البدايةالدليل الاقتصادي للشركات  |  دليل مواقع الويبمقالات رأي وبحوثالاتصال بنا
 
 
   
  الأكثر قراءة   المقالات الأقدم    
 
 
 
 
تصفح باقي إدراجات الثورة التونسية
مقالات الثورة التونسية

المجتمع المدني التونسي عدو للثورة: نموذج إتحاد الشغل ورابطة حقوق الإنسان

كاتب المقال نور الدين العلوي - تونس   
 المشاهدات: 6533



يناقض هذا القول كل الأطروحات السياسية الرائجة بشأن نشأة المجتمع المدني وتطوره، وعن أدواره في التجارب الديمقراطية المعروفة عبر التاريخ الحديث للسياسة والاجتماع، ولكننا نجد عليه في التجربة التونسية مثالاً يكشف أن الدولة التونسية هي التي اصطنعت المجتمع المدني، وكيّفته واستعملته في حدود ما أرادت، فصار أداة حكمها الأعلى كفاءة والأشد تأثيراً تمهد به رقاب الناس، فلا تحتاج إلى الإخضاع العنيف. ولذلك، تحتاج تجربة المجتمع المدني التونسي إلى تفكيك بغير أدوات التحليل الكلاسيكية.

أهم علامات المجتمع المدني التونسي هي النقابة. وُلدت في تونس قبل دولة الاستقلال، ويعتبرها التونسيون أكبر علامة على مجتمع مدني عريق، بل يذهب بعض أنصارها إلى أنها صنعت الدولة، فقد فرضت النقابة برنامجها الاقتصادي والاجتماعي على عقد الستينيات، وظلت ترافق الدولة في نزاع مستمر مرافقةً فرضت مكاسب كثيرة لا ينكرها إلا جاحد. ولكنها في طريق الرفقة الدائمة، تحولت وسيلة ضغط سياسي على الاحتجاج الاجتماعي، وكيفته لمصلحة النظام السياسي، وخصوصاً بعد أن أيقنت طبقة من النقابيين أن مواجهة النظام، على طريقة النقابات الحمراء، عملية فاشلة، لا تنتج مصالح للنقابيين، وهي القناعة التي حكمت سياسة المنظمة طوال عقد الثمانينيات وطوال مرحلة الرئيس زين العابدين بن علي (23 سنة).

لكن النقابة ليست العلامة الوحيدة، فقد سبقت نخبة تونسية ليبرالية ويسارية إلى تأسيس رابطة لحقوق الإنسان، فرضت مكاسب كثيرة، وحدّت من تغوّل النظام السياسي، ومنحت النخبة غرفة حوار سياسي متقدمة، على الرغم من الخلافات الأيديولوجية بين مكوناتها. وبالتوازي، كانت حياة حزبية تعدّدية تنشأ وتترسخ، وتفرض مكاسب صغيرة، لكنها لم تفلح في فرض تعدّدية فعلية في صندوق انتخابي نظيف وغير مزور طوال 40 سنة.

وطبعاً ليست هذه العلامات الوحيدة، فاستقلال الجامعة عن السلطة يعتبر من ركائز مدنية الدولة، ويمكن أن تضاف علامات أخرى، بما يجعل هذه المقدّمة مناقضة لعنوان هذه المقالة. ولكن على الأرض لم يجرِ الأمر كما في الدعاية التي مجّدت هذه العلامات المدنية. لقد مهّد النظام لهذه المؤسسات، وفتح لها بوابات عمل، وقنّن حركة المثقفين والسياسيين، بحيث تصبّ في قوالب تحت الرقابة، واستمرأت النخبة نصف الحرية، ونصف النضال، أو أقل من النصف في محطات كثيرة، بما جنّبها دفع ثمن حقيقي لمدينة الدولة، ولتشكيل مجتمع مدني حقيقي فعال. لقد تحرّك الجميع تحت سقوف محددة مسبقاً، بما أنتج مجتمعاً مدنياً مراقباً وموجهاً. صارت مهمته، مع الوقت، منع توسع كل دعوة مدنية من خارج هذه المؤسسات.

طاب للنخبة أن تعيش في الزواريب التي حدّدتها السلطة، فتحولت إلى أدوات حماية النظام من كل حراك شعبي قاعدي خارج عنها، فصارت هي وسيلة النظام للتأطير والتقييم، وأداته لمنع توسيع قاعدة السياسة خارجها. لقد استولى النظام السياسي الفاشي، في جوهره، على وهم مؤسساتٍ مدنية قبلت بالدور، وكانت إحدى أهم معاركها حماية النظام من المعارضة الإسلامية الجذرية التي كانت ممنوعةً من الاقتراب من هذه المؤسسات، أو الاعتماد عليها فعلاً.

هذه كانت بعض وجوه استعمال النظام الفاشي المجتمعَ المدني التونسي عبر مراحل تطوره. لقد فتح النظام السياسي معاركه ضد كل صوتٍ يعارضه، وكانت هذه المؤسسات من وسائله. كانت النقابة تدار بعلم النظام، وبشخصياتٍ يعرف طبيعتها، بل رباها في محضنته السياسية، وكان أهمّ أعمالها منعَ الإسلاميين من دخولها، والاحتماء بها من تغوّل النظام. إذا كان هناك وهم سابق أوجده النظام نفسه، خصوصاً بعد عام 1978، فإن من دخل النقابة فهو آمن، يمكنه المعارضة بشروط. وبهذا كانت النقابة جاهزة لتبرير سياسات النظام في الوقت الذي أراد ذلك، فبرنامج الإصلاح الهيكلي ما كان له أن يُقبل، لولا موافقة النقابة على التفويت في مؤسساتٍ عموميةٍ، أساء النظام إدارتها حتى وضعها على حافة الإفلاس، ومنها أكثر من خمسة معامل لإنتاج الإسمنت. وكان دعم الإسمنت أكبر الأسباب التي جعلت تونسيين يمتلكون بيتهم الخاص.

كان النظام محتاجاً إلى نصير في معركة البقاء أمام الإسلاميين، فكانت النقابة مؤسسة المجتمع المدني الموهوم، فوضعها حيث أراد، فأدّت الدور أفضل أداء، وعاضدتها رابطة حقوق الإنسان التي حوّلت كل القضايا السياسية التي اتهم فيها إسلاميون إلى قضايا حق عام، تُرجى فيها ظروف التخفيف، لا إسقاط الدعاوى غير القائمة أصلاً، إلا في ذهن النظام ورابطته. ومن قبيل التذكير فقط، فإن الإسلامي الوحيد (سحنون الجوهري) الذي تسرّب إلى الرابطة مات في سجن بن علي، ولم يحظ حتى بعلاجٍ مناسبٍ لمرضه، وإن آخر رئيس للرابطة، المنصف المرزوقي، الذي رفض توصيف قضايا الإسلاميين قضايا حق عام، أكمل حياته مشرّداً في تونس وخارجها، وتخلت عنه الرابطة التي كان رئيسها.

لقد فضلت مؤسسات المجتمع المدني في تونس الإنحياز إلى مشروع النظام، وحمته من كل معارضة راديكالية، بما في ذلك شخصيات يسارية قوية وفاعلة، وليس فقط الإسلاميين. ماذا يبقى من مدنية هذه المؤسسات والأدوات السلطوية إذا كانت ارتضت لنفسها هذا الدور المعادي لكل مدنية.

بعد الثورة في عام 2011، انكشفت هذه المؤسسات أكثر، ولا نرتبك إذا قلنا إنها خانت الثورة، وانحازت إلى الثورة المضادة، فخرّبت المسار الثوري، وبفضلها لا تزال منظومة بن علي تتنفس، بل تحلم باستعادة النظام في المشهد الآن، فالنقابة تقف مع الفاشية، سليلة نظام بن علي، وتمارس العنف الذي كانت تمارسه مليشيات السلطة، وتودّ أن لا يطولها العقاب.

قادت النقابة بعد الثورة حركات إضرابية في القطاع العام، وسكتت عن القطاع الخاص، وكانت إضراباتها سبباً رئيسياً في إفشال كل الحكومات المعادية لنظام بن علي، والمنتمية إلى الثورة، وجاءت بها الصناديق الانتخابية. كانت السبب الرئيسي، عبر حوارٍ وطني ترعاه فرنسا، في عودة حزب نداء تونس وحكمه بين 2014 و 2019. ولا تزال تقوم بالدور نفسه، فتحتج فقط، حيث يظهر عدو للنظام (وزراء إسلاميون فقط) وتسكت عن غيرهم.

أما رابطة حقوق الإنسان، فقد خرجت من دائرة الاهتمام، منذ تخلت عن قضايا السلفيين، ولم تحتجّ، ولو ببيان، على إضراب جوع وحشي أودى بهم، فلم يحظوا حتى بمحاكمة عادلة، وقد حبسوا بتهم لم تثبت في محكمة، بل رسّخها إعلامٌ يأتمر بأوامر نظام بن علي، ويديره رجالاته، بعد خلع رئيسهم. هي الآن خلية نائمة لحزب العمال الشيوعي، يوقظها إذا أراد التشهير بإسلامي ارتكب حماقةً في مكان ما.

من مهام تصحيح الأفكار السائدة عن تونس، مراجعة الوهم الذي سوّقته هذه المؤسسات عن نفسها، عربياً خصوصاً، وطبقاً لرغبة النظام نفسه، في وجود مجتمع مدني متطوّر، حمى الناس من تغوّل السلطة. الأصل أن نراها مؤسساتٍ ذات شكل مدني، أعلنت أفكاراً مدنية وأفكاراً حقوقية، ولم تعمل على تنفيذها، بل اشتغلت في مربعاتٍ حدّدها لها النظام.

ما لم يصنعه النظام في تونس من هذه المؤسسات، وتأسس على الرغم منه، أفلح في تدجينه واستخدامه، برضى الذين قدّموا أنفسهم أبطال المجتمع المدني التونسي منذ خمسين عاماً. ولذلك، كانت نتائج عملها دوماً حمايته من السقوط، حين كان الاحتجاج الشعبي يصل إلى ذرى عالية تهدد سلامته.

أول النص المدني التونسي الجديد لما بعد الثورة يكتب ضد هذه المؤسسات، لا بواسطتها أو برغبتها، وقد بدأت الكتابة.

-------------
وقع تغيير العنوان الأصلي
محرر موقع بوابتي


 اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة:

تونس، المجتمع المدني، التبعية،

 





تاريخ نشر المقال بموقع بوابتي 17-08-2020   الموقع الأصلي للمقال المنشور اعلاه المصدر: العربي الجديد

تقاسم المقال مع اصدقائك، أو ضعه على موقعك
لوضع رابط لهذا المقال على موقعك أو بمنتدى، قم بنسخ محتوى الحقل الذي بالأسفل، ثم ألصقه
رابط المقال

 
لإعلام أحدهم بهذا المقال، قم بإدخال بريده الإلكتروني و اسمك، ثم اضغط للإرسال
البريد الإلكتروني
اسمك
شارك برأيك
لوحة مفاتيح عربية بوابتي
     
*    الإسم
لن يقع إظهاره للعموم
     البريد الإلكتروني
  عنوان المداخلة
*

   المداخلة

*    حقول واجبة الإدخال
 
كم يبلغ مجموع العددين؟
العدد الثاني
العدد الأول
 * أدخل مجموع العددين
 
 
أكثر الكتّاب نشرا بموقع بوابتي
اضغط على اسم الكاتب للإطلاع على مقالاته
محمد عمر غرس الله، عبد الله زيدان، كريم السليتي، إيمى الأشقر، أحمد بن عبد المحسن العساف ، د. أحمد محمد سليمان، د - مصطفى فهمي، عبد العزيز كحيل، أنس الشابي، محمد شمام ، عراق المطيري، محمد العيادي، د - عادل رضا، د. مصطفى يوسف اللداوي، إسراء أبو رمان، د. طارق عبد الحليم، جاسم الرصيف، فتحـي قاره بيبـان، وائل بنجدو، علي عبد العال، صلاح الحريري، عمار غيلوفي، مراد قميزة، د- محمود علي عريقات، منجي باكير، يزيد بن الحسين، يحيي البوليني، فوزي مسعود ، محمود سلطان، تونسي، طلال قسومي، د. صلاح عودة الله ، محمد الياسين، إياد محمود حسين ، د. عادل محمد عايش الأسطل، كريم فارق، طارق خفاجي، عمر غازي، عبد الغني مزوز، مصطفى منيغ، محمود طرشوبي، سليمان أحمد أبو ستة، علي الكاش، بيلسان قيصر، د. كاظم عبد الحسين عباس ، رافد العزاوي، محمود فاروق سيد شعبان، صالح النعامي ، د. ضرغام عبد الله الدباغ، محمد اسعد بيوض التميمي، د - ‏أحمد إبراهيم خضر‏ ، د - محمد بن موسى الشريف ، ماهر عدنان قنديل، د. عبد الآله المالكي، د - الضاوي خوالدية، أ.د. مصطفى رجب، د - صالح المازقي، الناصر الرقيق، فتحي العابد، فهمي شراب، حسني إبراهيم عبد العظيم، فتحي الزغل، سلام الشماع، الهيثم زعفان، د- جابر قميحة، سعود السبعاني، أحمد ملحم، مجدى داود، د - محمد بنيعيش، د- هاني ابوالفتوح، سيد السباعي، حسن عثمان، ضحى عبد الرحمن، د.محمد فتحي عبد العال، عزيز العرباوي، عبد الله الفقير، رضا الدبّابي، مصطفي زهران، المولدي اليوسفي، حاتم الصولي، صلاح المختار، خالد الجاف ، سلوى المغربي، محمد يحي، صفاء العراقي، صفاء العربي، خبَّاب بن مروان الحمد، أ.د أحمد محمّد الدَّغَشِي ، أبو سمية، رمضان حينوني، رحاب اسعد بيوض التميمي، المولدي الفرجاني، عبد الرزاق قيراط ، د- محمد رحال، محمد الطرابلسي، محرر "بوابتي"، العادل السمعلي، محمد علي العقربي، عواطف منصور، ياسين أحمد، حسن الطرابلسي، نادية سعد، د - شاكر الحوكي ، الهادي المثلوثي، سامح لطف الله، د - المنجي الكعبي، صباح الموسوي ، سامر أبو رمان ، حميدة الطيلوش، محمد أحمد عزوز، رشيد السيد أحمد، أحمد الحباسي، أحمد النعيمي، أشرف إبراهيم حجاج، سفيان عبد الكافي، د. خالد الطراولي ، رافع القارصي، د. أحمد بشير، أحمد بوادي،
أحدث الردود
ما سأقوله ليس مداخلة، إنّما هو مجرّد ملاحظة قصيرة:
جميع لغات العالم لها وظيفة واحدة هي تأمين التواصل بين مجموعة بشريّة معيّنة، إلّا اللّغة الفر...>>


مسألة الوعي الشقي ،اي الاحساس بالالم دون خلق شروط تجاوزه ،مسالة تم الإشارة إليها منذ غرامشي وتحليل الوعي الجماعي او الماهوي ،وتم الوصول الى أن الضابط ...>>

حتى اذكر ان بوش قال سندعم قنوات عربيه لتمرير رسالتنا بدل التوجه لهم بقنوات امريكيه مفضوحه كالحره مثلا...>>

هذا الكلام وهذه المفاهيم أي الحكم الشرعي وقرار ولي الأمر والمفتي، كله كلام سائب لا معنى له لأن إطاره المؤسس غير موجود
يجب إثبات أننا بتونس دول...>>


مقال ممتاز...>>

تاكيدا لمحتوى المقال الذي حذر من عمليات اسقاط مخابراتي، فقد اكد عبدالكريم العبيدي المسؤول الامني السابق اليوم في لقاء تلفزي مع قناة الزيتونة انه وقع ا...>>

بسم الله الرحمن الرحيم
كلنا من ادم وادم من تراب
عندما نزل نوح عليه السلام منالسفينه كان معه ثمانون شخصا سكنو قريه اسمها اليوم هشتا بالك...>>


استعملت العفو والتسامح في سياق انهما فعلان، والحال كما هو واضح انهما مصدران، والمقصود هو المتضمن اي الفعلين: عفا وتسامح...>>

بغرض التصدي للانقلاب، لنبحث في اتجاه اخر غير اتجاه المنقلب، ولنبدا بمسلمة وهي ان من تخلى عن مجد لم يستطع المحافظة عليه كالرجال، ليس له الحق ان يعامل ك...>>

مقال ممتاز...>>

برجاء السماح بإمكانية تحميل الكتب والمراجع...>>

جل الزعماء العرب صعدوا ،بطرق مختلفة ،تصب لصالح المخطط الانتربلوجي العسكري التوسعي الاستعماري،ساهموا في تبسيط هدم حضارة جيرانهم العربية او الاسلامية عم...>>

مقال ممتاز
لكن الاصح ان الوجود الفرنسي بتونس لم يكن استعمارا وانما احتلال، فرنسا هي التي روجت ان وجودها ببلداننا كان بهدف الاعمار والاخراج من ح...>>


الاولى : قبل تحديد مشكلة البحث، وذلك لتحديد مسار البحث المستقل عن البحوث الاخرى قبل البدء فيه .
الثانية : بعد تحديد مشكلة البحث وذلك لمعرفة الا...>>


بارك الله فيكم...>>

جانبك اصواب في ما قلت عن السيد أحمد البدوي .

اعلم أن اصوفية لا ينشدون الدنيا و ليس لهم فيها مطمع فلا تتبع المنكرين المنافقين من الوها...>>


تم ذكر ان المدخل الروحي ظهر في بداياته على يد شارلوت تويل عام ١٩٦٥ في امريكا
فضلا وتكرما احتاج تزويدي ب...>>


الدين في خدمة السياسة عوض ان يكون الامر العكس، السياسة في خدمة الدين...>>

يرجى التثبت في الأخطاء اللغوية وتصحيحها لكي لاينقص ذلك من قيمة المقال

مثل: نكتب: ليسوا أحرارا وليس: ليسوا أحرار
وغيرها ......>>


كبر في عيني مرشد الاخوان و صغر في عيني العسكر
اسال الله ان يهديك الى طريق الصواب
المنافقون في الدرك الاسفل من النار...>>


وقع تصميم الموقع وتطويره من قبل ف.م. سوفت تونس

المقالات التي تنشر في هذا الباب لا تعبر بالضرورة عن رأي صاحب موقع بوابتي, باستثناء تلك الممضات من طرفه أومن طرف "بوابتي"

كل من له ملاحظة حول مقالة, بإمكانه الإتصال بنا, ونحن ندرس كل الأراء