أهوال "مخيم الهول" والحياة العارية لأطفال ونساء تنظيم "الدولة"
حسن أبو هنية - الأردن المشاهدات: 930
أعلنت "قوات سوريا الديمقراطية" الكردية مؤخراً انتهاء المرحلة الثانية من عملية أمنية في "مخيم الهول" أطلقت عليها "حملة الإنسانية والأمن". وتجسد المفردات الرئيسية السابقة حالة فوضى الحرب على الإرهاب الدلالية والواقعية القانونية والسياسية والأخلاقية، إذ تفتقر قوات سوريا الديمقراطية إلى الشرعية، فهي لا تعدو كونها مليشيا لا تتمتع بصفة الدولة، ومخيم الهول هو معسكر اعتقال لما أطلق عليهم عوائل "داعش"، وحملة الإنسانية والأمن عارية عن أي صلة بالأنسنة والأمان، فمن يقبع في مخيم الهول من النساء والأطفال تحيطه الأهوال من كل مكان، فهو إنسان مستباح مجرد من أي حق ويعيش حياة عارية من الحقوق، فهو إرهابي بالقوة والفعل، والإرهاب منذ أحداث 11 أيلول/ سبتمبر 2001 أصبح كلمة سحرية في معجم الهيمنة الامبريالية والاستبدادية.
في هذا السياق أعلنت القوى الأمنية التابعة لقوات سوريا الديمقراطية (قسد) في مؤتمر صحفي مشترك مع قوات التحالف الدولي، في 17 أيلول/ سبتمبر، اعتقال 226 شخصاً، بينهم 36 امرأة، في مخيم الهول للاشتباه في صلتهم بخلايا داعش، وذلك خلال اليوم الأخير للعملية الأمنية ضد خلايا التنظيم التي انطلقت يوم 25 من آب/ أغسطس الماضي، في إطار المرحلة الثانية من "حملة الإنسانية والأمن".
وقال كليفد ثيودور، من القيادة المشتركة لقوات المهام الخاصة لعملية "العزم الصلب" خلال المؤتمر الصحفي: "إننا نكرر طلبنا من الدول التي لها رعايا في مخيم الهول بإعادتهم إلى بلدانهم الأصلية، وتقديم دعم مستمر في العمليات الإنسانية". وكان قائد القيادة المركزية الأمريكية الجنرال إريك كوريلا قد زار مخيم الهول في 9 أيلول/ سبتمبر، وقال إن: "علينا أن ننظر إلى هذا الأمر بتعاطف، لأنه لا يوجد حل عسكري لذلك. الحل الوحيد هو ترحيل هؤلاء الأفراد وإعادة تأهيلهم ودمجهم".
بدأت قصة مخيم الهول منذ نحو ثلاث سنوات، عندما استرجع تحالف دولي بقيادة الولايات المتحدة معظم الأراضي التي سيطر عليها تنظيم الدولة في العراق وسوريا، وسرعان ما انشغل العالم بالصراعات الجيوسياسية والأزمات الداخلية، وبات مصير الآلاف من النساء والأطفال ممن اعتبروا إرهابيين بالنسبة والولادة في طي النسيان، حيث تخلّت عنهم حكوماتهم دون أي حل وأفق، دون تمحيص أو تدقيق في طبيعة صلة هؤلاء بالإرهاب، ودون محاكمة.
يقع مخيّم الهول في محافظة الحسكة شمالي شرق سوريا، على بعد أقل من 10 كيلومترات من الحدود العراقية، ويضم أكثر من 56 ألف شخص، 94 في المئة منهم نساء وأطفال، بحسب آخر الأرقام التي أعلنتها مفوضية الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان. وقد تم بناء مخيم الهول للمرة الأولى في عام 1991 من قبل المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، وكان الهدف منه استقبال النازحين الفارين خلال حرب الخليج الأولى وتم إغلاقه بعد فترة قصيرة من انتهاء الحرب، وأعيد فتحه بهدف استقبال النازحين بعد الغزو الأمريكي للعراق عام 2003، ثم أغلق مرة أخرى في 2007. وأعادت قوات "قسد" فتح المخيم من أجل استقبال النازحين من مناطق سيطرة تنظيم الدولة عام 2016، وتوسّع المخيم بسرعة مع وصول أكثر من 63 ألف امرأة وطفل في عام 2019، بعدما اجتاحت "قوات سوريا الديمقراطية" بقيادة الأكراد بلدة الباغوز، آخر معقل للتنظيم في سوريا.
وتختلف التقديرات المرتبطة بالعدد السكاني داخل مخيم الهول ومخيم روج، لكن تشير معطيات اليونيسف إلى وجود أكثر من 60 ألف شخص فيهما، وتفوق نسبة النساء والأولاد بينهم عتبة الثمانين في المئة. في مخيّم الهول، يبلغ 50 في المئة من السكان أقل من 12 عاماً (حوالي 30 ألف طفل)، وتصل هذه النسبة إلى 55 في المئة في مخيم روج، وفق تقديرات "جمعية إنقاذ الطفولة". تستفحل مظاهر الفوضى وانعدام الأمان في المخيّمَين معاً، ويواجه الأولاد هناك مجموعة كبيرة من الأضرار، بما في ذلك العنف، والجوع، والمرض، وغياب التعليم.
تؤكد المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين على أن المحتجزين في مخيم الهول لديهم درجات متفاوتة من الانتماء إلى "داعش"، لكن ضمنهم أيضاً آلاف الأشخاص الذين ليس لهم أي ارتباط بالتنظيم، ممن توافدوا إلى المخيم هرباً من النزاع. ورغم أن الغالبية العظمى في المخيم من الأطفال إلا أن معظم التقارير الاستخبارية والصحفية تصم قاطني المخيم بالإرهاب، ولا تشغلهم سوى مداخل الأمن، إذ تكاثرت تحذيرات أجهزة استخبارات ومسؤولين سياسيين من خطورة الوضع الأمني في المخيم والخشية من إعادة إحياء "داعش" من جديد.
فقد حذرت المسؤولة البارزة في شؤون الشرق الأوسط في البنتاغون، دانا سترول، في يوليو/ تموز الماضي بالقول: "ينظر تنظيم الدولة الإسلامية إلى مرافق الاحتجاز حيث يتم إيواء مقاتليه على أنها المادة لإعادة تشكيل جيشه". وأشارت إلى أن الشباب في مخيمات الهول والروج سيكونون الجيل القادم من "داعش"، ووصفت وثيقة داخلية تابعة للاتحاد الأوروبي صدرت عام 2021، اطلعت عليها صحيفة "نيويورك تايمز"، مخيم "الهول" بأنه "دولة خلافة مصغرة".
يصف خبراء الأمم المتحدة الظروف في مخيم الهول بأنها غير بشرية، وأنه بموجب القانون الدولي قد يصل الوضع إلى عتبة التعذيب والمعاملة المهينة. والواقع أن المنظمات الإنسانية العاملة داخل المخيم تشدد على مخاطر السماح باستمرار الوضع الحالي، فقد قال مدير الطوارئ في منظمة "أطباء بلا حدود" في سوريا ويل تيرنر: "نخشى أن الاعتبارات الأمنية تعلو على الاحتياجات الإنسانية والطبية. بغض النظر عن الخلفية والجنسية والوضع القانوني وبلد النازح، يحق لكل شخص الحصول على الرعاية الصحية والمساعدة الإنسانية في الوقت المناسب". وأضاف: "لا بد من مواصلة تقديم المساعدات الإنسانية لمخيم الهول وتوسيع نطاقها، ولا بد أيضا من السماح لمنظمات المعونة بالوصول إلى كافة أنحاء المخيم بدون أي عراقيل. ويجب معاملة الأشخاص المرغمين على العيش في المخيم بطريقة عادلة وكريمة وإنسانية، مع ضمان حصولهم بدون عائق على الخدمات الإنسانية بالتماشي مع القانون الدولي الإنساني والمبادئ الإنسانية".
إن الأهوال التي يعيشها قاطني مخيم الهول تدفع إلى صناعة التوحش، فحالة البؤس لا نظير لها والأمل بالخلاص والأنسنة والعدالة مجرد بلاغة بائسة. وقد وجدت منظمة "هيومن رايتس ووتش" خلال ثلاث زيارات لها في حزيران/ يونيو 2019، إلى مخيم الهول، حيث تُحتجز نساء وأطفال أجانب، مراحيض فائضة، ومياه مجارٍ متسربة إلى الخيام الممزقة، وسكانا يشربون مياه الغسيل القذرة من خزانات تحتوي على ديدان. كان أطفال صغار لديهم طفح جلدي وأطرافهم نحيلة وبطونهم منتفخة ينبشون أكوام القمامة النتنة تحت أشعة الشمس الحارقة، أو يرقدون على أرضيات المخيم وأجسادهم غارقة في الأوساخ والذباب. وبحسب مجموعات الإغاثة ومديري المخيمات، فإن الأطفال يموتون من الإسهال الحاد والأمراض الشبيهة بالإنفلونزا.
وقالت "هيومن رايتس ووتش" في آذار/ مارس 2021 إن نحو 43 ألف أجنبي من الرجال والنساء والأطفال المرتبطين بتنظيم الدولة المعروف بـ"داعش" ما زالوا محتجزين في ظروف لا إنسانية أو مهينة من قبل السلطات الإقليمية في شمال شرق سوريا. يحدث ذلك غالبا بموافقة صريحة أو ضمنية من الدول التي يحملون جنسياتها، بعد عامين من اعتقالهم أثناء سقوط التنظيم.
بحسب صحيفة "واشنطن بوست"، فإن المخيم تحول إلى "سجن في الهواء الطلق"، لكن الحقيقة أن المخيم لا تنطبق عليه صفة السجن، وإنما وصف معسكر اعتقال، إذ لم يخضع أي من الموجودين في المخيم للمحاكمة، لأنهم ليسوا متهمين بشيء، خصوصاً الأطفال، فهم في مساحة غامضة. ففي واقع الحال "حوكموا غيابياً"، من دون أن يواجهوا تهماً أدينوا بها، وإن تمت إدانتهم فهم لا يمضون مدة الحكم في المخيم، بل هم محتجزون قسراً.
وقد صدر في كانون الأول/ ديسمبر 2020عن منظمة "حقوق وأمن الدوليّة تقرير بعنوان "غوانتانامو أوروبا: الاحتجاز غير محدد الزمن لأطفال ونساء أوروبيين في شمال شرقي سوريا". ويشير التقرير إلى أن مخيمي الهول وروج الخاضعين لسلطة "قوات سوريا الديمقراطيّة"، هما مخيمان للاعتقال مشابهان لغوانتانامو (قانونياً)، إذ يتعرض المحتجزون في المخيم لأشد أشكال المعاملة قسوة، من عنف مباشر مطبق عليهم أو بسبب شروط الاحتجاز، وهم لا يخضعون لأي قانون، لا قوانين الحرب ولا قوانين بلدهم الأصلي، نتيجة خضوعهم لجماعة مسلحة لا تمتلك اعترافاً قانونياً. وقد جُرّد الأوروبيون المحتجزون في هذه المخيمات غير الشرعية من حق التقاضي العادل وشروط الاحتجاز الإنسانيّة، ويخضعون لمعاملة يوميّة تشبه التعذيب، بسبب قرار سياسي من بلدانهم بـ"تركهم" هناك، وعدم استقبالهم وتسهيل عودتهم لمواجهة القانون في بلادهم.
إن الحياة العارية التي يعيشها الإنسان المستباح في مخيم الهول تدفع إلى ما بعد الإرهاب والتوحش، وكان الفيلسوف الإيطاليّ جورجيو أغامبين قد أطلق مصطلح "الحياة العارية" على الحياة في معسكرات الاعتقال كفضاء يكون فيه البشر خارج القانون، ورغم ذلك يخضعون لسطوته أكثر من أيّ مكان آخر، حيث تقوم السلطة السيادية للدولة الحديثة بتجريد الناس من حقوقهم بأشكال عقابيّة، تقوم على النفي واللا أنسنة، إذ يكشف معسكر الاعتقال عن أسس ممارسة السلطة في الدولة الحديثة.
وقد حذرت الأمم المتحدة في حزيران/ يونيو الماضي، من تزايد أعمال العنف داخل مخيم الهول، إذ قال منسق الأمم المتحدة في سوريا عمران رضا، إن المخيم يعاني انعدام أمن متزايداً، ويُحكم على الأطفال المحتجزين فيه بحياة بلا مستقبل. وقالت الأمم المتحدة في تقريرها إن أكثر من 100 شخص، بينهم الكثير من النساء، لقوا مصرعهم في مخيم الهول، وطلبت من الدول إعادة مواطنيها. وفي عام 2021، أفادت مجموعات إنسانية و"مكتب الأمم المتحدة لمكافحة الإرهاب"، بوفاة أكثر من 700 محتجز في الهول وروج -نصفهم على الأقل من الأطفال- منذ 2019.
كان من المفترض أن يكون مخيّم الهول مركز احتجاز مؤقت وطارئ قبل المحاكمة، لكن حالة الاستثناء أصبحت مستدامة، وهو وصمة عار في جبين الإنسانية. وقالت فيونوالا ني أولين،المقررة الأممية الخاصة بمكافحة الإرهاب وحقوق الإنسان، في مقال في مجلة "فورين أفيرز" في حزيران/ يونيو 2022 بعنوان "ضحايا "داعش" الأطفال بحاجة إلى مساعدة عاجلة": "يُعتبر مخيّما الهول وروج رمزاً لفشل العالم جماعياً في مراعاة الحاجـات الإنسانية وحقـوق الإنسان بعد سقوط "داعش". سيكون العجز عن إغلاق هذا النوع من معســكرات الاعتقال كفيلاً بزعزعة استقرار المنطقة كلها، ولا مفر من أن ينعكس هذا الوضع على أماكن أبعد منها. قد يشعر الأولاد الذين يربون في أجواء البؤس المدقع والظلم بالتهميش الاجتماعي، ما يجعلهم ضحايا مثاليين للجماعات الإرهابية التي تبحث عن مجنّدين فيها. قد ترفض الدول إعادة مواطنيها بحجّة الاحتماء من الإرهاب، لكنها تطلق بهذه الطريقة جولة جديدة من المعاناة والتهميش".
خلاصة القول أن مخيم الهول يجسد تردي الوضع الإنساني عقب أحداث 11 أيلول/ سبتمبر وتدشين سياسة حرب الإرهاب الأمريكية، التي بدأت في أفغانستان ثم العراق وامتدت إلى بلدان عديدة، حيث تم التخلي عملياً عن اتفاقية جنيف حول معاملة أسرى الحرب، وذلك عندما اعتقلت الولايات المتحدة وحلفاؤها الآلاف من الرجال والنساء والأطفال، وأغلبهم من المدنيين، وفتحت معسكرات الاعتقال في"غوانتانامو" ثم انتشرت كالفطر، وحيث أصبح التعذيب والاعتقال التعسفي لأجل غير مسمى سمة مميزة للحرب على الإرهاب، التي فقدت البوصلة وفق مقاربة استشراقية وإمبريالية تقليدية تقوم على أسس جندرية حيث صورت القوى الغربية على أنها منقذة لتلك النسوة والأطفال، مع استبقائها للرجال والصبيان بما أنهم "مقاتلون" لدى تنظيم الدولة، وذلك دون التحقيق معهم أو التثبت من أنهم كانوا كذلك.
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: