عبد الغني مزوز - المغرب
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 4842
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
تمتاز الثورة السورية المجيدة عن غيرها من الثورات العربية كونها نزعت الأقنعة عن كثير من الوجود والكيانات والحركات والأفكار والنظم وأظهرتها على حقيقتها، فهي بحق منعطف حاسم في صيرورة بناء وعي الشعوب وصياغة مواقفها الصحيحة المبنية على معطيات حقيقية غير مزيفة ولا مختلقة.
فإلى جانب فضح النظام الدولي -أكبر الخاسرين في الثورة السورية-، هناك الأنظمة العربية الوظيفية وبعض الإيديولوجيات والرموز التي عاشت حينا من الدهر وهي تمرر أفكارها ودعايتها الكاذبة عن أمجادها وممانعتها، دون أن ننسى أن هذه الثورة المضفرة كشفت زيف ووهم المنجز الثوري في بعض الأقطار التي ضنت أنها صنعت ثوراتها ولم يدر بخلدها أنها ضخت دماء جديدة في أنظمتها العتيقة عندما سمحت لأيدي وأدرع النظام الدولي وأدواته المحلية بالتدخل في تحديد مسار ومصير انتفاضاتها.
ما يهمنا في هذه المقالة وهو أيضا من ضحايا الثورة الفاضحة هو الخطاب الجهادي الذي ظهر مع هذه الثورة وتروج له بعض الجهات، وتبنى بعض الأفكار والخيارات الفقهية والعقدية و الجهادية التي كانت سائدة في الساحة العربية والإسلامية خصوصا في بعض البؤر الساخنة كالعراق وأفغانستان والشيشان والصومال وغيرها، إلا أن الفارق بين هذا الخطاب الجهادي الجديد والذي كان سائدا أن الأول أملته بعض الظروف السياسية و الطائفية الراهنة ودفعت به بعض الأنظمة الشمولية التي استشعرت الخوف على مكانتها ومصالحها المرتبطة عضويا بالنظام الدولي، وبالتالي فهذا الخطاب لا يعدو أن يكون "أيديولوجية وظيفية موسمية"، يتم استدعائها فقط وحصريا عندما تحس بعض الكيانات بالخطر الداهم ولا تلبث أن تنقلب عليها إدانة وطردا وتشريدا، أما الخطاب الجهادي الثاني فهو الذي يستند إلى عمق شرعي وتاريخي وعقلي وأخلاقي ولا يرتبط وظيفيا بأي قطب أو جهة، ويسجل حضوره إلى جانب الأمة في كل خطوط التماس بينها وبين النظام الدولي خصوصا في العراق وفلسطين وأفغانستان، وظل وسيظل في صراع أزلي أبدي مع أعداء الأمة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
فمعروف أن الدين والفتوى والخطاب الجهادي المصطنع المغشوش كان من آليات ترسيخ أوتاد النظام الدولي بدء من حقبة الجهاد الأفغاني الأول التي لعبت فيه الفتوى "المدفوعة" دورا كبيرا في تحميس الشباب ودفعهم إلى الساحة الأفغانية لإنهاء الهاجس السوفياتي الذي يؤرق الغرب، ولتفريغ الساحة العربية التي بدأت بالاحتقان والغليان بعد الثورة الإيرانية وحادثة أبو جهيمان واقتحام الحرم.
ثم استمر الدور الوظيفي للفتوى المدفوعة مع الغزو الأمريكي للعراق لتنصب بريمر رجل الاحتلال الأول في ذلك البلد المنكوب وليا لأمر المسلمين، تجب طاعته وولايته فيما كان نصيب المقاومة والمقاومين أنهم إرهابيون وخوارج وطوائف ضالة يجب أن تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف وينفوا من الأرض.
وفي غمرة الغباء السياسي والتخلف العقدي والانحدار الأخلاقي للفتوى المدفوعة ومن يقف خلفها كانت إيران تزحف على العراق في تطهير طائفي ممنهج، يهدف إلى تغيير البنية الديمغرافية والجغرافية والطائفية للعراق ليكون ضحية أخرى للمشروع الإيراني الفارسي، ولما تصدت المقاومة لهذا المشروع الذي تقاطعت فيه مصالح الصهيونية والصليبية و الصفوية، كانت الفتوى المأجورة بالمرصاد لهذه المقاومة التي اتهمت بإثارة الفتنة الطائفية وتدمير النسيج المجتمعي للعراق واستهداف المدنيين...ونشطت العمائم وتنافست في تأدية دورها في تحالف كبير بين الإعلام والفتوى وضجت الفضائيات الممولة بأموال النفط بالبرامج والمواد الإعلامية التي تشوه المقاومة وتحث على التبليغ عن نشاطاتها، في مقابل تمجيد الاحتلال وأدرعه الطائفية، دون أن ننسى أنه إبان الحرب العراقية الإيرانية في ثمانينيات القرن الماضي كانت بوصلة الفتوى المدفوعة موجهة في اتجاه معاكس تماما، حيت صدام تحول إلى حارس للبوابة الشرقية في وجه"الخطر الرافضي الزاحف" و "المد المجوسي الداهم" فكانت الفتاوى تصدر على قدم وساق في" تكفير الشيعة" والتحذير من خبثهم الذي يفوق خبث الكفار الأصليين، وان قتالهم مقدم على قتال من سواهم.
لقد نجح مشروع تفويت العراق بمقدراته وتاريخه وعقوله إلى إيران بعد الاحتلال الأمريكي بعدما شلت يد المقاومة حينما نجحت أموال النفط وفتاواه في تجنيد فئة من أبناء البلد"الصحوات" ضد مشروع المقاومة وبالتالي تجدر النظام الطائفي وتغوله في كافة مرافق الدولة والمجتمع في العراق ليصبح هذا الأخير شبه مقاطعة تابعة لإيران.
مع التطور الذي لحق بفعاليات الثورة السورية وانتقالها من السلمية إلى العسكرة ومن طابعها السياسي إلى بعدها العقائدي الطائفي، وبروز إيران كقوة مهددة لاستقرار دويلات الطوائف والأنظمة الوظيفية وتهديدها باحتلال دول خليجية في حال سقط النظام في سوريا أو تم الاعتداء عليها، ومواظبتها على إثارة الفتن داخل المجتمعات العربية "الحوتيون في اليمن" "الشيعة في البحرين" "الشيعة في الاحساء بالسعودية" "حزب الله في لبنان" وأخيرا ربيبها المالكي في العراق، برزت الرغبة في إعادة بعث الخطاب الجهادي الوظيفي الموسمي من جديد لاشتداد الحاجة إليه، فتم تدوير ماكينات الفتوى من جديد في اتجاه اخر لتنشئ الفضائيات وتؤجر العمائم والفتاوى في دورة جديدة شبيهة بحقبة الحرب العراقية الإيرانية والجهاد الأفغاني الأول حيث نفض الغبار على مفاهيم وضعت في الرف مند انهيار الاتحاد السوفياتي وانتهاء حرب الخليج الأولى من قبيل "الخطر المجوسي" و "الخطر الرافضي" و "وجوب قتال الرافضة"..مع أن الفتاوى نفسها والعمائم ذاتها والرأسمال نفسه هم المسئولون بشكل مباشر وقطعي عن ترسيخ وتعزيز نفوذ إيران الطائفية في المنطقة من خلال التواطؤ المباشر مع الاحتلال في تقديم العراق لقمة سائغة لرافضة إيران.
لذلك فبعض الفضائيات التي تتكاثر كالفطر وبعض الشيوخ الذين تحولوا بين عشية وضحاها إلى "شيوخ للمجاهدين"وبعض البرامج والأفلام التي تبت عبر تلك الفضائيات مصحوبة بأناشيد حماسية، لا تعدوا أن تكون حالة "موسمية" غالبا ما يتم اللجوء إليها عندما يكون هناك خطر يهدد استقرار النظام الدولي وأدواته في المنطقة، إذن فنحن بصدد خطاب جهادي مغشوش لم يتشكل لدواعي مرتبطة بالخطر الذي يتهدد الأمة كما هو حال الخطاب الأصيل وإنما تم استدعاءه على عجل ليكون سدا منيعا دون امتداد الإخطار إلى بعض الأنظمة والكيانات في المنطقة.
وحري بي أن أنوه في نهاية هذه الأسطر أن ما أقصده بالخطاب الجهادي المغشوش هو ما تروج له بعض الفضائيات والشخصيات المحسوبة على أنظمة معروف موقفها من قضية الجهاد والمقاومة ولا أقصد قطعا تشكيلات الثوار السوريين الذين يتبنون خطابا جهاديا مقاوما أصيلا له عمقه الشرعي والعقدي والتاريخي المرتبط بالشام ومكانتها في وجدان الأمة.
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: