دروس في علم الأصوات العربية / ترجمة : صالح القرمادي (*)
د - المنجي الكعبي - تونس
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 2108
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
قصة المقال
طلب مني صديق في العام الماضي يعتني بإخراج الأعمال الكاملة للأديب محمد العروسي المطوي إن كان لدي ما أكتبه عن المرحوم ليدرجه فيما يجمعه من شهادات معاصريه، خاصة لمعرفتي بالرجل زميلا في مجلس الامة وقبل ذلك طالبا في بغداد حين كان هو سفيرا في العراق
فكتبت له ما حضرني وقتها ولكن بقي في خاطري ما كان يجب علي أن أذكره من صلتي به في فترة تالية وهو مشرف على الملحق الثقافي بجريدة العمل إثر عودتي من تخرجي بالماجستير من جامعة القاهرة سنة ١٩٦٦ وحصولي بتونس وسحب جواز سفري لمنعي من الالتحاق بالسربون للدراسات العليا .
فقد صادفته في الطريق بشارع باب منارة قرب المكتبة الشرقية مع ثلة من الأصدقاء الأدباء فحمد الصدفة ليعرض عليّ كتابة مقال لنشره في العدد القادم بالجريدة فوعدته بعدم التأخر عند أول مناسبة تعرض فبادرني بكتاب كان تسلمه لتوه لتقديمه بالجريدة وقال لي: ألست الأولى به وأنت صاحب اختصاص في اللغة وحديث التخرج وهو ترجمة من الفرنسية لأستاذ ربما تعرفه وسماه لي فقلت له هو استاذي في اللغة الانقليزية في المرحلة الثانية ثانوي بمعهد ابن رشد للتعليم العصري الزيتوني. وكان يعيرنا بزيتونيتنا وتخلفنا وانحطاطنا وهو يدخّن غليونه في القسم ويتباهى بسربونيته حتى ليثير بعضنا للرد عليه وتحديه.
فكتبت المقال الذي أعرضه هنا على قرائي الأعزاء وهو المقال الذي عرفني به الوسط الثقافي والعلمي في تونس قبل انتقالي الى باريس للدكتوراه.
ويعلم الله كيف حمل عليّ رجالات الجامعة التونسية من كلية الآداب بسببه ومناصبتي العداء من أجله الى حد ملاحقتي الى باريس والتدخل لدى المشرف شارل بيلا قبل شهور من تاريخ المناقشة لكي يلغيها أو يؤجلها حتى يسوي الطالب وضعيته مع جامعة بلاده.
والقصة معروفة، وفي أذني دائماً ما قاله البروفسور بيلا للحمزاوي مخسئاً وهو الذي جاءه مبتعثا بمهمة رسمية للغرض وفقا للعلاقات الثقافية بين تونس وفرنسا، قال له بعد أن أخبرني خبره لطمأنتي وتشجيعي: ومتى كانت الجامعة التونسية تشرف على جامعة باريس السوربون!
ومقالاتي بعد عودتي منتصراً بالدكتوراه بمرتبة الشرف العليا من السربون، وأنا في سني الأصغر وتكويني الأصلي المتميز، ربما فسروها بمثابة رد فعل على مواقفهم مني أكثر منه علم ونقد.
وأذكر بالمناسبة أنني بعد نشر هذا المقال بشهور وحصولي بباريس رغم العراقيل التقيت صدفة على الأكل في المطعم الجامعي بأحد تلاميذ الاستاذ القرمادي، الطيب البكوش، ولم أكن اعرفه ولا يعرفني حتى قدمنا لبعضنا صديق مشترك فبهت ولم يتمالك القول: أنت المنجي الكعبي الذي كتب المقال على القرمادي في العمل .. تصورتك كبير السن في تعليقي على المقال عند عرضي للكتاب، فقلت واين نشرته؟ قال: في المجلة التونسية للعلوم الاجتماعية، فلا تأخذ في خاطرك مني لبعض العبارات فهو أستاذي وطلب مني أن أقسو ما أمكن. فتبسمت وسقط من عيني تسعة أعشار منه وبقي عشر الاحترام له دون أن أقبل عذره، وفي قلبي رثيت للعلاقة بين التلمذية والأستاذية في جامعتنا التونسية إذا كانت على هذه الصفة من التجرد لغير العلم.
*************
[ كتاب: دروس في علم الأصوات العربية
تأليف: جان كانتينو
ترجمة : صالح القرمادي
نشر : مركز الدراسات التابع للجامعة التونسية سنة ١٩٦٦]
بقلم المنجي الكعبي
يجب أن أبادر الى القول في مفتتح هذه الكلمة أنه لم يحملني على كتابتها إلا حرصي على تسجيل ترحيبي بقيام الاستاذ صالح القرمادي بترجمة كتاب «دروس في علم الأصوات العربية» للمستشرق جان كانتينو. وهذا الترحيب يرجع الى اهتمامي الكبير بتنشيط حركة الترجمة في بلادنا وخاصة عن اللغة الفرنسية .
فالمعروف أن معظم إخواننا في المشرق - رغم أنهم أقل حظا منا بصفة عامة في هذه اللغة - نراهم سباقين في هذا الميدان ويجشمون أنفسهم مشقة التعريب منها بكثرة وغزارة، ويحسنون في أغلب الأحيان النقل عنها والاستفادة منها واستيعاب ما فيها بصورة مدهشة، في حين نرى المتضلعين في اللغة الفرنسية في بلادنا - إلا نفرا قليلا - لا يكلفون أنفسهم حتى ترجمة ما يمكن ترجمته بسهولة من الكتب التي تكون في صميم اختصاصاتهم. وقد يكون هذا من أسباب ضعف حركة الطباعة والنشر في بلادنا، لكن كان عليهم وعلى المؤلفين عموما أن يحيوها بجهادهم وتضحياتهم، ولن تدور عجلة الطباعة وتنفق سوق النشر إلا بذلك.
ومما يسر أننا نحس في السنوات الأخيرة نشاطا عظيما في ميادين التأليف والترجمة والتحقيق والطباعة والنشر وما الى ذلك، نشاطا لا عهد لتونس به. ومن الواجب علينا أن نباركه ونشجعه بالإقبال عليه قراءة ودرسا ونقدا وتمحيصا.
لم أرد أن تكون كلمتي هنا، عن ترجمة هذا الكتاب، من باب الدعاية له وإسداء المدح والتقريظ الجزاف لصاحبه، فهذان الأمران قد لا يحفل بهما المترجم كثيرا، وإن كان الكتاب المعرب في حد ذاته جدير بالدعاية له، والمترجم المحترم حقيق بأوفر التقدير وأجمل الثناء. لم أرد ذلك، وإنما أردت أن أجيب الأستاذ القرمادي الى رغبته في أن يقابل مجهوده بنقد توجيهي، يجلو محاسن عمله ومساويه.
وقد خشيت، وأنا أهم بكتابة هذه الكلمة أن يفسد عليّ عاملان: أحدهما الحساسية النقدية السلبية عند بعض مثقفينا، أقصد تبرمهم من النقد البناء، وهذا العامل وإن كان سببا خمولا عند النقاد عموما، فإنه سبب وما زال يسبب ما هو أعظم من ذلك، وهو فقر في الانتاج الفكري والفني عند القادرين عليه، والعامل الثاني، الذي خشيت منه، هو احتمال أن يغطي إعحابي بالاعتناء الفائق الذي أظهره الأستاذ القرمادي في الترجمة، على ما يمكن أن يكون فيها من المآخذ، وخاصة تلك المآخذ التي لا ينبغي على ناقد إغفالها أو فوت الانتباه إليها والتنبيه عليها. ثم اطمأننت أخيرا الى أن شعوري بهذين العاملين كفيل على الأقل بأن يجعلني أتحاشـى تأثيرهما قدر الاستطاعة.
لقد كنت أود أن أقرأ الترجمة أكثر من مرة، وأقارنها مع الأصل في بعض المواضيع واتصل ببعض المصادر في الموضوع، لأكون أقرب الى الدقة فيما أقول، لكنني عدمت الوقت الكافي لذلك، فأرجو أن لا أكون مجانبا للصواب فيما كونته من ملاحظات عن أسلوب المترجم ومدى اعتنائه باستحضار أدوات الترجمة، و مبلغ تحريه للدقة في نقل المصطلحات، وقيمة جهوده الشخصية في تقديم الكتاب المترجم للقارئ العربي بحيث ييسر له الاستفادة المرجوة.
وأقول أولا إنه ليس لي رأي في حسن اختيار الاستاذ القرمادي لترجمة هذا الكتاب بالذات، من بين كتب المستشرقين في الأصوات اللغوية، وظني أن اختياره موفق على كل حال، لما يعرف عنه من تخصص في فقه اللغة وتدريس له بالجامعة التونسية لكن كان ينبغي عليه وقد عرف أن كتاب كانتينو هذا وكتاب «هنري فلاش» في فقه اللغة العربية من المراجع التي لا غنى عنها في ميدان علم الأصوات (ص٧) أن يعرف أيضا أن للمؤلف الأخير كتابا آخر هاما في هذا الموضوع ترجمه الدكتور عبد الصمد شاهين منذ سنتين فيما أظن. وكان من المفيد أن يستأنس به في ترجمته.
ويمكننا مع ابتداء أول صفحة في الترجمة إبداء الملاحظات. فالذي جرت به عادة المترجمين، لأسباب معقولة، هو أن. يثبتوا عنوان الكتاب بلغته الأصلية واسم مؤلفه وتاريخ طباعته في هامش ظهر صفحة الغلاف الداخلية. ولولا أنه فعل ذلك في التصدير (أي المقدمة) لما وقفنا على هذه المعلومات بسهولة. ومع هذا فقد ترجم الأستاذ القرمادي عنوان الكتاب على خلاف ما سبق أن ترجمه به في صفحة الغلاف، ففي التصدير «دروس في صوتيات العربية»، وفي الغلاف «دروس في علم الأصوات العربية»و وليس يهمنا أن لا يكون هناك فرق في الاصطلاح بين التعبيرين بقدر ما يهمنا أن يتوحد النص على ترجمة عنوان الكتاب في المواضع الهامة التي يذكر فيها.
وفي الصفحة الأولى نفسها من التصدير، نستقبل باستغراب تعليق المترجم في الحاشية على ما اعتبره - في النص - معلوما، وهو فقر اللغة العربية من المؤلفات في علم الأصوات، فقد أشار الى أنه لا يعرف في ذلك إلا كتابين للدكتور إبراهيم أنيس، أحدهما «في اللهجات العربية» والآخر في « الأصوات اللغوية»، وذكر متأسفا أن الكتاب الثاني لم يعثر عليه في تونس - هكذا- وصعب علي التسليم بهذا الأمر قبل مراجعة المكتبة الوطنية في العطارين على الأقل، فراعني أن أجد منه أكثر من نسخة (مودعة منذ سنة ١٩٥٩) ومعها معظم كتب المؤلف وهي عديدة بل توجد كتب أخرى وفيرة في الصوتيات وفقه اللغة لعدد من الباحثين العرب المحدثين، وإنما الذي لا يوجد حقا بل كان يوجد وفقد من المكتبة الوطنية فهو كتاب جان كانتينو نفسه في أصله الفرنسي! ولهذا السبب لم أتمكن من مراجعته، ولم يكن لدي وقت للبحث عنه في غير مكتبة الجامعة، وليس موجودا بها أيضاً!
ومع أن قلة علم الأستاذ القرمادي بالمؤلفات العربية في علم الأصوات العربية يعد من المآخذ عليه، لأنه أستاذ متخصص في هذه المادة .. فإنه لا يعذر بعدم العثور على كتاب الدكتور إبراهيم أنيس في الأصوات اللغوية وقد علم به.
وقد كان بوسع المترجم، في دائرة استحضار أدوات الترجمة الضرورية، أن يرجع الى قاموس مصطلحات علم الأصوات وفقه اللغة، الذي وضعه المجمع اللغوي العربي مند سنوات وطبع ضمن مجلد به مصطلحات العلوم العصرية. ولو كانت يده امتدت على الأقل الى هذا المرجع لوقف على كثير من المصطلحات التي أجهد نفسه في توليد الألفاظ لها ولم يوفق، ومن بين المصطلحات التي وقعت سقيمة أو لا لزوم لها ما دام المؤلفون العرب قد تبنوا أحسن وأدق منها، هذه الكلمات التالية: «الزوائد الخلفية والزوائد الأمامية» في حين أن هناك كلمتين مفردتين بدل هذه التوابع الثقيلة هما «اللواحق والزوائد». وهو يستعمل كلمة «النبرة» إلا أن الكلمة المتفق عليها عند علماء هذا الفن هي «النبر» بالتذكير، لما في كلمة «النبرة» من ارتباط باصطلاح رسم الهمزة من ناحية، ولما هو مشهور من ناحية أخرى من استعمالها بمعنى نغمة الصوت بصفة عامة. وكلنا نقول «القصبة الهوائية» لكن الأستاذ القرمادي يأبى إلا أن يترجم هذه الكلمة أيضا عن الفرنسية فيقول «قصبة الرئة» ومثل ذلك عنده «غشاء الحنك»، وإنما العبارة عم ذلك في العربية الفصحى هي «الحنك الأعلى». ولا أدري لماذا يلجأ المترجم الى استعمال كلمة « نز - ينز - نزيزا» بمعنى «اهتز» أو «تذبذب» المستعملتين في الإشارة الى تخلل الصوت في مجراه أو في الهواء. إن الفعل «نز» ليس غريبا عن ميدان الصوتيات فقط بل ليس من معانيه الكثيرة ما يتعلق بالحركة إلا معنى واحدا باهتا جدا. ولفظ «ريزوناتور» يقابله في العربية لفظ «رنان»، ولا أدري أيهما ألطف في الأذن أهذا «الرنان» أم هذا «المدوي» الذي صنعه الأستاذ القرمادي؟
ولما كانت العربية تمتاز بالتضايف أو الإضافة - كما نعرف - فلماذا الجري الى التركيب الأعجمي الذي يستعمله الأستاذ القرمادي كالاصطلاحات: «أقصى -حنكي»، «أدنى - حنكي» «الحروف الأدنى - حنكية» «٦ أحرف أدنى حنكية» (ص٣٠) وقس على ذلك. فالعرب القدامى قبل المحدثين كانوا يعرفون هذه المعاني - بشهادة كانتينو نفسه لمن أرادها- وألفاظهم لها هي «أقصى الحنك ، أدنى الحنك، حروف أدنى الحنك ستة.. الخ ».
لكن لماذا هذه الإضافة الزائدة في اصطلاح « الغنة الخيشومية» ما دامت كلمة «الغنة» تقوم بالمعنى كاملا؟ أم أن هذا من البيان والبيان، كاستعماله المتكرر لعبارة «الكلام البشري»، والناس جميعا يستعملون لهذا المعنى كلمة «النطق» لأنه أخص بالإنسان ولأن اصطلاح «الكلام البشري»، تستعمل في مقابل «الكلام الإلهي» في التوحيد وحسب.
وفي الترجمة ألفاظ كثيرة اخترعها الأستاذ القرمادي، ويحس من يتأملها أنه وفق في توليدها وتشقيقها، ويعجب مع ذلك كيف تطابقت اصطلاحاته مع الاصطلاحات المستعملة في الكتب العربية، لكنه في ألفاظ كثيرة أخرى يثير الاستغراب في تعريبه، مثل قوله «اللغات الرومنية» (ص ٨٧) وإنما هي بعربيتنا «اللهجات اللاتينية» وهي تلك اللغات المنحدرة في اللغة اللاتينية الأم. ومن التقصير أن يقيس المترجم التركيب العربي على التركيب الفرنسي فيقع في الخطإ كقوله «عند بعض بدوي الشرق» (ص ٦٥) وربما قاسها على نحو قولك « عند بعض ذوي العلم» والصحيح أن يقال «عند بعض بدو الشرق»، ومن التراكيب الأعجمية قوله: «كفي سائر الخطوط» (ص١٦٣) بحرف جر داخل على حرف جر ! وهذا غير جائز في الكلام العربي إطلاقا، وإنما أجازوا ذلك في الشعر بقلة. ويمكن أن نقول في العربية بكل طلاقة «فروق دقيقة» أو «فروق لطيفة» ونحن نريد ما وضع له الأستاذ القرمادي لفظ «فويرقات» (ص ١٥٨) أو «فريقات» كما كتبها بعد ذلك ( ص١٨١).
وكان يجب على المترجم أن ينتبه، بالإضافة الى انتباهه المشكور في كثير من المواضيع الدقيقة في الترجمة الى الفرق بين اصطلاح «اللغة العربية الفصحى» و «اصطلاح الى اللغة العربية القديمة» في علوم الأصوات، ولا أحسب أن الفرق يغيب عنه، إلا أنه خالف في وضع الواحد منها موضع الآخر في أماكن كثيرة من الكتاب، حتى يخيل الي أحيانا أن المؤلف وقع في الإحالة والغلط، فعند الحديث عن المقطع في العربية القديمة (ص١٩٢) لا يبحث المؤلف فعلا في العربية القديمة بمعنى الصفوية أو النبطية أو اللحيانية أو غيرها من اللغات العربية القديمة، وإنما يبحث في العربية الفصحى ولذلك نجده ينتقل بعدها مباشرة الى وصف المقاطع في اللهجات العربية الدارجة. وفي فصل الإيقاع في الشعر (ص١٩٨) لا يمكن أن نصدّق أن المؤلف يبحث في اللغة العربية القديمة لأنه لا يعرف فيها شعراً. ومن الغريب أن يخلط الأستاذ القرمادي بين هذه الأشياء في الترجمة مع أنه أشار الى هذين الاصطلاحين في المعجم الاصطلاحي الذي ألحقه بالكتاب.
ومن الأخطاء العلمية في الترجمة أن يكون «لفظ مقطع منغلق يطلق على كل مقطع ينتهي بحرف» وأن يمثل له بـ «تلـ» مع ذلك ، في قولك «قتلت» وإنما المقطع المنغلق في الواقع هو عبارة عن حرفين أولهما متحرك والثاني ساكن. والذي أوقع المترجم في هذا الخطإ - كما أظن - هو أنه يترجم الاصطلاح الفرنسي «كونسون» بـ «حرف» و «فوايال» بـ «حركة» وليس الحال كذلك إنما «الحرف» في العربية أعم من «كونسون»، أي أنه لا ينفصل مفهوم الحرف عن الحركة أبدا بما فيها السكون، وهو يعتبر حركة قصيرة جداً. والولقع هو هذا، إذ لا يمكن أن نتصور حرفا بدون حركة ما، وكلمة «كونسون» كلمة عقلية مجردة تدل على رسم الحرف لا نطقه. وقد كان العرب القدامى من علماء الأصوات يعرفون هذه الحقيقة، وكانوا يعبرون عنها بدقة متناهية في قولهم «حروف صامتة» وحروف «صائتة» أو «صوامت» و «صوائت» (انظر على سبيل المثال رسالة ابن سينا في أسباب حدوث الحروف - وهي مطبوعة) بمعنى «كونسون»و «فوايال». ومعروف أن «لاتر» من الفرنسية يترجمها «حرف».
وقد مضى الباحثون العرب المحدثون على خطى أسلافهم في هذا الاستعمال وفي هذا الفهم الدقيق. ومع ذلك يستخدمون مثلهم كلمة «حركة» في معنى «فوايال» من غير مواضع الالتباس. وقد قلت إن «السكون» حركة، و أريد أن أضيف أنه موجود في جميع اللغات، إلا أن بعض اللغات كالفرنسية والانقليزية لا تستعمل رمزا للإشارة اليه بعكس بعض اللغات الأخرى، التي تستعمل له رمزا مخصوصا، ومنها العربية والروسية..
وأخرج من هذا الاستطراد الى تسطير بعض التراكيب اللغوية السقيمة التي لم يكن أولى من المترجم باجتنابها، فهذه الجملة: «يعد كتاب جان كانتينو … وكتاب هنري فلاش من بين المراجع الأساسية التي لا غنى لطلبة علم الأصوات العربي وللباحثين في ميدان معالجة المشاكل الصوتية الخاصة بالعربية معالجة عصرية تعتمد الطرق والمناهج الحديثة التي وضعها علماء الأصوات المعاصرون من الرجوع اليها» (وهي أول فقرة من كلام المترجم (ص ٧)، فما كان أغناه عن هذا التطويل، ألا يحسن أن نقول « .. من بين المراجع الأساسية التي لا غنى لطلبة العلم الرجوع اليها وكذلك الباحثين … الخ» أو نقول: «لا غنى عن الرجوع اليها بالنسبة لطلبة.. » نلاحظ أنه لا يجوز أن يقال: «علم الأصوات العربي، فالعلم ليس عربيا ولا فرنسيا، وإنما الأصوات هي التي توصف بحسب الأقوام التي يتلفظونها، فيقال «علم الأصوات العربية» على ذلك.
ومثل هذه الجملة الطويلة أخرى أطول منها، ولم يوفق المترجم في الربط بين أجزائها، فهو بعد أن يقول: «إن وجود عدة لغات سامية متقاربة.. (ويمضي في تعدادها على مدى أربعة سطور) يقول:« إن وجود هذه اللغات قلنا يجعل من المحتمل.. الخ، (ص ٢٦) مع أن العربية السليمة تقتضي أن يقال:«.. قلنا إن وجود يجعل من المحتمل.. الخ».
ومن الخطإ الواضح والمفارق للمعنى المقصود قول الأستاذ القرمادي يتحدث عن نفسه «.. اجتهدنا اجتهادا في بعض الألفاظ.. على طريقة التوليد أي توسيع المعاني الموجودة بعد في اللغة (ص٨) ويكرر هذا الاستعمال الخاطئ لـ «بعد» مع الفعل الماضي - وهي كما نعرف بمعنى المستقبل - في قوله: « وقد قام الباحثون بعد بأكبر قسم من هذا العمل ولم يبق إلا ..» (ص١٤).
ولا ندري أهو من باب الغلط أو الخطإ أن يسمي المترجم «ما» المسبوقة بحرف جر (مثل لم، وبم، وحتام، ونحوها) اسم إشارة (ص١٥٣) وليس كذلك إنما هي اسم استفهام.
وفي باب اللغة نلاحظ أنه يجب التمييز بين «جرس» و«جرَس» بالفتح هو ما يرادف كلمة ناقوس وتجمع على «أجراس» وهذا المفرد وجمعه هو الذي استعمله الأستاذ القرمادي وهو خطأ، لأن «الجرْس» بالسكون هو الذي مجاله علم الأصوات بل حتى في وصف الصوت بصفة عامة وهو يجمع على «جروس» على أنه من الحق أن نشير الى أن المترجم جمع «جرس» في معجم المصطلحات على «أجراس» (ص٢١٦) واستعمل الجمع في داخل الكتاب أحيانا «جروس» (ص١١). كما أنه يستعمل مصطلح «حروف شعرية» ولم يورده في هذل المعجم.
والذي يسميه الأستاذ القرمادي في الشعر «إجازات» إنما اللفظ له هو «رخص» أو «جوازات» أو «ضرورات»، وأيضا فمصدر«حور» هو «تحوير» ولا أعرف له «تحورا» (١٤٩) ومثله «عزا»، «يعزو عزوا»، وهو هكذا في العربية لا كما صاغه الأستاذ القرمادي على صيغة «أفعال» = «أعزاء» (ص١٧٤ و ١٩٦)، وهذا ليس اصطلاحا ليجحد الأستاذ القرمادي لنفسه الحرية لتوليده. ولا بد أنه يعرف أن المصدر على غير فعله عيب إلا في الشعر اضطرارا، فإذا كان يريد «إرجاعا» وكتب «إعزاء» فهذا لا يجوز.
ومما قد يحمل على المطبعة أو السهو البشري من الأخطاء قوله: «أفضى هذا الاعتبار شيئا من الغموض على» (ص١٤٨ سطر ١٣) وصحته «أضفى ..» وقوله:« تقطيع ضمير المخاطب.. أي أنا بفتحة طويلة بعد النون» وصحته «ضمير المتكلم..» والتصوير الصوتي لكلمة «نجم» عند العرب الناطقين بالجيم كالقاف البدوية عندنا هي «نقم» بكسر النون، كما كتبت بالحروف العالمية للأصوات وليس بفتحها كما ضبطها المترجم أو غيره. وإذا أتيح للمترجم أن يعيد طبع الكتاب أو يؤلف على كمنواله، وآمل ذلك، فأرجو أن يصلح بعض الأخطاء في كتابة كلمة «جرى» (ص١٦٢) بالحروف الصوتية العالمية، وكذلك «جاي» (ص١٧١) و«جابت» (ص١٧٥).
وهناك شيء مهم جدا في نظري وكان من الواجب علي أن أقدم ملاحظته على كثير من الملاحظات، وهو وجوب التزام المترجم بالرسم العثماني المعروف في كتابة القرآن، وهذا أمر يلتزم به المستشرقون أنفسهم احتراما لشعور المسلمين. وخاصة وأنه ليس هناك داع لكتابة الآية الكريمة «الم الله لا اله الا هو» هكذا «الف - لام ميم الله لا الاه الا هو» حيث وردت (ص١٩٠)
وحسبي هذه الوقفة عند بعض الأخطاء الاصطلاحية والتركيبية واللغوية والنحوية التي مررت بها في ترجمة الأستاذ القرمادي لكتاب كانتينو. ورغم أن هذه الوقفة طالت على كره مني إلا أنني حريص على أن لا أتركها، دون أن أصرح بأن إعجابي بمجهود المترجم كان يصرفني عن تتبع الهنات، فلم أوجه اهتمامي الى البحث عنها بدقة. وكذلك كنت أريد هنا أن أبسط القول في مناقشة بعض آراء المؤلف نفسه، لكنه يمكن القول على وجه الاختصار أن الكتاب تتجلى قيمته في كونه قد استطاع صاحبه تلخيص وعرض أراء علماء الأصوات العرب والأجانب في كثير من المسائل المعقدة، مع إضافة نظرياته الخاصة واستقراءاته الشخصية. وكل ذلك صاغه في قالب دروس جامعية للطلبة المستشرقين. والكتاب من هذه الناحية مفيد ولكنه لا يمكن اعتماد الباحثين العرب عليه والاحتجاج به، لأنه وإن كان صاحبه قد برع في تنظيم مباحث الكتاب وأحسن ترتيبها فإنه لم يول اهتماما كبيرا بالرجوع المباشر الى الكتب العربية الأصول في معظم عناصر موضوعه. وفي قائمة مواجعه نفتقد عددا كبيرا من المصادر العربية الأساسية المطبوعة قديما وحديثا كالمخصص لابن سيده وسر صناعة الاعراب لابن جني والصاحبي لابن فارس ورسالة ابن سينا في أسباب حدوث الحروف والمزهر للسيوطي. فنجد المؤلف كانتينو في تعريف «كم» الحركات أي أطوالها المختلفة يستشهد بنص للمستشرق «برفمان» (ص١٥٢) ولو كان رجع على الأقل الى كشاف مصطلحات الفنون والعلوم الذي ألفه الشيخ التهانوي وقد طبع في الهند منذ أكثر من نصف قرن لوجد في مادة «المد» آراء القراء والنحويين في اختلاف الكميات الصوتية للحركات، فهم أدرى من «برفمان»، وإن كان «بارفمان» يمكنه بالوسائل الصوتية الحديثة أن يحسن ملاحظتها واستقراءها وقياسها بالثانية أو بكسور الثانية. وحتى في دائرة اعتماد المؤلف على دراسات المستشرقين، فإنه لا يفي بالمرجو من مثله، فهناك دراسات هامة جدا في بحث «النبر» في إيقاع الشعر العربي قام بها أمثال المستشرقين «فايل» الألماني و «غويار» الفرنسي و «بالمر» الإنقليزي، ولو رجع اليها لصحح نظريته في دور النبر في إيقاع الشعر العربي (ص١٩٤).
ومن الحق علي في آخر هذه الكلمة أن أتوجه بالشكر الى الشركة التونسية لفنون الرسم لاعتنائها الفائق بأن يكون الكتاب مفخرة للقارئ التونسي في حقل النشر العربي من حيث حسن الطباعة وجودة الاخراج. وأوجه انتباهها الى أن ترقيم صفحات الكتاب لا يبدأ من صفحة الغلاف الداخلية ولا التي بعدها، وإنما يبدأ الترقيم من المقدمة، وأحيانا تؤبجد المقدمة إذا لم يمكن ترقيمها لأسباب، ويبدأ الترقيم عندئذ من النص، نلفتها الى هذه النقطة الفنية لأن ص٧ في الكتاب المذكور تعد في عرف الطباعة ص١. ونرجو في المستقبل أن تعتني أو تنبه حرفاءها الى الاعتناء بمواقف القراء عند الكتابة أي النقطة والفاصلة ونحوهما.
وملاحظة بسيطة لخطاط عنوان الكتاب ومتعلقاته - وهو من أبرع خطاطينا- نوجهها له لعله يخطط في المستقبل العناوين الشبيهة بـ «دروس في علم الأصوات العربية» على ثلاثة أسطر مراعاة لجمال التنسيق في الخط العربي، وليس على سطرين كما فعل في هذا العنوان بحشر «في» مع «دروس».
وينبغي، أخيرا، أن تعود كلمتي هذه بالفائدة التي كبتها من أجلها وأهمها أن يشعر الاستاذ القرمادي مني بأنه أدى الكتاب حق ترجمته الصحيحة، بصرف النظر عن تلك الهنات البسيطة التي ذكرتها بموضوعية والتي لا يكاد يسلم منها أو من مثلها أو من أشنع منها كتاب مترجم، وكذلك أن يمضي في ميدان التأليف العلمي والأدبي والترجمة باندفاع يقوى وإنتاح يرقى مع مرور الأيام.
ولقارئ كلمتي هذه، في الختام، أن يعرفني بالحق ولا يعرف الحق بي، فإني غير متخصص في موضوع الصوتيات وعهدي بدراسة أوليات علم فقه اللغة منذ ثلاث سنوات.
--------------
(*)
وقع التصرف في العنوان، لان الدكتور الكعبي وافانا بالمقال موضوع الرد على ترجمة صالح القرمادي، وكلاما يتحدث عن قصة ذلك المقال، فجمعناهما في نشر واحد
محرر موقع بوابتي
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: