د. مصطفى يوسف اللداوي - سوريا
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 4925 moustafa.leddawi@gmail.com
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
ليس معبر رفح الحدودي هو شريان الحياة الوحيد الذي يربط سكان قطاع غزة مع الشقيقة الكبرى مصر، وإن كان هو العلامة الأبرز، والحدث الأشهر، والبوابة الأوسع، والدليل الأقوى على عمق العلاقة وتجذرها، وهو الأمل الكبير، والحلم العتيد، والغاية التي يتطلع إليها الكثير من سكان القطاع، الذين يتمنون أن يبقى المعبر مفتوحاً على الجانبين، ينساب المسافرون منه إلى مصر والعائدون إلى قطاع غزة، فلا يشعرون أنهم قد انتقلوا من بلدٍ إلى آخر، أو أنهم قد عبروا حاجزاً يفصل بين شعبين، بل يرون أنفسهم شعباً واحداً، يربطهم مصيرٌ واحد، وتحكمهم آمالٌ واحدة، ويتطلعون إلى أهدافٍ مشتركة، يفرحون معاً، ويحزنون معاً، لا يجمعهم الدين واللغة والجغرافيا والحضارة والتاريخ فقط، وإنما يجمعهم عدوٌ واحد، يتربص بهم وبأمنهم، ويتآمر عليهم ويسعى لنهب خيراتهم، ويمكر بهم ويخطط لتجفيف منابع مياههم، ويحيق بهم شراً لينقلب عليهم ويمزق أرضهم ويشتت شعبهم.
غزة ليست في حاجةٍ فقط إلى معبرٍ يعاني فيه المسافرون معاناةً شديدة، ويقاسون فيه ويلاتٍ صعبة، ويندمون على اليوم الذي فيه سافروا، ويلعنون أنفسهم ألف مرة أنهم قرروا السفر، ويقسمون أنهم لو عادوا مجدداً إلى قطاع غزة، فينزرعون في أرضه، وسيختلطون في ترابه، حتى يأتي اليوم الذي فيه يدفنون في ثراه ولا يغادرونه أحياءً أو أمواتاً.
أهل غزة يتطلعون إلى بقية شرايين الأخوة والحب والدين والقومية التي تربطهم بمصر، فيتمنون اليوم الذي تربطهم فيه مصر بشبكتها الكهربائية، فتضيئ ليلها، وتشغل مصانعها، وتحرك آلياتها، وتملأ حياتها فرحاً وحبوراً، وتجعل الحياة فيها ميسورة، والعيش فيها مقبولاً، فلا يعاني مرضاها في المستشفيات من انقطاعٍ في التيار الكهربائي، ولا يموت أطفالها الخدج في حاضناتهم الصناعية، ولا يختنق المصابون بالربو، ولا تتوقف قلوب المصابين بالقلب عن النبض، ولا تشكو الأم في بيتها أنها لم تتمكن من إتمام الطهو، أو تنظيف البيت، ولا تعلن المخابز توقفها عن العمل وعجزها عن توفير الخبز للمواطنين، ولا يصيب سكان قطاع غزة يأسٌ أو قنوط، أو مللٌ وإحباط أن حياتهم أصبحت قاسية ومعاناتهم أصبحت كبيرة، لأن كل حياتهم أصبحت مرتبطة بالكهرباء، التي يتحكم فيها الاحتلال، فيشغلها بالقدر الذي يسمح فيه للوقود بالدخول، ويعطلها وقت يشاء كلما أراد أن يعاقب سكان قطاع غزة على جرائمٍ هو يرتكبها، ومذابحٍ هو يقترفها، يستفزهم ويضيق عليهم ويطارد شبابهم ويقتلهم ثم يمنع عنهم الوقود ويدعي أنه يدافع عن نفسه، ويحمي شعبه، ويصد عدوان المقاومة عليه.
أهل قطاع غزة يتطلعون أن تزودهم مصر بمياه الشرب، أو تيسر لهم مشاريع تحلية مياه البحر، فسكان قطاع غزة جنوباً وشمالاً ووسطاً يعانون من ملوحة مياه الشرب، ومن ندرتها أحياناً، ومن تلوثها وتدني درجة نقاوتها في أغلب الأحيان، فالاحتلال الإسرائيلي يسحب أغلب مياه القطاع، الأمر الذي أدى إلى نقص المياه الجوفية، وزيادة درجة تملحها، ولعل هذا هو شريان الحياة الأبهر والأكبر الذي يحلم به الفلسطينيون، لأن يشربوا من مياه النيل، وتروي أرضهم الصغيرة المساحة مياه مصر، فتجود على سكانه بأطيب الثمار وأجود المزروعات، فيستغني عن كثيرٍ من المساعدات، ويشغل الآلاف من أبنائه.
كما يتطلعون إلى الحصول من مصر على الوقود بكل أنواعه ومشتقاته، وعلى غاز الطهي وزيوت المحركات وكل ما يشتق من النفط، لئلا يكونوا في حاجة إلى الاحتلال الإسرائيلي، فينتظرون صدقته، ويتوسلون إليه أن يفتح المعابر التجارية لإدخال شاحنات الوقود والغاز، التي يربط دخولها إلى القطاع بمزاج أجهزته الأمنية وقرار قادة مؤسسته العسكرية، فيسهلون دخولها يوماً ويمنعونها شهراً، وهم يعلمون أنهم بهذا المنع إنما يعاقبون الشعب الفلسطيني كله، ويحرمونه من مزاولة أعمالهم ومواصلة حياتهم بصورة طبيعية.
ولعل سكان قطاع غزة قادرين على الوفاء لمصر وشعبها بالتزاماتهم المادية تجاهها، فهم لا يسألونها منحهم الماء والكهرباء والوقود بالمجان أو دون مقابل أو بأسعارٍ تفضيلية، إذ هم أدرى الناس بمصر وشعبها، ويعرفون قدرة اقتصادها، وحاجتها الماسة لحقن اقتصادها بالعملات الصعبة، وتنشيط إنتاجها المحلي، وإيجاد أسواق استهلاكية قريبة لمنتجاتها المختلفة، لهذا فإنهم جاهزون دوماً لأن يؤدوا إلى مصر ثمن الكهرباء التي لا تنقطع، والوقود الذي لا يتوقف، والماء العذب الزلال الذي يروي من الظمأ، ويسقى الأرض العطشى، ويبعث الحياة في كل شئٍ حي.
الفلسطينيون يدركون حجم الأعباء الملقاة على مصر وشعبها، ويعرفون الظروف التي تعيشها، والخطوب التي تواجهها، والأخطار التي تتهددها، ولكنهم يرون أن شرايين مصر قادرة على أن تهب لهم الحياة، وتمنحهم القوة، وتزودهم بكل ما يحتاجون إليه، فقطاع غزة لا يشكل شيئاً بالنسبة إلى مصر، فمساحته كلها لا تزيد عن 364 كلم مربع، وسكانه لا يزيدون بحالٍ عن مليوني نسمة، فهم جميعاً بأرضهم وتعداد سكانهم لا يزيدون مساحةً وعدداً عن أصغر مدينةٍ مصرية، وسكانه يحبون مصر، ويعشقون أهلها، ويحرصون على أمنها، ويتغنون بمجدها، ويحفظون تاريخها، ويدرسون جغرافيتها، ويتابعون سياستها، ويشجعون رياضتها، ويشاهدون فضائياتها، ويتعلقون بمسلسلاتها، ويحفظون قصائد شعرائها، ويدرسون كتب أساتذتها، ويتتلمذون على يد كبار شيوخها، بل إن لهجتهم قد أصبحت مصرية، وهواهم مصري، يتوهون في مصر فلا يميزون، ويختلطون بشعب مصر فلا يعرفون، يظنهم من يسمعهم أنهم مصريون، لسانً وسحنةً وشكلاً وحباً وهوى.
شرايين الحياة المصرية مازالت رغم كل العثرات والصعاب تنبض بالحياة، ويتدفق فيها دم العروبة والإسلام الذي أراد له حكامها السابقون أن يغيب، ولشمسه أن تغرب، ولنجومه الزاهرة أن تأفل، ولكنها ما زالت تنبض بالحب والخير والعطاء، لم تجف ولم تيبس ولم تتجمد الدماء فيها، رغم ما أصابها من جراح وويلات، وما لحق بها من همومٍ وأحزان، وما ينتظرها من تحديات وعقباتٍ وصعاب، فإنها على الرغم من كل ذلك ما زالت تتدفق بكل القوة والأمل والصدق والوفاء، تعطي من أعز ما تملك، وتنفق من خير ما تحب، وتمنح من أطيب ما تنتج، وهي التي تحتاج وشعبها إلى شربة ماء وكسرة خبز، وصوفاً تنسج به ثيابها، ولبنةً تبني بها بيوتها، وغازاً تشعل به مواقدها، وزيتاً تسرج به قناديلها وتضيئ به مصابيحها.
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: