احتفلت حركة طالبان بمرور عام على عودة حكم "الإمارة الإسلامية" لأفغانستان بعد أكثر من نحو عقدين على الاحتلال الأمريكي تحت ذريعة حرب الإرهاب، ورغم العبارات المنمقة التي تصف الهزيمة المذلة للولايات المتحدة بالانسحاب، فثمة إجماع على كارثية وفوضوية طريقة الانسحاب، حيث استولت طالبان على السلطة في أفغانستان في 15 آب/ أغسطس 2021 بسهولة بالغة، رغم أن الرئيس الأمريكي جو بايدن كان قد أكد للجميع أن طالبان لن تستولي على كابول؛ وأنها لن تتمكن من السيطرة على أفغانستان، وأنه ستكون هناك حكومة مصالحة وطنية.
فقبل شهر من الانسحاب كان بايدن قد أعلن بثقة أن "احتمال أن تسيطر طالبان بشكل كامل على البلاد وتحكمها غير مرجح إلى حد كبير. لقد زودنا شركاءنا الأفغان بجميع الوسائل، اسمحوا لي أن أؤكد: جميع الوسائل والتدريب ومعدات أي جيش حديث موجودة". ولم تكن تصريحات بايدن بعيدة عن التقديرات الاستخبارية الأمريكية، إذ كان من المفترض حسب التقديرات الأمريكية أن يتولى النظام الأفغاني وجيشه وشرطته إدارة البلاد إثر انسحاب الولايات المتحدة، لكن ذلك لم يكن سوى أضغاث أحلام، فالنظام الذي لم يكن أكثر من دمية انهار واختفى، والجيش الأفغاني الذي تم تدريبه وتسليحه على يد الجيش الأمريكي، ويتكون من نحو 300 ألف جندي، سرعان ما تلاشى.
يصعب على الغطرسة الأمريكية الاعتراف بالهزيمة في أفغانستان على يد قوة محلية محدودة القدرات، ويصعب الاعتراف بالفشل الذريع في "بناء الأمم"، رغم أن الولايات المتحدة في كافة تدخلاتها أثبتت قدرة فائقة على التدمير والتخريب، فإنها لا تزال في حالة إنكار دون أي اعتبار. فالانتقادات التي وجهت لإدارة بايدن لا تعدو عن كونها استثمارات سياسية ترتكز على طريقة الانسحاب دون أن تمس طبيعة وجوهر الغزو الأمريكي وأهدافه الأيديولوجية والاستراتيجية، وتبتعد عن نقد منظومة الهيمنة والتفرد والأحادية.
لكن الانسحاب من أفغانستان كشف عن تراجع قوة واشنطن الصلبة والناعمة، فعندما غزت حكومة جورج دبليو بوش مع حلفائها في حلف شمال الأطلسي (الناتو) أفغانستان في عام 2001، بذريعة الانتقام من تنظيم "القاعدة" والقضاء على الجهادية العالمية وحرمانها من الملاذات الآمنة بعد أحداث 11 أيلول/ سبتمبر، لم تتمكن الحملة من تحقيق أهدافها، حيث عادت الأمور إلى ما كانت عليه قبل الغزو وبزخم أكبر، ولم تسفر حرب العبرة سوى عن تدمير جميع الهياكل السياسية والاقتصادية والاجتماعية لأفغانستان دون أن تحقق الحملة إنجازا يذكر.
وبعد مرور عام على الهزيمة الأمريكية في أفغانستان أعلن الرئيس الأمريكي جو بايدن عن قتل زعيم تنظيم القاعدة أيمن الظواهري في كابول، للبرهنة على صواب قرار الانسحاب وعدم الحاجة إلى قوات على الأرض والاكتفاء بالاستراتيجية عبر الأفق. لكن ذلك يبرهن على نقيض دعاءات بايدن، فالقاعدة وبقية الحركات الجهادية العالمية عادت إلى العمل في ملاذات آمنة في أفغانستان.
لا تزال الولايات المتحدة الأمريكية لم تستخلص العبر من غزو أفغانستان وغيرها من الدول، حيث قتل أكثر من 2300 جندي أمريكي وجُرح أكثر من 20 ألفاً آخرين، إلى جانب مقتل أكثر من 450 بريطانياً والمئات من الجنسيات الأخرى، لكن التدمير الأمريكي كان فعالاً ضد الشعب الأفغاني الذي تحمل العبء الأكبر من الخسائر، حيث تشير بعض التقارير إلى أن أكثر من 60 ألفا من أفراد القوات المسلحة الأفغانية قتلوا في الحرب، وتشير التقارير إلى مقتل ما بين 170 ألف وربع مليون أفغاني، وإصابة مئات الآلاف، وتشريد الملايين.
تتحدث الولايات المتحدة عن المكاسب التي حصل عليها الشعب الأفغاني نتيجة الغزو الأمريكي في مجال الديمقراطية وحقوق الإنسان، وخصوصاً المرأة وحرية الإعلام، وهي إنجازات لم تشعر بها سوى حفنة فاسدة من السياسيين الأفغان. إذ ورثت حركة طالبان بلداً هو الأكثر فساداً وفقراً، إذ يعيش أكثر من نصف سكان البلد تحت خط الفقر، ويعاني ما يقرب من 23 مليون شخص من انعدام الأمن الغذائي، في حين يعاني أكثر من مليوني طفل من سوء التغذية. وكان أكثر من ثلثي ميزانية الإدارة الأفغانية السابقة يأتي من الخارج، وقد توقفت جميع المساعدات العام الماضي، ثم غادرت معظم المنظمات والمؤسسات الدولية البلاد، وحرم البنك الدولي وصندوق النقد الدولي والاحتياطي الفيدرالي الأمريكي وصول أفغانستان إلى التمويلات الدولية، وجمّدت واشنطن أيضاً نحو تسعة مليارات دولار من الاحتياطيات الأجنبية الأفغانية.
في ظل الحصار الأمريكي والعقوبات الأمريكية على أفغانستان في ظل حكم طالبان لا يمكن أن نتوقع تغيراً ملموساً على الصعيد الاقتصادي، لكن واشنطن تقر بتحسن الحالة الأمنية رغم وجود بعض الانتكاسات، إذ لا يمكن مقارنة الوضع الحالي بتدهور الأمن والاستقرار في ظل الاحتلال الأمريكي. وإذا أصرت واشنطن على سياستها العقابية نحو حكم طالبان فإن الحركة ستتجه نحو التشدد في مجال حكم الشريعة، فبالنسبة إلى الأفغان العاديين، وبخاصة النساء، فإن عودة "طالبان" لم تؤد سوى إلى زيادة الصعوبات، فالحركة ترفض الانصياع للمطالب الأمريكية وتشدد على أنها تحترم حقوق جميع الأفغان في إطار تفسيرها للشريعة الإسلامية.
ومن الواضح أن الأزمة الاقتصادية في أفغانستان ترتبط بـ"أزمة الشرعية والاعتراف الدولي بالحكومة"، التي تصر واشنطن على عدم منحها لحكومة طالبان.
تعتبر أزمة الشرعية والاعتراف الدولي بحكومة طالبان الذي تفرضه الولايات المتحدة الأمريكية أحد أهم الأسباب التي تحول دون تقدم أفغانستان. وتبدو واشنطن غير راغية باستقرار البلد الذي ساهمت بالقسط الكبر في تدميره، إذ تصر الولايات المتحدة على التركيز على مسألة الديمقراطية والحرية وملفات حقوق الإنسان والمرأة، في الوقت الذي تتجاهل تلك القضايا في التعامل مع حلفائها في العالم الثالث، بل إنها تدعم الأنظمة الديكتاتورية تحت ذريعة الاستقرار.
ومن الجلي أن واشنطن تعمل على إشاعة حالة من الفوضى في أفغانستان لخلق مشاكل جيوسياسية لخصومها في المنطقة، كالصين وروسيا وإيران وغيرها من دول المنطقة، وهو ما تدركه هذه الدول التي سعت إلى إقامة علاقات مع حكومة طالبان.
رغم عدم اعتراف واشنطن وحلفاؤها الأوروبيون وكافة دول العالم بحكومة طالبان، فإن حركة طالبان في حالة أفضل مما كانت عليه إبان حكمها أفغانستان للمرة الأولى في الفترة 1996-2001، عندما اعترفت آنذاك بـ"إمارتها الإسلامية" باكستان والسعودية والإمارات. إذ تبدو طالبان اليوم أقل عزلة مما كانت عليه من قبل، وتتنامى المطالبات بالاعتراف بحكومة طالبان، فخلال الأشهر القليلة الماضية دعا وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو إلى الاعتراف الدولي بالإمارة الإسلامية، وطالب وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف بمنح حكومة طالبان مقعداً في الأمم المتحدة، وهو ما تدعمه الصين، التي اجتمعت بمسؤولي "طالبان" أكثر من مرة وأدمجت أفغانستان في "مبادرة الحزام والطريق".
قد أعادت 16 دولة فتح سفاراتها في كابل منذ سيطرة حركة "طالبان" على السلطة، وهي: الصين، و"الاتحاد الأوروبي"، والهند، وإندونيسيا، وإيران، واليابان، وكازاخستان، وقيرغيزستان، والنرويج، وباكستان، وقطر، والسعودية، وتركيا، وتركمانستان، والإمارات، وأوزبكستان، وألمحت دول أخرى مثل ألمانيا وماليزيا إلى إعادة فتح سفاراتها قريباً. وعلى الجهة المقابلة، أعادت حركة "طالبان" إنشاء سفارات أفغانية في ثماني دول، هي: الصين وباكستان وقطر والسعودية وتركيا وتركمانستان والإمارات وأوزبكستان. وتشير هذه الوقائع إلى أن حركة طالبان أقل عزلة مما كانت عليه إبان فترة حكمها الأول.
خلاصة القول أن حركة طالبان تجد نفسها اليوم في وضعية أفضل مما كانت عليه إبان فترة حكمها الأولى، فهي أقل عزلة دولياً رغم الإصرار الأمريكي على عدم الاعتراف السياسي بحكمها وحصارها من خلال العقوبات الاقتصادية، بذريعة غياب الديمقراطية وعدم التزامها بحقوق الإنسان وحقوق النساء، وهي ذرائع تستخدمها واشنطن لفرض الهيمنة على من يخالف سياساتها، فسجل الولايات المتحدة بدعم الأنظمة الاستبدادية الحليفة موثقة بصورة لافتة، ولا يعدو الحديث عن ملفات الحقوق والحريات وبوادر الانهيار الاقتصادي في أفغانستان عن كونه تغطية على الفشل الأمريكي الذريع والهزيمة في أفغانستان، إذ لم يكن الوضع في أفغانستان خلال أكثر من عقدين من الاحتلال الأمريكي أحسن حالاً، بل إن الوضع الأمني تحسن بصورة واضحة لا سبيل لإنكارها، وإذا أصرت واشنطن على سياستها تجاه حكم طالبان فإنها ستحصد نتاج ذلك مستقبلاً، حيث ستتعمق كراهية طالبان لأمريكا وسيظهر ذلك من خلال دعم الجهادية العالمية، وبذلك فإن سياسة واشنطن الهادفة إلى نشر الفوضى في المنطقة سترتد عليها أكثر من خصومها ومنافسيها.
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: