تعود علاقتي بفكر سيد قطب إلى سبعينيات القرن الماضي، إبان دراستي في المرحلة الثانوية، وأذكر أنني جمعت بعض المال من عملي في العطلة الصيفية واشتركت أنا وصديق لي لشراء مجلدات كتابه "في ظلال القرآن" مناصفة، حيث اقتسمنا المجلدات الستة بالتساوي، وعدت بنصيبي منهن، وأذكر أنني ووجهت باستهجان ودهشة من الأسرة وأنا أحمل ثلاثة مجلدات ضخمة، ورغم عدم الترحيب بخطوة كتلك، إلا أن الأسرة سكتت على مضض، بعد أن أسمعتني عدة تعليقات بين استنكار وغضب، ومرد ذلك أن الأسرة في ذلك الحين كان لديها أولويات أكثر إلحاحا وضرورة من شراء كتاب بهذه الضخامة!
ومنذ ذلك الحين بقيت علاقتي بهذا الكاتب علاقة محبة، وواصلت قراءة بقية كتبه، خاصة "معالم في الطريق" الكتاب الأكثر جدلا له، والذي حُمّل مسؤولية إلهامه لجماعات وتنظيمات وُصفت بما يسمونه "الإرهاب" ومنذ أيام قرأت خبرا عن إعادة نشر هذا الكتاب بطبعة جديدة مع شروحات وإيضاحات لبعض ما التبس فيه مما عد ملهما لتلك الجماعات، وتزامن هذا مع إشارة لكاتبة عربية (تنويرية!) على موقع فيسبوك، تتحدث فيها عن "سيد قطب وتأثيره الإرهابي الخطير على المجتمع العربي"!
والحقيقة أنني شعرت بصدمة واستياء شديد لربط الرجل بما يسمونه "الإرهاب" خاصة وأن هذا المصطلح تحديدا تلقته نخبنا الفكرية بغباء شديد، واعتمدته دون تمحيص ولا بحث في منشئه ومن أين أتى وكيف ولماذا صنع في مختبرات نحت المصطلحات التابعة لأجهزة الاستخبارات الدولية وتم تصديره لكل العالم، وتمت ترجمته بتشريعات حمل معظمها معنى "محاربة الإرهاب" وهنا لا بد من وقفة أمام هذا المصطلح الخطير، الذي لوّن حياتنا بألوانه القاتمة، وصار ذريعة لقمع الناس وإخراجهم عن القانون وتكميم أفواههم، بل ربما إباحة قتلهم، كما حصل مع صاحبنا سيد قطب!
"الإرهاب" بالمفهوم الذي يتحدثون عنه ليس ظاهرة عربية ابتداء، وبالضرورة ليس إسلاميا، بل إن التاريخ البشري في معظمه قائم على سفك الدماء، والحروب، سواء كانت بين أبناء الشعب الواحد (الحروب الأهلية) أو بين شعب وشعب آخر، الإرهاب كمصطلح جديد تمت صناعته في مختبرات الاستعمار الجديد، لشيطنة المقاومة، أو أي نشاط مسلح لا يتفق ومصالح الدول الكبرى، وجرى تجريمه وفق القانون الدولي، الذي وضعه المنتصرون بعد الحرب العالمية الثانية، لديمومة سيطرتهم على العالم، الإرهاب في كنهه هو سلاح فعال لأي مجموعة مقاومة ضعيفة، وبسبب فاعليته شكل تهديدا مباشرا لدول تمارس الإرهاب الرسمي، لكنه لا يصنف تحت بند الإرهاب!
الإرهاب في العصر الحديث في منطقتنا تحديدا صناعة إسرائيلية، مارسته عصابات القتل الصهيونية ضد قوات الانتداب في فلسطين، وضد أهل الأرض من الفلسطينيين، سواء كان على شكل قنابل تستهدف قتل الأبرياء تزرع في الأسواق أو المنشآت العامة، أو على شكل مجازر قتل أعمى لتحقيق أهداف معينة، لتهجير الفلسطينيين من أراضيهم، المقاومة الفلسطينية لم تلجأ للعنف المسلح إلا بعد أن احتلت الأرض واستبيحت، وبعد أن استقوت عليها قوات عسكرية لها اسم جيش مارست الإرهاب المنظم ولم تزل، عبر ما يسمى "جيش الدفاع الإسرائيلي"، ولم يصمها أحد بهذه الصفة ممن يسارع إلى وصف المقاومة المشروعة بالإرهاب، ومارسته فيما بعد قوات الاحتلال الأمريكي في أفغانستان والعراق، وفي غيرهما، وكان ما سمي فيما بعد الإرهاب العربي أو الإسلامي أو ظاهرة الجهاديين وهو رد فعل على إرهاب الدول الباغية، علما بأن حل المنازعات حسبما تنص عليه القوانين الدولية التي وضعها المنتصرون أنفسهم يجب أن يتم بالحوار(!).
ويبدو أن هذا النص ينطبق على المستضعفين في الأرض، حيث يمارس الأقوياء "إرهابهم" بكل أريحية ضد الشعوب المستضعفة والدول "المارقة!" مع أن القتل يجر قتلا، والإرهاب يجر إرهابا، والحل الأمثل لظاهرة الإرهاب (بمفهومهم)، هو إشاعة العدل ورفع الظلم، والتوقف عن استغلال خيرات الشعوب، ونشر العدالة الاجتماعية، وتوزيع الثروة على أبناء الأمة، وبغير هذا، فالظلم هو البيئة الحاضنة للعنف والإرهاب.
الإرهاب، صناعة إسرائيلية المنشأ، أمريكية التمويل، براءة اختراع القتل الأعمى هي للصهاينة والأمريكان أولا، ومن سار على خطاهم، في البوسنة والهرسك وكشمير، وتركستان الشرقية، وبورما، والهند، وغيرها، قبل أن ندين الإرهاب على إطلاقه، وقبل أن نسم به مفكرا عملاقا كسيد قطب، علينا أن نسأل من أين جاءت هذه الجرثومة الخبيثة، ومن يربيها ويكاثرها في الدفيئات السرية، ومختبرات الموت، ويرويها بنسغ الحياة المستخلص من دم أطفال العرب والمسلمين والمستضعفين في الأرض، ندين القتل الأعمى ويقشعر بدننا لرؤية القتلى أشلاء، ولكن لنسأل أولا من صاحب اختراع هذا النمط من السلوك الهمجي المجرم؟
الإرهاب، بمفهومنا نحن لا بمفهومهم، آفة عصرنا الحديث، وخرافة القرن ومشجبه الأثير، وكذبتهم الفضلى والكبرى، فبسببه حمل عالمنا الكثير من الآثام والجرائم، وسالت بسببه وتحت عباءته أنهار من الدماء، وخُربت بيوت، وذُبح أبرياء، وهُدمت كنائس وبِيَع ومساجد وكُنُس، على رؤوس عُباد لا لهم ولا عليهم، وبسببه استهدف الإسلام والمسلمين، وأصبح رأسه مطلوبا، وجرت مطاردته في ديار الإسلام قبل ديار الكفر!
بذريعة محاربة الإرهاب، مثلا، أبيد العمل الخيري أو كاد، على اعتبار أن إعانة الأرامل واليتامى جزء من تكوين البيئة الحاضنة له، أو بزعم أن المسح على جراح المساكين، هو عنوان كاذب لتمويل الإرهاب، وبسببه تشيطنت المقاومة المشروعة، وصار تحويل مبلغ من أخ لأخيه، أو من موسر لفقير، مدعاة للمساءلة والتحقيق! وبسببه لوحق حفاظ القرآن الكريم، وغيرت المناهج في بلادنا وتم العبث بها، بل تسللت إلى بعضها مفاهيم مخيفة تشرع للمثلية، وتحول كيان الاحتلال إلى "دولة" ديمقراطية لها حق الحياة!
إن من دفع ثمن مقاومة الإرهاب، هم ضحايا الإرهاب تحديدا، من البسطاء والأبرياء ومن لا يعلمون فيم يموتون، ولا كيف، ولا لماذا؛ لأن من يصنع الإرهاب، ويموله، ويدرب ويبرمج أبطاله شياطين تحت الأرض، يعملون من وراء ستار، وتحميهم القوانين، والدول والأجهزة النافذة، ولا يهم من يموت جراءه، في اسطنبول أو القاهرة أو بيروت أو حتى لندن، أو نيويورك، أو عمان، فقد غدا إنتاج هذا المنتج صناعة معقدة، يدخل في تكوينها ما نعلم وما لا نعلم من عناصر وقوى ومصالح ومعادلات، ويبقى المجرم الحقيقي في مأمن، ويموت المنتحرون الأغبياء كما يموت ضحاياهم، فرق حساب بين قوى متصارعة وأجهزة عملاقة، شأنها شأن الفيلة الضخمة إذ تتصارع، فلا تشعر بمن وبما تسحق من عشب ومخلوقات تحت أقدامها!
قبل أن نحمل مناجلنا وفؤوسنا للضرب على رؤوس "الإرهابيين" الصغار إن وجدوا أصلا، علينا أن ننتبه للإرهابيين الكبار، من صناع وممولي ومروجي الموت، من دول كبرى وأجهزة قمع وإعلام، عمياء سفيهة، متخصصة بالخراب، وتشويه الذائقة الجمعية، وتزييف الوعي، وإشاعة القبح والضلال، وتبرير العسف والعنف والقهر والاستبداد والاحتلال، وتزيين الظلم، وتسويق الغباء باعتباره بضاعة صالحة للاستهلاك البشري!
نختم بمقولتين، الأولى للإرهابي نتنياهو حين قال يوما بين يدي ثورات الربيع العربي: حزام الرعب الإسلامي في البحر الأبيض المتوسط، ليبيا تونس مصر وغدا سوريا أخطر من النووي الإيراني على إسرائيل وحلفائها!! (فيما بعد بعد أن سحقت زهرات الربيع وبراعمه، تحدث عن خطر إيران، والتحالف مع العالم السني لمواجهتها!).
والثانية لسيد قطب المتهم بالإرهاب، وهو الذي وقع عليه الإرهاب أصلا، وهل بعد القتل والإعدام من إرهاب؟ إذ يقول: إنهم يريدون إسلاما أمريكانيا، إسلاما يُستفتى في نواقض الوضوء، ولكنه لا يُستفتى في نواقض الإسلام!
فمن منهما الإرهابي حقا؟
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: