الخميرة الثورية الخطابية شكلا ومضمونا، والتي التي تهيأت عبر تاريخ طويل قبل الربيع العربي، لم تسمح بتبين الخطوط الفاصلة بين صدق الخطاب ونفاقه. لقد كان إعلان المعارضة للأنظمة القائمة غطاء كثيفا سمح لكثيرين بتخير مواقع في الصفوف الأولى للخطاب الثوري، فكأنهم الثوريون الوحيدون. وكانت قضية فلسطين على سبيل المثال مجالا للمزايدة الثورية لم نتبين صدقها إلا بعد الربيع العربي، حيث كان الطلاب في الجامعات العربية يحددون سقوفا عالية ويوهمون بأن التحرر والاشتراكية والوحدة ستشرق في صباح الغد، وأن البروليتاريا ستقود بلدانها في نهاية الأسبوع وتبني دولها العادلة ضد رأس المال العميل التابع.
فقر ديمقراطي فاضح
فرصة الربيع العربي التي فتحت باب الديمقراطية التمثيلية -على ما فيها من خديعة سبق لنا الحديث فيها- مكنت من تمحيص أمور مهمة، وهي فقر الخطاب الثوري لكل فصائل المعارضة إلى مضامين قابلة للتطبيق، وعجز مطلق على التعايش داخل شروط الديمقراطية وبوسائلها، وكانت قاعدة الفرز الأهم هي مع الإسلاميين أو ضدهم، حيث تبين أن ممارسات الإقصاء التي كانت تهيمن على الخطاب الطلابي لعقود طويلة ما هي إلا عيّنة لعقل إقصائي كان يتدرب في الجامعة ليواصل ممارسة السياسية الثورجية خارجها، وتبين -وهو الأهم- أن هذا العقل الإقصائي صنعته المنظومات الحاكمة ووجهته وحكمت به حتى بعد الربيع العربي.
هذا الاختبار التاريخي كشف لنا الكثير من المسائل أهمها:
- نفاق اليسار العربي -والقوميون زائدة دودية منه- وعداؤه الجذري للديمقراطية بصفتها بيئة تعايش مع المختلف، كما فضح خدمتهم لكل سلطة قائمة بلا مقابل مادي حقيقي إلا السير في ركاب الأنظمة.
- ترسخ الحديث الواقعي عن الإسلاميين ومع الإسلاميين وضدهم، فهم معطى واقعي لا يمكن تجاهله أو تصفيته بقرار سياسي أو أمني أو بتوجيهات/ نصائح خارجية مملاة، كما جرت الأمور قبل الربيع العربي.
اليسار العربي عدو للديمقراطية
كل فصائل اليسار العربي تعرت بالديمقراطية، في تونس وفي مصر خاصة (كما تعرت في عشرية الجزائر الدموية). لم ترفض الديمقراطية التمثيلية من حيث المبدأ، بل طمعت في غنيمتها وشاركت في كل الانتخابات لكنها كانت تتعرض إلى فشل ماحق. وعوض الخضوع لشروط الصندوق والاستعداد له، نكصت على أعقابها ورفعت درجة الخطاب الثوري الموجه إلى خصمها الأبدي وأعادت إنتاج ممارستاها الإقصائية المعتادة، وقد سميناها أحزاب الأجندة الواحدة أي الأجندة الاستئصالية.
ليس لهذه الأحزاب وزن في الصندوق، أي ليس لها حضور في الشوارع وليس لها خطاب يقبله الناس ولا زعامات يرحب بها في الاجتماعات السياسية، وإنما هي فرق صغيرة عاشت في مكاتب نخبوية تروج لخطاب ثوري لا علاقة له بحاجة الناس، لذلك تعرت وانكشف فقرها وخواؤها. في مسار التعري انكشف الموقع الحقيقي لهذه الأحزاب، إنها يد المنظومات تضرب بها خصمها الأشد شراسة والأثقل وزنا، أي الإسلاميين، وما خطاب المعارضة الثوري إلا مزايدة يقبض ثمنها تحت طاولات التفاوض في الكواليس. لقد تبين لنا أن مواقع كثيرة ذات فعالية في الثقافة والتربية مملوكة حصرا لليسار لا يمكن المساس بها أو الاقتراب منها، إنها ليست مواقع للثورات الكبيرة ولكنها مواقع للتأثير الفكري والثقافي الذي روج لخطاب الحداثة من داخل مؤسسات سلطة غير حداثية، واليسار لا يشعر بهذا التناقض وإنما يواصل قطف غنيمته.
الإسلاميون معطى ثابت رغم ممارسات الإقصاء اليسارية
عقود طويلة عاشتها الدول العربية كان أهم حدث فيها تصفية الأحزاب والجمعيات الإسلامية، بدءا من الإخوان المسلمين في مصر وسوريا وليبيا، إلى إخوة لهم بمسميات مختلفة في تونس والجزائر والمغرب، كأن المهمة الوحيدة للأنظمة العربية كانت منع الإسلاميين من الوجود. لكن رغم كل الحروب لم يمت الإسلاميون ولم يندثروا، تعرضوا إلى هزات وعذابات لكن الربيع العربي أعطاهم جرعة الأكسجين الضرورية ليعودوا فصيلا أولا.
هذه القدرة على البقاء فهمها البعض وسلم بها وتعامل معها على أنها معطي واقعي لم يعد قابلا للإلغاء، وهناك من يبني علاقات سياسية ديمقراطية معهم، بحذر ولكن بروح غير إقصائية.
هذا المعطى الواقعي في طريق تبدو شائكة بعد، لكنها مفتوحة لفرض نفسه محاورا مع الغرب. لقد كان الغرب هو المستفيد الأول من جهد الأنظمة العربية في تصفية الإسلاميين (دون أدنى مساس باليسار والقومين على مدى عقود، وخاصة في بلدان المغرب العربي، حيث ناصبتهم فرنسا العداء بشكل مفضوح وحرضت عليهم بكل الوسائل والحيل.
لقد استقر الأمر على أن الإسلاميين غير قابلين للإلغاء مهما نُفوا وسُجنوا وعُذبوا، ونعتقد أنهم يتحولون إلى محاور رئيسي في حالات الانسداد السياسي التي وصلت إليها الردة على الربيع العربي في مصر وتونس خاصة. وتقدم حالة الصلح الأمريكي مع طالبان الأفغانية نموذجا قابلا للتعميم على المدى المتوسط في المنطقة العربية، رغم أن الإسلاميين العرب غير مسلحين ويفتقدون إلى المضاء الطالباني.
عندما وزن الربيع العربي قوة التيارات السياسية رجح الإسلاميون، وأثبتوا قدرة على التعاطي مع المختلف والصبر على أحكام الصندوق الانتخابي، وتبينت استعداداتهم لبناء الشراكات السياسية التي هي أساس الديمقراطية، بينما سقط اليسار والقوميون في الاختبار الديمقراطي وعادوا لمواقعهم في ركاب المنظومات؛ يطمعون في فيئها ويأكلون فضلة طعامها بمقابل نراه رخيصا.
الفرز سيتواصل
بعد الانقلاب المصري والخديعة التونسية بدا المشهد العربي حزينا، وفقد الكثيرون الأمل وتحدثوا عن ردة تدوم عقودا قبل الاستئناف في مستقبل بعيد. ولا نملك بعد الخيبات الكثيرة القدرة على بناء توقعات متينة، ولكن حتى اللحظة محّصْنا خطاب المعارضات اليسارية والقومية القديمة ونفضنا أيدينا منها، وهي تتحول عندنا إلى نكت لا تضحك، فعندما نسمع يساريا يتحدث عن الديمقراطية نغير القناة.
في لحظة القتامة الراهنة عرفنا من يمكن الاعتماد عليهم في بناء الديمقراطية، وعرفنا من ينافقنا منذ عقود، وهذا سيتواصل بنسق حثيث. ولأن المنظومات التي ارتدت مقبلة على أزمات اقتصادية واجتماعية لا يمكن تلافي أثمانها، فإننا نعول على قرب انهيارها لتحمل معها أذرعها اليسارية والقومية الضاربة لتتم غربلة فعالية ونهائية للشارع العرب الديمقراطي، وهذا أمل أخير وثابت.
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: