د - صالح المازقي - تونس
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 9689
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
اغتيل المناضل الصادق الأستاذ شكري بلعيد، وظن المجرمون أنهم أخرسوا صوت الحرية الصادع بالحق... تذكرني هذه الجريمة النكراء بحادثة اغتيال الشهيد فرحات حشاد يوم 5 ديسمبر عام 1952م على يد المنظمة الإرهابية الفرنسية (اليد الحمراء)، لكن... هذه الجريمة أشد بشاعة من تلك التي اقترفها الاستعمار منذ 61 سنة... بنفس الطريقة الغادرة... رصاصة في الرأس واثنتان في الرقبة والصدر... قتل الأستاذ بلعيد على سنة 49 عام جاء على يد أصحاب الرايات السوداء التي تعكس سواد قلوبهم وظلمة عقولهم... لقد تخطت عملية الاغتيال هذه شخص الأستاذ بلعيد لتغتال المد الحداثي للشعب التونسي الذي لن يقبل بكل شرائحه والثقافية وطبقاته الاجتماعية العودة إلى عصر الظلمات والجهالة...
اغتيل الأستاذ المعارض ورمز اليسار التونسي منذ أن كان طالبا بكلية الحقوق ليبقى رحمه الله وفيا لانتمائه الإيديولوجي ولم تغريه المناصب ليقلب المجن أو (الفيستة) كما فعل غيره... لم يفرط الشهيد في مبادئه ولم يعرضها في سوق المزاد السياسي... سقط الأستاذ شكري بلعيد في ساحة الشرف دفاعا على الثورة التي كان من أبرز رموزها منذ لحظتها الأولى حين كان يتصدر النخبة التي خرجت في شوارع العاصمة وخطيبا في كل اعتصامات القصبة... كان الشهيد على قدرا كبير من الأخلاق السياسية النادرة... كان بإمكانه رحمه الله أن ينقض على الدولة الجريحة وقصر الحكومة معطل...
كم قلت وكم تمنيت لو أنه تقمص شخصية القائد الميداني وتجرد من النزعة الأخلاقية في علم السقوط والأخلاقي والتّدني السياسي، ليأخذ بزمام الأمور في فوضى عامة سادة وقتئذ... ارتعدت فرائصنا صبيحة هذا اليوم 6 فيفري 2013 وفاضت دموعنا أنهارا على اغتيال الثورة التونسية بدم بارد وقلب لا يخشع وعين لا تدمع... ونحن نتلقى خبر اغتيال أحد أبرز رموزها الميدانيين الذي كان يرهب بوجوده ويخيف بحججه المنطقية كل مناظريه و/أو محاوريه حيثما حلّ...
كذلك كان الراحل الشهيد، رصينا، عقلانيا، دقيق التعبير، واضح الأفكار، يدفعه حبه لتونس وغيرته على حقوق المعذّبين في تونس من كل الشرائح الاجتماعية... كذلك كان رحمه الله صادقا مع نفسه، صادقا مع غيره... لا أقول هذا في الشهيد بعد وفاته، بل قلته منذ أسبوعين حين سألني أحد الأصدقاء وهو طبيب: من ترشح كأفضل رئيس للجمهورية؟ قلت في لحظتها وبدون تردد الأستاذ شكري بلعيد. ويعلم الله أني لم أقابله ولا مرة واحدة في حياته ولم تجمعني به الصدفة... لكن كنت أشعر أن للرجل بذرة القائد وأرضية الزعامة... وكان لدي إحساس، بنيته على متابعتي لكل رؤساء الأحزاب السياسية بعد الثورة...
ويبقى السؤال الذي ينبغي طرحه بكل حزم وموضوعية، لماذا قطعت تونس الثورة هذه الخطوة نحو القاع بعد أ دخلت ومنذ مدّة منعرج العنف الذي حذرنا منه كل الجهات الرسمية منذ أحداث جامعة منوبة وأطلقت في حينها صيحة فزع في مقال بعنوان: الجامعة تحترق؟ لماذا يصم المسؤولون أذانهم على كلمة الحق؟ لماذا تتعامى أبصارهم وبصائرهم وتقفل قلوبهم على أزمة للبلاد وبؤس العباد؟ أسئلة كثيرة ولا منتهية، تلّح على سماع أجوبة شافية.
من السباب المباشرة التي أتت بأجل المجاهد الشهيد شكري بلعيد قبل الكتاب، طرح لحلول سياسية قادرة على تحقيق هدفين رئيسيين، أولهما الخروج بالبلاد من مأزقها السياسي الذي وقعت نتيجة ضحالة الثقافة السياسية التي سادة المجتمع لعقود طويلة؛ ثانيهما غرس الوعي الثوري من ثاروا على الظلم، ثم غفلوا عن مكسبهم التاريخي الذي جاء من أوسع بوابات التاريخ ليخرج (خوختها)(*). فلو وحدنا الهدفين لقلنا أن المرحوم كان يرمي بالأساس لتصحيح الخطأ الذي وقع فيه بسطاء النّاخبين حين اختاروا من (يخاف الله) وفضلوهم "في جهل سياسي" عن التيارات التي توصف بالعلمانية والكفر والإلحاد...
لم تدخل تونس دوّامة العنف باغتيال شكري بلعيد، بل دخلت في هذه الدّوامة اللئيمة/الشيطانية في اللحظة التي انطلقت فيها الألسن وعلى الملأ في السباب والشتم والتخوين ومن ثمة التكفير والتسفيه والتزندق... في حركة شُبِّهَ للجميع أنها ديمقراطية وما هي بالديمقراطية... وقد ازداد (الطين بلّة) بدخول بارونات السياسة ومن شابههم من منافقين ومرجفين وسطوتهم على الدولة والبلاد...
لم يكن مستغربا (بالنسبة لي على الأقل) ما حدث في هذا اليوم الحزين شديد السواد. لقد نبهت في كل مداخلاتي في بعض المناسبات العلمية من تصاعد الفاشية الدينية التي وجدت في ما يعرف برابطات حماية الثورة، تلك الرابطات المشبوهة وغير مأمونة العواقب... وكأن الثورة قاصرة، تنتظر عائلا يحميها... لا يخلو هذا التّصور عن منطق المومس التي ترضخ قصرا لقهر من يحميها... فهل تحولت الثورة التونسية إلى مومس مستضعفة؟...
إضافة إلى ما تقدم، أشير بكل وضوح إلى دور حكومة الترويكا المتخاذل في تعاملها مع العابثين بقيم الدولة التونسية ورموز الجمهورية وفي مقدمتها حادثة إنزال العلم الوطني ورفع العلم الأسود، حامل الشهادة التي نطقنا بها منذ نعومة أظافرنا التزمنا بها في شبابنا وكهولتنا ونتمنى أن نموت عليها في شيخوختنا... حادثة غضّت عليها الحكومة النظر، كما غضت بصرها وأشاحت بوجهها على هدم وحرق أضرحة الأولياء والصالحين... كما تراخت مع التهديد العلني بالقتل في تجّمع شعبي بالعاصمة وأمام كمرات التلفزة التي نقلته وسجلته بالصورة والصوت، الذي توجه به أحدهم للسيد الباجي قائد السبسي... لا يمكن أن ننسى أحداث السفارة الأمريكية وترك الحكومة للحبل على الغارب وهي تتعامل مع المشاغبين بقفّازات من حرير... وغيرها كثير جدا.
لقد سكت الحكومة على كل من تطاول عليها بغزو الخلدونية من طرف مجموعة خارجة عن القانون يقودها شيخ دين وإمام جامع الزيتونة المعمور... ثم بالغ الشيخ الجليل في إهانته للحكومة والدولة والشعب التونسي حين رفض الامتثال لحكم قضائي... لقد نتج عن ضعف الحكومة وهشاشتها انفلات طال كل المجالات الحيوية حتى فقدت مصداقيتها وفقد الشعب ثقته وأمنه في سربه وفقد المل في العيش الكريم... لا يجب أن يغضب حزب الأغلبية الحاكمة من ردود الفعل الجماهير الغاضبة والمكلومة في أبرز أبنائها...
أين المجلس التأسيسي صاحب الشرعية الوحيدة في البلاد من كل تلك الأحداث التي تعامل معها ببرود ولا مبالاة، يوحيان بالموافقة عليها وتأييد من اقترفوها... وتكمن خطورة سلبية المجلس التأسيسي صراعاته على غنم الامتيازات المادية قبل انقضاء مدّتهم النيابية... صراعات ضيقة الأفق وفي الوقت الذي تحولت فيه البلاد إلى معبر للمخدرات والسلاح غير المرخص فيه...
أما رئيس الجمهورية (وهنا مربط الفرس) الذي قبل بمنصب مفرغ من جلّ الصلاحيات التي تمنحه صفة الرئيس وقاع من وجوده بالتّشريفات والمداخلات التي لا تغني ولا تسمن من جوع في مجتمع أبوي لا يمكنه العيش إلا في ظل قيادة صلبة، قوية وعادلة... شأنه شأن كل المجتمعات العربية والإسلامية التي لا تستقيم أوضاعها إلا في وجود زعامة من نبي (وقد ولّى عصر النبوة) و/أو أب و/أو شيخ قبيلة وهذا في المجتمعات التقليدية التي لم نتخلص من ضوابطها الأخلاقية والاجتماعية والثقافية في ظل الدولة الوطنية... لا يعني أني من أنصار الاستبداد ولكني أوضح هنا وأشرح أسباب عدم فهمنا للديمقراطية وقواعدها من ناحية ومن ناحية أخرى أفسر المكانيزمات الخفية التي لم نستشعر ضرورتها ولم تفهم طريقة عملها فعجزنا بالتالي عن التفاعل معها وتفعيلها لصلحنا أجيال الثورة القادمين... إنّ العقول المتكلسة ترفض التّغيير ولا يمكنها العيش في منظومة الحرية والمساواة والكرامة التي تتعارض مع مبادئ السمع والطاعة والخنوع...
لقد منح المجرمون على اختلاف مستوياتهم من مدّبرين ومخططين ومنفذّين الشهادة لشكر بلعيد من حيث لم يشعروا، فجبنهم وعداؤهم للحياة أخرجهم في غمضة عين من الإيمان إلى الكفر، فانقلبوا على أعقابهم وفي مخيالهم أتهم يتقربون إلى الله لقتل من أهدروا دمه زورا وجهلا وافتراء على الله...
بعيدا عن التّنديد والشجب أذّكر بأنّ النّفس بالنّفس من هنا يفرض على المنادين بتطبيق شرع الله أن يبدؤوا بأنفسهم، فإن أفلتوا من عقاب الدنيا (وهذا ليس مستبعدا) فإنّ عقاب الله آت لا محالة وجزاؤهم النار مخلدين فيها لقتل نفس مسلمة، مؤمنة، بريئة، آمنة بغير حق، لأنّ الله حق لا يستحي من الحق وأنّه لنا في الحياة قصاص، إذا كنّا من أولي الألباب...
أمام هذه الحادثة الرّهيبة الإرهابية على الجهات المسؤولة أن تتولى التحقيق وإبلاغ الشعب التونسي بالحقيقة كاملة دون مواراة ولا تزييف حتى تهدأ النفوس وتطمئن القلوب... إم لم يقع كل هذا فإنّ الغضب الشعبي سيزداد وأنّ سقف مطالب التونسيين سيرتفع ومن لا يأنس في نفسه من المسؤولين الشجاعة على مصارحة التونسيين أولا ومعاقبة المجرمين ثانيا وإعادة النظر في المسار الثوري بما يحقق غاياته ثالثا والطي صفحة الماضي بكل مآسيه رابعا فعليه أن يعتذر للمواطنين ثم يتنحى... حتى إذا مات في الوطن سيّد، يحي الوطن... وإنّا لله وإنّا إليه راجعون... تعازينا لأرملة الشهيد ولبناته اللاتي يتمتهن يد الغدر والإثم والعدوان ولكل أهله وذويه ورفاقه في الحزب وفي النّضال ولكل تونسي حرّ ابيٍّ... وأذّكرهم بقول الله تعالى: " ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون" (آل عمران169).
-------
*) الخوخة في اللهجة العامية التونسية تعني البوابة الصغيرة في وسط الباب الكبير تستعمل للدخول والخروج
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: