أنس الشابي - تونس
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 6835
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
نشر محمد الطالبي في الأيام الأخيرة كتابا عنوانه "قضية الحقيقة" في حوالي المائة صفحة تناول فيها جملة من المسائل التي قصد تقريبها من أفهام المواطن العادي بلغة سهلة كما قال، ولكن سهمه صاف عن المرمى فالأخطاء لا عدّ لها ولا حصر وبناء الكتاب مفكّك وتراكيبه سيئة للغاية ويبدو أنه كتبه على عجل بغية تصفية حسابات شخصية مع العديد من الأسماء فكفّر من كفّر وشيطن من شيطن، غير أن الذي لفت نظري هو تهجّمه المجاني على الزعيم بورقيبة بشراسة لا تصدر إلا عن حاقد وفي نفس الوقت تراجعه عن كل ما صدر عنه سابقا في خصوص حزب حركة النهضة وما جاوره، وبما أن الطالبي ذكر أحداثا تاريخية أسّس عليها أحكاما ظالمة في حق الأموات الذين لا يستطيعون الردّ لم يكن أمامي إلا أن أسفه ما ورد في الكتاب من أكاذيب استنادا إلى الوثائق وإلى ما علمت عن الطالبي في مسيرتي المهنية خصوصا لمّا كنت في ديوان وزير الثقافة والكثير من شهود تلك الفترة ما زالوا أحياء، جملة النقاط التي سأتناولها هي التالية:
الأولى تهمّ الجمعية التي أسّسها ونسب نفسه إليها بقوله مفكر مسلم قرآني، إذ تساءلت منذ البداية لماذا أضاف الطالبي لفظ قرآني لصفته كمسلم؟ ألا يكون القرآن مشمولا ضمنا في وصف الإنسان نفسه بأنه مسلم؟ وهل هنالك مسلم إنجيلي ومسلم توراتي؟ ثم ما هو الشيء الذي يتحرّج الطالبي وجماعته من التصريح به فيتخفون وراء القرآن؟، هذه النحلة التي ينتسب إليها الطالبي لا تؤمن بالحديث النبوي وتشكك في السيرة النبوية ولا تعتبر أن السنة هي المصدر الثاني للتشريع، وحتى لا تثير اللغط حول حقيقة أهدافها لجأت إلى هذا النوع من التحيّل على الجمهور، والغريب في الأمر أن الطالبي خصّص كتابه للتهجم على نخبة من خيرة ما أنجبت تونس في الثلث الأخير من القرن الماضي كعياض ابن عاشور ويوسف الصديق وفتحي بن سلامة وعبد الحميد الأرقش وحمادي الرديسي والمبدع الفنان فاضل الجزيري وغيرهم ممن كفّرهم واتهمهم بالنفاق وبأنهم يظهرون غير ما يبطنون، والحال أنه هو نفسه أتي بما عاب عليهم فعله قال أبو الأسود الدؤلي:
لا تَنهَ عَن خُلُقٍ وَتأتيَ مِثلَهُ ... عارٌ عَلَيكَ إِذا فعلتَ عَظيمُ
الثانية تخصّ الشتائم التي كالها للزعيم بورقيبة حيث اعتبره دكتاتورا كليانيا وطاغوتا وكفّره وقال إنه لا يترحّم عليه(1)، هذا الكلام من الممكن أن يصدقه من لم يعش تلك الفترة ولكن نحمد الله الذي أكرمنا بمعاشرة من عرفوا شخوص ورموز دولة الاستقلال جميعا، لمّا يقول الطالبي عن الزعيم بأنه: "بذر أموال الدولة في بناء القصور... ومنها قصر صقانس على الخصوص"(2) نجيبه بأنه كان من أكثر الناس زيارة لقصر صقانس لأنه كان مكلفا بتنظيم احتفالات أعياد الميلاد في الثالث من أوت من كل سنة وكان ينتقل صحبة طاقم اللجنة الثقافية القومية إلى القصر للإشراف والتنظيم، علما بأن بورقيبة لم يوسّمك إلا لنشاطك المحمود لديه في كل صائفة، لقد أكرمك بورقيبة غاية الإكرام ولكنك للأسف لم تحفظ المعروف لأهله.
الثالثة قال في وصف بورقيبة: "لا جدال أيضا في أنه كان دكتاتورا كليانيا على النمط البولشيفي الحزب الواحد والديوان السياسي واللجنة المركزية ولجان التنسيق والشعب"(3) وتغافل عن ذكر اللجنة الثقافية القومية التي ترأسها منذ سنة 1980 وبقي فيها 13 سنة كاملة وهي الجهة المكلفة بالدعاية الثقافية للحزب الحاكم التي كانت تروّج خطابه في كامل أنحاء الجمهورية عن طريق المحاضرات وعرض الأفلام والمسرحيات وتحيي أعياد الميلاد وغيرها من المناسبات الوطنية ومن الجدير بالملاحظة أننا لا نجد هذا النوع من الهياكل إلا في البلدان الاشتراكية بحيث نخلص إلى القول بأنه إن صح أن بورقيبة دكتاتور كلياني فإن الطالبي ليس إلا غوبلز الثقافة في تونس أيامها.
الرابعة وأنا أقرأ الكتاب جال بخاطري الكتاب الأسود الذي نشره المرزوقي ولم يسلم من أذاه لا الحيّ ولا الميّت ويبدو أن الطالبي تأثر به لسابق علاقة بينهما فاستروح منه أسلوبه في تصفية الحسابات حتى مع من غادرنا إلى عفو ربه من ذلك تعريضه بالمرحوم العفيف الأخضر الذي لا يملك المرء تجاه مدوّنته الفكرية سوى الاحترام اتفق معه أو اختلف، فقد عُرف الطالبي واشتهر بحقده وعدم تورّعه عن الإساءة حتى للأموات من ذلك أنه حضر تكريما للمرحوم سليمان مصطفى زبيس وأثناء إلقاء كلمته انتقل إلى السخرية بعلمين من أكثر أعلامنا حضورا في الفضاء الثقافي المرحومين المنعّمين حسن حسني عبد الوهاب وعثمان الكعاك فضلا عن المكرّم(4).
الخامسة لمّا يتجرأ الطالبي على تكفير الزعيم فإنه يدّعي لنفسه ما لا حق له فيه إذ ليس من مهامه ولا ممّا يسمح له به اختصاصه أن يُكفِّر هذا أو يحكم بردّة ذاك لأن هذا الحكم لا يصحّ أن يطلق إلا بعد استيفاء شروطه التي حدّدها الفقهاء حتى لا يؤخذ الإنسان بالظن قال الشيخ محمد الطاهر ابن عاشور في صحابي بقي يشرب الخمر حتى بعد نزول آيات التحريم: "فالذي يعتبر الذنوب كفرا يلزمه أن يعتبرها خروجا عن الجماعة فيرزأ الإسلام جمهرة عظيمة من أتباعه ويحرمه فوائد جمة من انتصاره بهم وانتفاعه، هذا عمرو بن معد يكرب كان من وجوه المسلمين وسادة العرب ويذكر عنه أنه لم ينفك عن شرب الخمر من بعد تحريمها، فلو أنه بشربه للخمر عدّوه كافرا لرجع إلى صفوف المشركين، فخسر الإسلام مواقفه العظيمة في الفتوح في القادسية وغيرها، فرحمه الله وإن شرب الخمر، ورغمت أنوف المكفرين بالذنوب لا أنف أبي ذر"(5) ويعلم الجميع أن الزعيم كان محاطا بالخيرة من الشيوخ ممّن لا يمكن لأي كان أن يشكك في إيمانهم وصلاحهم وشجاعتهم بحيث لو وجدوا منكرا في الزعيم يستوجب الحكم بتكفيره لما تأخروا عن الإصداع به كمحمد الطاهر ابن عاشور ومحمد العزيز جعيط ومحمد الفاضل ابن عاشور ومحمد المختار ابن محمود، وحده ابن باز الوهابي أصدر بيانا في ذلك فهل في هذا الاتهام رسالة إلى جهة ما خصوصا لمّا نجد أن الطالبي يغازل حزب حركة النهضة من ذلك قوله "القرضاوي شيخ فتنة.. ولكن الغنوشي انسلخ عنه"(6) أو قوله بأنه تخلى عن صقوره ووضعهم في الاحتياطي(7) أو قوله بأنه اعتقد أن دخوله النداء هو: "درعنا الحصين ضد حزب النهضة يقينا من حماقات السلفية"(8) أي أن انخراطه في النداء أيامها لم يكن نتيجة تقدير لخطورة ما يدعو إليه حزب الحركة بل للوقاية من حماقات السلفية.
السادسة حديثه عن معركة الجلاء في بنزرت وادعاؤه أن الزعيم دفع بمواطنيه إلى معركة مخسورة مسبقا(9)، آخر من يمكن له أن يتحدث عن الحركة الوطنية ومعركة الاستقلال التي قادها الزعيم الحبيب بورقيبة هو محمد الطالبي بالذات لأنه في فترة شبابه وأيام كان طلبتنا في فرنسا يجاهدون تحت راية الحزب الحرّ الدستوري من أجل التعريف بالقضية التونسية وكسب الأنصار كان الطالبي كما يقول عن نفسه: "شخصيا لم أكن أشارك بصفة نضالية في الحياة السياسية لم أكن مثل مصطفى الفيلالي ولا أحمد بن صالح... ولم أكن مثل محمد المصمودي الذي كان هو الآخر يهتم أيضا بالسياسة أكثر من الدراسة... وفيما يخصني فقد كنت في تلك الفترة مجرد كواكب للحياة السياسية ولم أشارك في الحياة النضالية، عكس بعض الأصدقاء الذين أصبحوا فيما بعد من الزعماء والقادة السياسيين ومنهم محمد المزالي ومحمد المصمودي ومصطفى الفيلالي والشاذلي القليبي وأحمد بن صالح الخ..."(10) هذا الاعتراف من الطالبي بتخليه عن الحركة الوطنية واستقالته من شرف النضال من أجل استقلال الوطن يثبت ما رواه لي المرحوم أبي القاسم محمد كرو من أن الطالبي تقدم للانخراط في الجيش الاستعماري الفرنسي ولكن طلبه رُفض لقصر قامته، ما ذكرت ليس إلا غيضا من فيض من الوثائق التي لا تنضب بإذن الله ففي الجراب المزيد من الردود على الأكاذيب التي روّجها عن بورقيبة وعن ابن علي ممّا ينزع عنه تلك الهالة من الأوهام التي صنعها له الجهلة ممّن لم يقرؤوا له حرفا واحدا بل اكتفوا بما يروّج عنه تلامذته في إطار التساند المهني.
---------------------
الهوامش
1) قضية الحقيقة ص 58.
2) نفسه ص 53.
3) نفسه ص 53.
4) جريدة الوقائع، السنة الثانية العدد90، من 31 ماي إلى 6 جوان 2013.
5) "أصول النظام الاجتماعي في الإسلام" نشر الشركة التونسية للتوزيع والدار العربية للكتاب، تونس 1979، ص 88.
6) جريدة أخبار الجمهورية من 11 إلى 17 مارس 2015.
7) قضية الحقيقة ص 51.
8) نفسه ص 53.
9) نفسه ص 58.
10) "عيال الله" لمحمد الطالبي، دار سراس للنشر، تونس 1992، ص 34.
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة:
أي رد لا يمثل إلا رأي قائله, ولا يلزم موقع بوابتي في شيئ
21-01-2016 / 20:13:42 فوزي مسعود
فساد منهجي في الرد
لا اريد ان اجادل الاستاذ أس الشابي في موقفه من الطالبي، ولكني أرى أن بعض النقاط التي ارتكز عليها في الرد فاسدة منهجيا، مما يضعف جملة ردوده
يعتمد الكاتب في دحض تهم الطالبي ضد بورقيبة، كون الطالبي كان مشاركا في احتفاليات البذخ البورقييبية ومنضويا في آلته الدعائية، وهذا خلط لا يصح، إذ حقيقة التهم الموجهة لبورقيبة مستقلة في وجودها واثباتها عن الكاتب وانخراطه فيها من عدمه، يعني ان يكون الكاتب مشاركا في تلك الاحتفاليات لا يغير من حقيقتها شيئا، وان يكون الكاتب منافقا في اقصى الحالات كما يريد الكاتب القول، امر لا يغير من حقيقة الاتهام الموجه لبورقيبة
النقطة الثانية، وهي اعتماد الكاتب الأستاذ أنس على رد تهم الكفر الموجهة لبورقيبة، كون علماء باسمائهم لم ينكروا على بورقيبة امرا ما، وهذا ايضا كلام فاسد منهجيا، اذ الحقيقة اي حقيقة كون بورقيبة كافر ام لا امر مستقل عن راي العلماء المذكورين، فيمكن ان يكون الفرد كافرا ومتلاعبا بالدين ومرتدا او اي شيئ، مع وجود علماء دين بجواره من دون الإنكار عليه، بل هذا امر متعارف عليه عبر التاريخ الاسلامي، بل هو الاعم، ولا افهم لماذا يستثنى ممن ذكر من العلماء من ان يكونوا مجرد فقهاء سلطان
ثم لا اعرف سببا لتقديس آل عاشور الاب والابن، الا الصنمية الفكرية والفساد المنهجي، الذي يخلط بين حيازة العلم والعمل به، و حقيقة أن الأمرين مستقلين، فان تكون عالما لا يعني بالضرورة ان تكون عاملا بذلك العلم، هذا بالنظر العقلي، أما بالإستقراء، فإننا نخلص لكون عموم من كان دائرا في ركب الحكام عبر التاريخ الإسلامي هو مجرد فقيه سلطان يضع علمه لتكريس سلطة المتحكم بالواقع، وأرى ان هذا انطبق كاملا على العاشورين منذ عهد الإحتلال وحتى زمن بورقيبة
21-01-2016 / 20:13:42 فوزي مسعود