سيرد البعض: وهل النقابة ليست من تونس؟ والرد على الرد قبل المقال أن ما تفعله النقابة بتونس وشعبها ودولتها لا ينبئ عن روح وطنية.
وهذه الورقة تعتز بوعيها بالتخريب النقابي منذ فك اعتصام الثورة الثاني وتحويل الثورة إلى مطلبية هدفها التخريب لا البناء، وليرد من يستطيع أن يقنع نفسه بحجته قبل إقناع الشعب التونسي المقهور. لقد سرقت النقابة البلد وحكومته، ووجدت من السياسيين الجبناء من أطلق يدها في تونس وحكمها على مصير الثورة وتجربة الانتقال الديمقراطي، وكل مشروع ثورة الحرية والكرامة.
حكومة الجبالي أعلنت الانسحاب الجبان قبل المعركة
وضع الباجي قائد السبسي فخا في طريق من أتى بعده، إذ في فترة تسيير الأعمال بعد انتخابات تشرين الأول/ أكتوبر 2011 أقر زيادة خصوصية لموظفي الوزارة الأولى قدرها سبعين دينارا، زيادة مجاملة لمن عمل معه وفخا لمن يأتي بعده، فلما قفز حمادي الجبالي إلى رئاسة الحكومة مستقويا بما يشبه الاستفتاء الشعبي على حزب النهضة (أكثر من مليون ونصف المليون صوت) كان من أولى أعماله الخضوع للنقابة التي جاءته بطلب تعميم الزيادة على موظفي القطاع العام. وكانت عملية ابتزاز واضحة، فالزيادة كانت غير قانونية، وعوض أن يلغي قرار الباجي صادق على الزيادة صاغرا. وأعتقد أنه كان جاهلا بأسلوب العمل النقابي في تونس، فانطلق الابتزاز من وقتها حتى الآن.
لقد تحولت مؤسسات القطاع العام الاقتصادية والإدارية إلى نقطة ضعف الحكومات (الذراع المكسورة)، إذ اتخذتها النقابة رهينة وضغطت بها على كل حكومة أعلنت برنامج عمل.
كانت اللعبة واضحة لكل ذي بصر وذي بصيرة.. إضرابات متوحشة مخالفة لكل قواعد العمل النقابي المحددة بمجلة الشغل (التنبيه والإعلان المسبق قبل 15 يوما ثم الإمهال بحمل الشارة الحمراء والتفاوض قبل الدخول في الإضراب). وكانت كل الحكومات تجد نفسها في وضعية الاستسلام أو الهروب من الفوضى التي قد تنتج عن مواجهة النقابة، وكانت تختلق للنقابة الأعذار لكي تلبي وتصرف من اللحم الحي حتى تحول الأمر إلى ثابت وطني الفوضى أو الاستجابة الذليلة. وفقدت الحكومات المبادرة نهائيا وصارت بدورها رهينة للنقابة، وكان آخر آيات فقدان القرار الحكومي عزل مديرة شركة الطيران تحت الضغط النقابي.
في الأثناء كانت فجوة الأجور بين القطاع العام والقطاع الخاص تتسع حتى لم تعد قابلة للردم. النقابة لا تتحرك في المؤسسات الخاصة لأن النقابيين يصمتون هناك صمتا مريبا نرى أثره على حياتهم الخاصة ولا نملك الوصول إلى مصدر ثرواتهم الشخصية، وأصحاب المؤسسات الذين رفضوا الابتزاز النقابي ودفع الرشى نقلوا مؤسساتهم إلى خارج الوطن.
إن تونس تدفع غاليا ثمن هروب حمادي الجبالي وحكومته النهضوية وتبريره للمودة النقابية. ولن أتحدث هنا عن الثمن الذي يدفعه حزبه كثمن لهذا الهروب الجبان، فهو أمر ثانوي. لم تكن هذه النقابة شريكا وطنيا كما برر حمادي الجبالي وحزبه من بعده. فبرغم الحب من جانب واحد كان آخر تصريح للأمين العام تجاه حزب النهضة أنهم "ما يصفوش"، أي أنهم ليسوا أبدا محل ثقة، فلا تعاون معهم أو توافق حول مسألة وطنية.
النقابة تحكم بلا منازع
عزل مديرة شركة الطيران بعد شهر من تكليفها يكشف مقدار التغلغل النقابي في المؤسسات العمومية ومنها شركة الطيران، حيث أن الشعار المعلن هو منع الخصخصة في المؤسسات التي تعيش صعوبات. ورغم أن الحكومة تنفي والمكلفين يؤكدون أن لا خصخصة وإنما إصلاح، فإن النقابة تبني دعايتها على أن هناك خطط خصخصة، وبالتالي فإن نضالاتها هي للحفاظ على القطاع العام ومؤسساته، وتضع مليون خط أحمر بلغة أمين عام المنظمة في آخر خطاب.
إنهم يختلقون مشكلة ويقترحون حلها بما يناسب هواهم والحكومة ترضخ، فإن لم ترضخ تُعزل، وكان هذا مصير البنية الغرة التي لم تفهم لعبتهم وعاركت بشرف فخسرت. لقد ضحت الحكومة بمن كلفت، ولم تخض المعركة المصيرية للدفاع عن سلطتها وحقها في التعيين. وكان هذا متوقعا، فالحكومات أجبن من أن تواجه. وها نحن نراها تفقد سلطتها، ففي يوم عزل المكلفة حركت النقابة مظاهرة داخل مكاتب رئاسة الحكومة تنعت رئيس الحكومة بالجبان، وكان يستمع "إلى وسخ أذنيه صامتا".
النقابة في تونس ومن خلال سيرتها مع كل الحكومات هي دمّل متقيح، كلما تركته سرى في باقي الأعضاء بالقيح والصديد، وكان المطلوب فقء الدمل ونزع القيح ووضع الدواء المناسب، لكن حكومات المكاسب الصغيرة والتي هي في جوهرها حكومات موظفين صغار رضعوا منافع القطاع العام دون الدفاع عنه؛ لم تعرب عن وعي بهذا الدور التخريبي أو لم يصل وعيها إلى حد المواجهة، فآثرت السلامة الشخصية على سلامة البلد. فالنقابة الآن من جبن هؤلاء ورعونتهم حاكم أوحد يرزأ بمهمة الحكومات والبرلمانات، وينتشي ضاحكا من الهدايا المجانية التي تقدمها له الحكومات.
وما المخرج؟
لا مخرج إلا بتدمير هذه النقابة بالقانون لا بالعنف الذي يمكنها من وضع الضحية فتستأسد. هناك ألف خطيئة قانونية تمارسها النقابة؛ أولها فرض اقتطاع المساهمات النقابية على موظفي القطاع العام من قبل الحكومة وتحويلها إلى النقابة، وهو إجراء مخالف لكل التراتيب ويجري به العمل منذ الستينات حين كانت النقابة خلية من خلال حزب الدستور الحاكم.
وقد كانت مطالبة الأمين العام من المكلفة بإدارة شركة الطيران بدُفعة من هذه المساهمات قبل حلول أجل التحويل المعتاد؛ القطرة التي أفاضت كأس غضب النقابة، فأسقطت المكلفة بالضغط على من كلفها، وكان من كلفها أجبن من أن يواجه الضغط.
كتبت وأكرر أن قوة النقابة ليست قوة ذاتية، بل هي من جبن الحكومات، واليوم قُدم لنا دليل إضافي على ذلك. ونعتقد أن هناك بلطجة قادمة في الطريق بخصوص صراع الحكومة مع الرئيس، وبالطبع الحكومات أضعف من أن تواجه حلفا مماثلا. وقد وضعت النقابة قوتها الموهومة في صف الرئيس بحجة مقاومة الفساد. ونعتقد أن ما جرى من عزل المكلفة بشركة الطيران هي دُفعة على الحساب في مسار إسقاط حكومة المشيشي وحزامها السياسي الذي يربطه حزب النهضة بخيوط أوهى من خيط العنكبوت. لقد عبثت النقابة برئيس الحكومة وبحزامه، وهي في طريق مفتوح إلى تشكيل حكومة جديدة على هواها وهوى الرئيس وحزامه السياسي الذي يتحرك الآن في أريحية تامة. فريح النقابة تهب على شراعه فيبحر..
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: