الانقلاب في تونس محاصر من قوى دولية كثيرة، ولكن سيرتكب حماقة كبيرة من يظن أن هذا الحصار ينفذ لمساعدة الديمقراطية في الداخل، بعد أن كسر الانقلاب مسار التحول الديمقراطي المتعثر إلى كارثة سياسية أفقدت البلد آخر قدراته على حماية نفسه بقوة داخلية.
من هي هذه القوى المتصارعة على تونس وهل يمكن تخيل أهدافها؟ وكيف يمكنها الاستفادة من تونس؟ أما سؤال كيف تفيد هذه القوى تونس فمؤجل إلى أجل لا يمكننا توقعه.
الحصار وعلاماته
تعود بواخر الحبوب وبواخر الوقود من المواني التونسية محملة بغذاء التونسيين وقد اكتشفت عجز الدولة عن الدفع. شحت المواد الأساسية من السوق مثل السكر وزيت الطعام والقهوة والحليب المجفف، أما الأدوية وخاصة أدوية الأمراض الخطيرة فصارت تدخل من الخارج مهربة في حقائب المسافرين. وكل مادة تشح من السوق تؤذن بإغلاق مصانع وتسريح عمال.
لا أحد يقرض تونس نقدا أجنبيا يغطي حاجتها، ليس لدينا خبر يقين عن تقلص الصادرات، فالإعلام توقف عن إثارة قضايا الفوسفات. نعرف أن السوق الليبية قد كفت أو بالأحرى منعت من التزود من المنتجات التونسية خاصة الفلاحية منها، بدعوى حماية المستهلك التونسي لكن الأسعار ارتفعت بنسق جنوني.
يجري الحديث بنسق حثيث على قرب إبرام اتفاق تمويل مع صندوق النقد الدولي، ولكن بمقابل ثقيل يربك الجميع، وهو إنهاء كل أشكال الدعم على المواد الأساسية والتعامل بحقيقة الأسعار، والتخلص بسرعة من المؤسسات العمومية الفاشلة الملتهمة للموازنة مثل شركة الطيران الوطنية.
المؤشرات تتوالى على عملية رفع الدعم، فاليوم قفز سعر الحليب إلى فوق الدينارين (أي زيادة بـ700 مليم دفعة واحدة). قبل ذلك رُفع الدعم عن الورق والسكر وزيت الطعام، ويتجه الأمر إلى رفع الدعم عن الخبز والمواد الغذائية المشتقة من الحبوب بشكل كلي قبل نهاية السنة. وبدأ الحديث يرتفع عن الخصخصة في المؤسسات العمومية مثل وكالة التبغ (المحتكر لإنتاج التبغ وتصنيعه محليا وتوزيعه).
تتظاهر النقابة بالاعتراض على ذلك لكن لا أحد يأخذ اعتراضها بجدية، فهي متواطئة مع الانقلاب وتحميه من احتمال انفجار الشارع في وجهه، لذلك ترفع طلبات الزيادة في الأجور في الوقت الذي تشاهد العجز العام في كل مجال.
يجري كل هذا تحت أنظار قوى دولية تراقب الوضع عن كثب ونظن يقينا أنها ترتب لما بعد هذه المرحلة، لكن لا نرى لها شركاء في الداخل إلا أن يكون الأمر من قبيل عمل المخابرات السري. فمن هي هذه القوى؟
أمر التونسيين ليس بأيديهم
الممسكون بقنوات التمويل الأجنبي هم الفاعل الرئيسي الذي يمكنه أن يشدد الحصار أو يخففه طبقا لأجندته لا طبقا لحاجة التونسيين، وأعني الولايات المتحدة. لكنها لست الفاعل الوحيد، ففرنسا الحاكمة الفعلية لكثير من الدول الأفريقية وفي مقدمتها تونس تصارع من أجل حفظ مكانتها ومصالحها في تونس.
نلتقط أخبارا ومؤشرات كثيرة على أن هاتين القوتين ليستا على وئام كامل بخصوص المنطقة، وهناك تحالفات فرنسية صينية تزعج الولايات المتحدة في أفريقيا وحوض المتوسط، لذلك تضع الولايات المتحدة تونس ضمن خطة أوسع للصراع على أفريقيا مع فرنسا لقطع الطرق على الصين. ويبدو دخول أفريقيا من شمالها أيسر، فقواعد حلف الناتو في جنوب إيطاليا جاهزة للحلول القصوى لكن ما زالت مرحلة السياسة ممكنة. ونظن أن تونس تصبح ذات أهمية خاصة لمثل هذا الغزو الجديد، لكن دون أجندة خاصة ذات كلفة أخلاقية من قبيل التدخل في بنما ذات يوم. لكن ما علاقة هذه المعركة الدولية بالحصار الاقتصادي لتونس؟
زاوية النظر التي تتضح بالتدريج أن هناك لوبي اقتصاديا ونقابيا وسياسيا تونسيا مرتبط كليا بفرنسا، تموله وتحميه وتستبدل ما فسد منه (ابن علي) بالأقل فسادا (حزب النداء) لكنه يشكل نخبتها العميلة، وبقاء السلطة بين يديه يخدمها ولن تفرط به.
تحويل البلد من دولة بملمح اجتماعي (في الواقع هي دولة رشاوى اجتماعية) إلى دولة ليبرالية ومهما كان الثمن؛ يعني قطع العشب تحت أقدام النخبة الفرنسية وفي مقدمتها النقابة. الأمر هنا لا يستحق تدخلا عسكريا، يكفي قطع الريع العمومي على النخبة الفرنسية الممسكة بخناق الدولة والاقتصاد لكي تنهار ماكينة فرنسا (يبدو أن هناك تجربة سابقة في رواندا آتت أكلها).
احتمالات التحرر من اللوبي الفرنسي في تونس (أو إضعافه سياسيا) تفتح الباب على احتمالات أخرى (بدون كلفة عسكرية) لا يسهل تبينها بسرعة، لكن تعد بتشكل نويات اقتصادية أخرى على مدى متوسط وبعيد؛ ينهي الاحتكارات الفرنسية ويمكن أن يدخل منه مستثمر أمريكي أو كندي أو ألماني أو تركي مُنع حتى اللحظة من الاقتراب من المنطقة ومضايقة القوة الفرنسية.
نستشعر أن هذه القوى تتربص وراء الضغط الأمريكي لتأخذ حصتها من أفريقيا وبوابتها الجديدة ذات الامتياز الجغرافي، ونقرأ توافقها السياسي حول الحالة التونسية وموافقتها على الحصار. هل لهذه القوى أصدقاء في تونس؟
سياسات الأمر المقضي
تعرف هذه القوى الكلفة الاجتماعية والسياسية لمنعرج ليبرالي بعد عقود من الريع المريح للنخب ولكثير من الطبقة المتوسطة؛ أن تعريتها اقتصاديا ترفع الكلفة على كل من يتصدى للشأن العام في الداخل، وتجعل حكم البلد مستحيلا، لكن القوى المتحكمة من الخارج لا تستشير أحدا في الداخل أو تشركه في أجندتها، وهي تتجه إلى وضع كل راغب في الفعل السياسي أمام أمر مقضي، مفاده إدارة الشأن العام يجب أن تتم بشروطنا وطبقا لأجندتنا.
هل أن الانقلاب أتى ضمن هذه الأجندة ليكمل تصفية دولة الريع؟ أسراره مكتومة بعد على من لا يملك مصادر استخباراتية، لكن نرجح أن القوى الدولية تستفيد من الفرصة (وإن لم ترتبها) لتدفع إلى تحقيق أجندتها التي تأخرت حكومات ما بعد 2011 عن تنفيذها، وعجزت أمام النقابة واللوبي المالي الفرنسي المتحكم فعلا بالبلد.
نختصر فنقول البلد الآن في سوق المزادات الدولية بلا سيادة ولا سكر ولا قهوة، يخطط الكبار مصيره ولا يعودون إلى أي من أبنائه لإشراكه في الأمر، وقريبا يُملون عليه المرحلة الموالية من تاريخيه فينفذها متكالبون على سلطة بلا برنامج. شخص الرئيس هنا غير مهم، ولا دستوره مرجع يذكر بتقدير، ولا جمهوره يستحق الاحترام، ولا معارضوه أيضا يملكون وزنا في المشهد.
هل كانت هذه أجندة الثورة؟ الأجيال القادمة ستقرأ الأسرار التي خفيت عن تحليلنا، أما جيلي فسيرحب بمحتل جديد عساه يكون أقل بذاءة من فرنسا.
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: