السماح بإمكانية تحميل الكتب والمراجع...>>

جل الزعماء العرب صعدوا ،بطرق مختلفة ،تصب لصالح المخطط الانتربلوجي العسكري التوسعي الاستعماري،ساهموا في تبسيط هدم حضارة جيرانهم العربية او الاسلامية عم...>>

مقال ممتاز
لكن الاصح ان الوجود الفرنسي بتونس لم يكن استعمارا وانما احتلال، فرنسا هي التي روجت ان وجودها ببلداننا كان بهدف الاعمار والاخراج من ح...>>


الاولى : قبل تحديد مشكلة البحث، وذلك لتحديد مسار البحث المستقل عن البحوث الاخرى قبل البدء فيه .
الثانية : بعد تحديد مشكلة البحث وذلك لمعرفة الا...>>


بارك الله فيكم...>>

جانبك اصواب في ما قلت عن السيد أحمد البدوي .

اعلم أن اصوفية لا ينشدون الدنيا و ليس لهم فيها مطمع فلا تتبع المنكرين المنافقين من الوها...>>


تم ذكر ان المدخل الروحي ظهر في بداياته على يد شارلوت تويل عام ١٩٦٥ في امريكا
فضلا وتكرما احتاج تزويدي ب...>>


الدين في خدمة السياسة عوض ان يكون الامر العكس، السياسة في خدمة الدين...>>

يرجى التثبت في الأخطاء اللغوية وتصحيحها لكي لاينقص ذلك من قيمة المقال

مثل: نكتب: ليسوا أحرارا وليس: ليسوا أحرار
وغيرها ......>>


كبر في عيني مرشد الاخوان و صغر في عيني العسكر
اسال الله ان يهديك الى طريق الصواب
المنافقون في الدرك الاسفل من النار...>>


وقع تصميم الموقع وتطويره من قبل ف.م. سوفت تونس

المقالات التي تنشر في هذا الباب لا تعبر بالضرورة عن رأي صاحب موقع بوابتي, باستثناء تلك الممضاة من طرفه أومن طرف "بوابتي"

الكاتب المؤشر عليه بأنه من كتاب موقع بوابتي، هو كل من بعث إلينا مقاله مباشرة

سياسة الخصوصية
سياسة استعمال الكعكات / كوكيز