رحم الله الرئيس الباجي قائد السبسي، لقد رحل كما يليق برجل يحترم الدولة، وبعد طقوس العزاء سيكون لنا الحق في نقد مرحلة الباجي، فنحن لم نكن بحضرة نبي مرسل ولا زعيم خارق ولا حتى رئيس استثنائي، كانت مرحلة عشناها بألم ورجاء، ثم ختمت بموت شريف لم يبتز عواطفنا لنبكي نصف إله، كل الذين بكوه بكوا بصدق غير طامعين ولا متزلفين، لقد أذن موت الباجي بنهاية البورقيبية، فكيف يكون ذلك؟
الباجي جامع فلول التجمع
كانت مزية الباجي على التجمعيين (فلول حزب بن علي) أنه ظهر في وقت احتاجوا فيه إلى رجل (معقول) لم يساهم في جرائم بن علي بشكل مفضوح، وله تلك الروح البورقيبية التي حولها لضرورة التجميع إلى أيديولوجيا.
كان التجمعيون يلبسون السفساري خوفًا من الثورة، فلما ظهر لهم - أو لعلهم أظهروه - استعادوا به جرأتهم أو وقاحتهم وألفوا معه حزب النداء ثم ربحوا انتخابات 2014، لكن الباجي لم يكن من القوة بحيث يحميهم من ضعفهم الأزلي وهو الطمع (أو محركهم الوحيد) في غنائم الدولة، ذلك الطمع الذي جعلهم يألفون بن علي ويناصرونه في باطله.
تلقى التجمعيون ضربة موجعة عندما تحالف الباجي مع الغنوشي (حزب النهضة) لإدارة المرحلة فاكتشف التجمعيون أن لهم شريكًا في الغنائم، فبدأت حركة الشتات الجديد، فتفكك حزب النداء وذهب التجمعيون خلف زعماء أقل قيمة وأقل معرفة بإدارة الأزمات، فلم يفلحوا في لقاء آخر، والآن والباجي يفارق محمودًا ويجد التجمعيون أنفسهم أيتامًا، لقد مات الأب ميتة ثانية ولن ينفع أن يقام له تمثال، فتمثال بورقيبة تحول إلى مبولة سكارى (لولا أنه يقبع أمام وزارة الداخلية لحمايته).
انتهى بورقيبة من أذهان الأجيال التي لم تقدسه إذ لم تخضع لآلته الدعائية، وانتهى الباجي كصيغة أخيرة مخففة من البورقيبية ولن يمكن لمدعيه أن يؤلفوا باسمه أحزابًا تربح الانتخابات إلا نزرًا يسيرًا لا يمنح غنائم، والشريك الجديد في السلطة (أو الشركاء وهم كثر) يراقب ويطمع ويقسم ويحاسب، والشعب خلف الجميع يرى ويسمع ويصبر طويلًا لكنه يمنح العفو أو الغضب، هذه أحكام الثورة فأين التجمعيين منها؟
الصندوق الانتخابي قضى على التجمعيين
عندما كان قانون العزل السياسي يعرض على البرلمان تحمس شباب الثورة للنص ولكن في لحظة حاسمة خذلهم حزب النهضة وقال رئيس الحزب سنفككهم بالصندوق وثار الناس ضد "خيانة" حزب النهضة للثورة.
خسر حزب النهضة أنصارًا كثرًا بهذا الموقف، ولكن ننظر فنرى أن الصندوق الانتخابي فكك حزب التجمع وكان يجب بعض الصبر على المرحلة، فالثوريون لا يصبرون لكن للسياسة أحكام أخرى، فقد تلاشى التجمعيون ولم يعودوا وحدة انتخابية تربح انتخابات وبأس الفلول بينها شديد في هذه اللحظة المفصلية.
حزب عبير موسي يتطرف مستعيدًا نموذج بن علي فيطرد حيث ما حل، وحزب النداء تفكك إلى شظايا بعضها مع ابن الرئيس الراحل وبعضها ضد ابن الرئيس وبعضها يبحث عن ملجأ عند النهضة، أما يسار بن علي (طابور فرنسا الخامس في تونس) فقد خسر الحاضنة التي أكل منها شهدًا دون أن يبذل أي جهد فكري أو سياسي ليستقل ويؤلف ويحكم أو يقترح أمرًا غير استعمال التجمعيين في قتل الإخوانية.
نحن إزاء مشهد تجمعي تذرر حتى لم نعد نعرف عدد الأحزاب التي تدعيه وتدعي البورقيبية التي أنفق منها الباجي وهو غير مؤمن بها، وتأذن نهاية الباجي باندثاره من المشهد السياسي، لكن أين سيذهب التجمعيون بعد الباجي؟
الأيتام سيبحثون عن أب
من يكون الأب القادم؟ لا أراهم يصادفونه في الطريق وليس في الشخصيات الظاهرة الآن من يمكنه أن يقوم بهذا الدور، فكل رجال التوليف إما ميت أو عاجز، والأجيال الجديدة ممثلة في عبير موسي تعمل لحسابها وإن ادعت ميراث البورقيبية، فضلًا عن أن أجيالًا جديدة ولدت زمن بن علي لم تعرف تاريخ بورقيبة ولا تلتزمه وتبحث عن دور ومشاركة ومنافع ولن يكون بإمكانها استعمال حصان التجمع لتدبير الرأس بعد الباجي، فقد تغيرت تونس وصار يمكن قراءة واقعها دون مكون ادعى ذات يوم أنه الأساسي الذي لا حل غيره.
الأجيال القادمة تحررت وإن لم تتعلم السياسة على طريقة الباجي، ولا نراها ترغب في ذلك فلها سبلها وخطابها، ولن يتوقف الفلول عن البحث عن أب يقدمونه وموعد الانتخابات سيكون دالًا عن هؤلاء الذين فقدوا البوصلة لأنهم فقدوا الربان، فسيزدهر عندهم خطاب الرثاء ككل المهزومين ولن ينتبهوا إلى فارق الأجيال ولا فارق المؤثرات لأنهم يفكرون بطريقة واحدة منتهية الصلاحية، هي أن السياسة باب للمغنم ليس أكثر. موت الباجي يؤذن بنهاية جيل وفكر ومرحلة وميلاد أخرى فمن يحضن القادمين؟
الديمقراطية وعاء جامع
ليس للتجميعيين إلا الديمقراطية والتوقف أخيرًا عن الادعاء بأنهم تونسيون أكثر من التونسيين وأنهم ملكوا أو يملكون الحقيقة، فخطاب الوطنية والشفقة على الشعب الطفل لم يعد مقبولًا، لقد كبر هذا الشعب ونضج ولم يعد محتاجًا إلى وصي لص.
الخيار الوحيد المتبقي هو الانخراط في الديمقراطية والتسليم بآلياتها ونتائجها ومنها التوقف عن ابتزاز مشاعر التونسيين بزعيم مصطنع في الإذاعة وإيهامهم بأنه منتج أفكار، فما هو إلا عاشق سلطة استعملها لصالحه وقسم بها شعبه شيعًا ومناطق متناحرة.
الباجي كان آخر البورقيبيين ولن يمكن العثور على نسخة أخرى منه لإعادة توليف سياسة مماثلة لحزب النداء والباب مفتوح الآن لأجيال شابة لابتكار طرق أخرى وربما خلق زعماء آخرين وإن كانت الديمقراطية لا تحتاج إلى زعماء أنصاف آلهة، لقد خرجت تونس من الزعيم إلى الديمقراطية، واليوم ندفن آخر مدعيها تقبله الله برحمته الواسعة.
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: