من المواقف التي لا ينساها التونسيون، تصريح وزيرة الخارجية الفرنسية ميشيل آليو- ماري قبل ثلاثة أيام من هروب المخلوع؛ باستعداد بلادها لمساعدة النظام بما يحتاج إليه من معدات لقمع الاحتجاجات حتى تنقذه في اللحظات الحاسمة من الثورة التونسية. ورغم استقالة هذه الوزيرة بسبب ما مثّلته من إحراج لفرنسا بحكم علاقتها وأسرتها بعائلة المخلوع، فإن موقفها كان يُمثل الحكومة الفرنسية ويعكس المنطق الذي ما زالت فرنسا تصرّ على اعتماده في علاقتها بتونس حتى بعد الثورة.
كانت تونس بالنسبة للوزيرة الفرنسية وحكومتها "باحة فرنسا الخلفية"، ولم يكن الموقف الأمريكي المناصر للتحركات الاحتجاجية ليُغير شيئا من هذا الواقع الجيواستراتيجي ومما يفرضه على العقل السياسي الفرنسي. ولذلك كان نجاح الثورة التونسية تهديدا كبيرا لفرنسا، وكان "الفشل التونسي الذريع" كما وصفته الصحف الفرنسية (أي نجاح الثورة والعجز عن توقع سقوط النظام التابع لفرنسا بلحظتيه الدستورية والتجمعية) لحظة كارثية بالنسبة للاستخبارات الخارجية الفرنسية، وهو ما ستحاول فرنسا تداركه بمحاولة التحكم في مسارات "مأسسة الثورة" عبر وكلائها المحليين من مختلف المدارس الفكرية.
سقوط المخلوع أو فشل المخابرات الخارجية الفرنسية
رغم أن المخلوع كان أحد حلفاء فرنسا "البغيضين" (أي أحد المستبدين الذين يُحرجون ادعاءات فرنسا في الدفاع عن منظومة حقوق الانسان الكونية بحكم سياساته القمعية حتى ضد "الديمقراطيين" من "أصدقاء فرنسا")، فإن بقاءه في الحكم كان خيارا استراتيجيا للحكومات الفرنسية المتعاقبة سواء أكانت من اليمين أم من اليسار. كانت المعلومات الاستخباراتية الخاطئة التي بعث بها السفير الفرنسي في تونس (وآخرها صباح سقوط المخلوع عندما أعلم باريس بأن الرئيس قد أعاد فرض "النظام" في تونس) السبب الرئيس في الصفعة التي تلقتها الحكومة الفرنسية آنذاك، وهي "صفعة" تعكس المنطق العميق الذي تعاملت به فرنسا مع الثورة التونسية وما زالت. وتمكن صياغة هذا المنطق في المعادلة التالية: نجاح الثورة هو فشل لفرنسا.
وقد يكون علينا في هذا الموضع (لرفع اللبس) أن نوضح أنّ "فرنسا" التي صُفعت هي فرنسا الاستعمارية، لا فرنسا الثورة وحقوق الإنسان وفلسفة التنوير التي لا يمكن أن تُعادي (على الأقل بصورة صريحة) أي مشروع ثوري تحرري. ورغم أن فرنسا الرسمية لم تفصل يوما في سياساتها التوسعية الخارجية (في صيغتها العسكرية المباشرة وفي صيغتها غير المباشرة) بين المصالح الاقتصادية وبين الغطاء الأيديولوجي المتمثل أساسا في "الرسالة الكونية" لنشر حقوق الانسان والتنوير، فإن الثورة التونسية كانت لحظة من اللحظات الحاسمة في فضح النفاق الفرنسي وزيف ادعاءاته الحقوقية، خاصة في بعدها الجماعي (الاقتصادي والسياسي).
هل هي صداقة أم تبعية بغطاء مجازي؟
بعيدا عن "مجازية" اللغة الدبلوماسية وما تحجبه من حقائق، وبعيدا عن السرديات الرسمية على ضفتي المتوسط، فإن صفة "الصداقة" التي كثيرا ما تحضر عند الحديث عن العلاقات التونسية الفرنسية تحتاج إلى نقد جذري انطلاقا من استقراء تاريخ هذه العلاقات وواقعها. قديما كان الفلاسفة يشرطون الصداقة بأن تكون بين متناظرَين، وكانت"الحرية" من أهم شروط التناظر، فالصداقة لا تكون بين حر وعبد. وإذا ما تجاوزنا المستوي البَيذاتي في علاقات الصداقة إلى مستوى العلاقات بين الدول، فإن من حقنا أن نتساءل عن إمكان وجود "صداقة" بين قوة دولية وبين مستعمرة سابقة تفتقد مقوّمات السيادة في مختلف مستوياتها الاقتصادية والثقافية والعسكرية، بل إن من حقنا أن نتساءل عن إمكان قيام صداقة حقيقية بين "ثورة" وبين دولة كانت تعتبر نجاح تلك الثورة فشلا سياسيا واستخباراتيا لها، وما زالت كل تدخلاتها في الشأن التونسي تعكس سعيا دؤوبا لإفشال أي مشروع للتحرر (أو حتى لتعديل شروط "التبادل اللامتكافئ" في الخيرات المادية والرمزية) وتعتبر كل ذلك خطرا استراتيجيا على مصالحها في "حديقتها الخلفية".
الدور الفرنسي المشبوه بعد الثورة
لقد كانت السياسات الفرنسية في تونس دائما تعمل بصورة نسقية ضد مبدأ "حق تقرير المصير"، ولم تكن وثيقة الاستقلال الصوري عنها إلا تجسيدا من تجسيدات هذا العقل الاستعماري الذي كان وما زال يؤمن بأنه لا وجود لفرنسا دون حدائق خلفية أفريقية تابعة وخاضعة لتعليمات باريس. ولمّا كان المنطق الاستعماري الفرنسي (في لحظتيه الاستعماريتين المباشرة وغير المباشرة) متميزا عن الاستعمار البريطاني بمركزية البعد الإأيديولوجي، فقد سعت فرنسا بعد الثورة التونسية إلى توظيف مزاعمها الحقوقية لتحقيق مكسبين أساسيين: من جهة أولى تعميق الانقسام المجتمعي ومنع انبثاق أي مشروع مواطني جامع، ومن جهة ثانية حرف الصراع عن مداراته الاقتصادية الاجتماعية وحصره في سجالات "أيديولوجية" ترتبط بالحقوق الفردية دون الحقوق الجماعية؛ التي قد يهدد طرحها بنسف الهيمنة الفرنسية ونزع الشرعية عن الأساطير التأسيسيسة للنمط المجتمعي التونسي (وهو نسخة مشوّهة وفاسدة من اللائكية الفرنسية وقيمها الجمهورية)، أي قد يهدد بنزع الشرعية عن وكلاء المصالح الفرنسية في تونس ونسف منوالها التنموي الذي أصبح مدخلا ملكيا للدولة الفاشلة. وقد لا نحتاج لبيان صدقية هذا التحليل لأكثر من طرح هذا السؤال: ما هي مسارات "مأسسة الثورة" التي دعمتها باريس غير تلك المسارات التي تخدم مصالح المنظومة القديمة (ماديا ورمزيا) وتُرسخ التبعية الاقتصادية والثقافية لفرنسا أو تعمق الانقسام المجتمعي على أساس هوياتي بائس؟
هل يمكن بناء مشروع تحرر بشروط المستعمر؟
ليس من باب الشوفينية أن نقول إن "الصداقة" التونسية الفرنسية (أو بالأحرى تبعية أغلب النخب التونسية لفرنسا وعجزهم عن التفكير خارج نموذجها اللائكي المأزوم) هي سبب من أهم أسباب هشاشة الثورة التونسية وعجزها عن بناء أي مشروع وطني حقيقي، رغم مرور عشر سنوات على سقوط المنظومة القديمة. وقد يكون من المبالغة أن نحصر الفشل في الدور الفرنسي المشبوه بعد الثورة، ولكننا لن نجانب الصواب إذا ما قلنا إن المشروع الوطني الجامع سيكون حاملا لأسباب فشله إذا ما عجز عن قطع الحبل السُّري بفرنسا اقتصاديا وثقافيا، وهو ما لا يعني بالضرورة معاداتها، بل منتهى ما يعنيه تجاوز استعارة "الصداقة" الكاذبة وبناء الشراكة على أسس أكثر إنصافا وأشد ارتباطا بشعارات الثورة واستحقاقاتها.
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: