د - المنجي الكعبي - تونس
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 6936
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
في مدتي النيابية، في الخمسية الأخيرة من السبعينيات الماضية بمجلس الأمة كما كان يسمى، لم أكن أتقاضى المنحة البرلمانية المحددة يومها بأقل من ألف دينار، ضرورة كون مرتبي الشهري كأستاذ بالجامعة أفضل. فلم يكن أمامي عندما خيرت بعد الانتخاب من أن أتنازل عن المرتب أو المنحة لعدم الجمع بينهما خلافاً لأصحاب المهن الحرة.
وهو كان، ليس تخييراً في الواقع بل هو تعجيز حتى لا أقول أمنية لبعضهم. لأنه بالمنطق لا يمكن للإنسان أن يتنازل عن دخل أهم لدخل أقل إلا أن يكون موعوداً بمهمة حكومية أو سفارة بسبب هذه الحظوة بالنيابة.
ولم يكن في آفاقي أن أتطلع من المنطلق الى المناصب السياسية التي كانت تخضع لمقاييس الولاء المطلق في الحزب الحاكم الوحيد آنذاك. والذي لم يكن انتمائي اليه إلا بالتزكية لهذا المجلس المقبل وليس بالانخراط الحقيقي فيه أو بالنضال في صفوفه لوقت على الأقل. فقد كنت حديث العهد بالرجوع من باريس حاملاً في الثلاثينات من عمري لأعلى شهادة جامعية من السربون، وهي دكتوراه الدولة في الآداب والعلوم الإنسانية.
بل كان تصوّرُ وجودي بين من أرادوا دعوتهم للمشاركة في الحياة التشريعية لتحقيق التوجه الجديد للحكم بالرفع من نسبة النواب بمستوى التعليم العالي مقارنة بالسابق أمراً مفاجئاً. فكيف وأن يكون من بين المتحصلين في هذه الانتخابات أستاذ جامعي حائز على أعلى شهادة تمنحها جامعة معتبرة كالسربون، وهي تخصيصاً دكتوراه في الآداب وليس في الطب أو القانون، لمعرفتهم بما يزهد أصحابها في المنحة البرلمانية مقارنة بحصتهم من الدروس التي لا تتعدى ثلاث محاضرات في الأسبوع ومنحة تفرغ لمدة سنة خالصة الأجر كل ست سنوات، الى جانب ما يحققه عادة بإشعاعه الفكري ومؤلفاته ومحاضراته الخارجية. إلا أن تكون النيابة ملحقة أو مطية للمناصب الحكومية والدبلوماسية.
ولو كان لي أدنى حظوة بالسياسة في ذلك الوقت لما تعطل انتدابي بالجامعة ستة أشهر على الأقل بسبب أصحاب الحظوة الحقيقيين برجال الحكم، من المتنفذين في كلية الآداب لانتداب من يريدونه وإقصاء من يريدونه بالمزاج المعبر عنه في لغتهم رأي المجلس العلمي أو قرار الوزارة، والذي لا يتركونه من خلْف يَصبّ إلا في مصلحة هواهم.
ومضت سنتان لي تقريباً وأنا محاصر بمعهد ترشيح الأساتذة المساعدين التابع لكل الآداب برتبة وقتية وهي أستاذ مساعد للتعليم العالي. وهو قرار أسعف به الوزير آنذاك كأضعف الإيمان للدخول الى الجامعة حتى لا أبقى بدون عمل.
ضرورة أن يتم تعييني في الرتبة المستحقة وهي أستاذ محاضر على أقصى تقدير مع بداية العام الموالي بمفعول رجعي. لكن غدا من غير المتوقع في كل عام موافقة مجلس الكلية على ذلك بدعوى عدم الشغور في الخطة أو استحداث خطة.
وكان ذاك قمة الموقف مني على مفاجأتي لهم في هذه الكلية الوحيدة لدينا آنذاك بتحصيلي على هذه الشهادة المعتبرة برأيهم ولكن الموعودة فقط للسلك الخاص بهم ممن يدرس فيها أصلاً.
فقد مثلت لهم الحالة الأولى التي تطرأ في الجامعة التونسية، يتقدم فيها متحصل على شهادة دكتوراه الدولة ليدخل الكلية من بابها الكبير برتبة أستاذ محاضر، دون أن يسجل له انقطاع في مراحل تعليمه الثلاث أو التدريس بالثانوي مثل أكثرهم بها، أو المسجلين منذ سنوات طويلة لهذه الشهادة بالسربون.
ولأجل احتكار المناصب والخطط لدائرتهم كانوا يفتحون الخطط برتبة مساعد درجة أولى أو ثانية أو ثالثة ليستوعبوا فقط من تطيب أنفسهم لهم لأسباب انتخابية لمجلس الكلية أو للعميد.
ولم تكن الوزارة لتعصي لهم أمراً أو تلوي عصاً في أيديهم لاعتبارات مريبة وغير معلنة أحياناً، كتأمين تعليم على نمط فرانكفوني مثلاً أو إيديولوجي مثلاً وقمع الاضرابات الطلابية التي كانت الخبز اليومي بالجامعة آنذاك.
إذن كنت في تحد من أجل اقتضاء رتبتي المستحقة في وجه هؤلاء وإن فعلوا ما فعلوا. بل لقد فعلوا ما هو أكثر وهو رفض انتقالي الى كلية الآداب ثلاث سنوات حتى لقد أعجزوا كل مسؤول على حل الإشكال الذي اصطنعوه، الى أن أتاحوا لأنفسهم تغيير الأمر الرئاسي الجاري به العمل لتصبح حالتي كالمحسومة، وهو عدم الانتداب للتعليم العالي بدكتواه الدولة رأساً في رتبة أستاذ محاضر. وقصدهم أن أذعن للأمر الواقع نتيجة للأمر الذي ألغوه والوضع الذي أحدثوه.
فبان كوني من أكثر الخصوم لهم ولمن ماشاهم من المسؤولين السامين في الوزارة وفي الوظيفة العمومية، مراضاة بينهم أو اتقاء لسخطهم.
❊❊❊
ومعنى ذلك أني تصعّدت بالانتخابات التشريعية الى الموقع الذي كان من المنتظر أن أجد من أهل الذكر في السلطة القائمة الانتصار لي ورد الاعتبار. ولكن تعمقت القضية وغدت حديث الخاص والعام حتى رئيس المجلس نفسه. ولذلك لما عرض عليّ أن أختار بين المنحة أو مرتبي بعنوان المنحة كانت أمنيته أن لا يجد بالمجلس معارضاً بالقوة لحكومة أو وزير بسبب لجان الانتداب المثيرة للجدل في أكثر من كلية.
لأنه كان من البيّن لي أن الدولة كافة متضامنة في ظل الحزب الواحد وإرادة الحكم الواحد. فرآني متأففاً من هذا التخيير، وهو الذي يعلم بملفي للتسوية تحت يده منذ مدة. وبدل الدفع به لإنصافي ورفع مرتبي الى نصابه، دفع بي الى تزيين التنازل في حالتي عن النيابة. لكني استبسلت أمامه وقررت عدم الرضى بالدون وفي الوقت نفسه إحسان ظن الكثيرين بي لتمثيلهم ورفع صوت الحق في المجلس بوجه كل متسلط.
وهكذا استمرت مظلوميتي مع الإدارة، خمس سنوات في النيابة وثلاث قبلها.
ولولا عناد وإصرار لم تعهده السلطة في أحد من قبلي على حقه لما تحركت الوظيفة العمومية آخر الأمر لاستصدار أمر رئاسي ينقح الأمر الملغى بغرض تسوية الوضعية، حفظاً لماء الوجه بعد أن تلطخت جبهة كل مسؤول وأصبح الحرج يلاحق الكلية ومسبة بحق من تسبب فيه.
وكانت الصدمة الكبرى حين ضربْت المثل بأنني لم أكن لأطمع بدخولي المجلس النيابي في امتياز أو أسعى لمنصب على حساب أهدافي ومبادئي؛ وكما استحققت الشهادة من السربون قلعة العلم المنيعة لخاصتهم كما كانوا يتصورون.. فإذا هي تحتضنني بأيدي العلم والعلماء، لا بما عرفته عند غيرهم، من التضييق عليّ بتعطيل المنحة الوطنية ورفض التسجيل للدراسات العليا وسحب جواز سفري ثلاث مرات كانت آخرها لقطع العودة عليّ الى باريس، لمناقشة أطروحتي بعد أن تحصلت لديهم في تونس في زيارة مفاجئة لعائلتي.
لكل ذلك، ولما ملأتُه في الصحف قبل دخولي المجلس النيابي من التنديد بأطراف في الجامعة التونسية تدعي المسؤولية والمسؤولية منها براء. ففضحت عبر سلسلة من المقالات النقدية طائفة منهم بتهافتهم المعرفي وانغلاقهم على الكفاءات الواعدة لتحرير الأذهان من عقد التخلف الاستعماري الذي استورثوه عبر ممارسات تدِينهم باحتكار المعرفة والألقاب العلمية لأغراضهم.
ولذلك نذرت نفسي للإكباب على مهمتي النيابية من منطلق تجربتي الضيقة بما يعانيه المواطن من الإدارة وأصابع الفساد التي تحركها. واضعاً خلف أذني المتنابذين بالحديث عني بأنهم أصبحوا في الراحة مني بانشغالي عنهم في النيابة.
وما علموا أني بالبعد عنهم ملكت نفسي منهم أن تكون زمالتي بالكلية عدوى بالعقم مثلهم، دون إشعاعي شرقاً وغرباً وإطلاق جناحيّ بالبحث والتأليف والنقد والمحاضرة، بالتوازي مع إشعاعي البرلماني.
وبالقانون، حقوقي مضمونة ولكن بيقضتي واستماتتي. فطفقت أبحث خارج جدران الكلية الضيقة بي عن فضاءات أوسع لنشاطي العلمي.
وكانت صلتي قد توطدت في السنوات الثلاث الأولى لي بالجامعة في معهد ترشيح الأساتذة المساعدين، بزبدة من الخريجين للتكوين الجامعي مع التمكين لأوائلهم باستكمال تعليمهم العالي وكانت مكتبة هذا المعهد التابع لدار المعلمين العليا وبالتالي كلية الآداب غنية بالمصادر والمراجع، هدية من اليونسكو تغبطها عليه مكتبة الكلية نفسها. فكنت في غيبة عنهم بما يشغلني من تأليف ونشر وكتابة في المجلات والصحافة. لا تلاحقني محنة اللهث وراء الساعات الزائدة والترسيم والترقية عبر المسالك الضيقة للولاء والمحسوبية، والجري وراء سراب منح للتخصص وحمى تمديد الآجال للتسجيل للدكتوراه في السربون وما الى ذلك من منافسات على تضخيم المنافع والامتيازات المادية، مما كان يغرق أكثر المدرسين دون تفريغ همتهم للقيام بالدور التعليمي والبحثي المناط بعهدتهم.
❊❊❊
ولم أنس أنهم كان إلباً عليّ حتى قبل دخولي المجلس. حين مانعوا من حضوري الى الكلية وندواتها ومكتبها. أما بعد دخولي المجلس فقد طوروا المنع بوجهي بحجة عدم التداخل بين السياسي والتعليمي في حرم الجامعة. بل الغمز في صفتي بالجامعي بادعائه وارتهان نفسه في برلمان شكلي يمثل فيه دور موافقون موافقون.
حينئذ أصبحت مهدداً وأنا النائب بعدم حل مشكلتي الوظيفية وإهمال الإدارة ترقياتي، وإنما هي ترقية وحيدة، حل أجلها في أول مدتي النيابية. وكان ينبغي أن تتم آلياً عن طريق لجنة متناصفة ممثل فيها النقابة، وكان وضعي في حالة إلحاق خاص لذمة المجلس النيابي يمنحني الأولوية في الخطة وحتى خارج الخطة المتاحة.
وكان ينبغي أن يمثل هذا الخرق للقانون صورة من التجاوز صارخة ويلقي ظلاً بل ظلالاً على السلطة التنفيذية، التي كان احتمال ثأثيرها على الإدارة من أجل مواقفي النيابية قوياً، بل لقد تجلى أكثر بعد مغادرتي المجلس.
ولأني لم تكن لتلين لي قناة حتى في أسوأ الظروف تهديداً بقطع الكلمة عني في الجلسة العامة، واجهت وزارة الإشراف بالرفض حين لم يكن منها سوى أن أسلمتني الى مصيري بإحدى المؤسسات الجامعية خارج اختصاصي باعتبارها الأنسب للضغط على نشاط البحثي والتعليمي فيها.
❊❊❊
إذن ليس فقط حرمت من المنحة البرلمانية خلال كامل مدتي النيابية ومن تسوية مرتبي بالرتبة المستقحة بل وجدت نفسي حتى بعد عودتي للتعليم بالجامعة محروماً من كثير من الحقوق. وحاول المناؤون الرفع من منسوب عدائهم لي فاقترحوا على الوزارة إحالتي على مجلس التأديب للطرد من الجامعة. وبلغت قمة استهتارهم بالقيم العلمية والمواضعات القانونية أن حددوا التهمة المنسوبة لي بثلاث تهم هي التالية، أولاً ثلب الجلالة في كلية دينية وثانياً ثلب مسؤولين في مقالات صحفية، وحددوا عقوبتها سلفاً بسبعة أشهر سجناً، وأخيراً تحريض الطلبة على الإضرابات بالحضور للدروس متأخراً أو الحضور الى قاعة الأساتذة مبكرا لدعوتهم الى مقاطعة الدروس.
وكلها أشواك عادت لتنغزر في نحورهم وخرجت متحدياً بكتاب أبيض بمعيبات القرار رفعته الى الوزير، مع وقوف النقابة الى جانبي بالإعلان عن يوم إضراب عام في قطاع النقابة الوطنية للأساتذة والاساتذة المحاضرين في صورة عدم تراجع الوزارة عن قرارها. فتم تأخيره دون تعيين أجل ثم افتضح إفك المسؤولين الذين كانوا وراءه، بحكم اطلاعي وجوباً على الوثائق في ملفي التي من شأنها أن تكون لسان دفاعي، فوقفت على كم هائل من التقارير السرية ممضاة بأقلامهم.. وهم يبدون من طرف اللسان حلاوة.
وتراكبت المظلمة على المظلمة والمجلس النيابي لا يحرّك ساكناً عن وضعيتي كنائب سابق فيه محروم حتى من استحقاقاته الجامعية، بل كان يلقي بمذكراتي المتتالية الى الحفظ. خاصة بعد التهديد بمجلس التأديب وتمشي الوزارة بعد فشلها الى نقلتي من الكلية الزيتونية للشريعة وأصول الدين الى مركز البحوث والدراسات الاقتصادية والاجتماعية، في مخالفة واضحة لجميع الإجراءات. كل ذلك تشفياً من مواقفي النيابية والنقابية في قضايا كثيرة كانت محل أصداء واسعة لدى الرأي العام وإشادة بها في الصحافة وصحافة المعارضة خاصة. بما تعنيه تلك النقلة المفروضة من إبعادي عن كل موقع قدم لي في اللجان العلمية والانتدابات والتبادل والنشر، فضلاً عن مواكبة الطلبة بالتدريس والتأطير.
وكان لم يغتفر لي قبل ذلك بنشر مداخلاتي النيابية في موفى مدتي. في سابقة كانت الأولى من نوعها بشهادة أحد الباحثين الفلسطينيين الذي بادر بتناولها بالدراسة باعتبارها رائدة بنظره في تاريخ البرلمانات العربية، وأنها كما قال علامة تونسية مميزة في التحديث السياسي العربي.
فكان نشر ذلك الكتاب بما فيه من مواقف وأصداء حقوقية وإعلامية بمثابة تحد جديد، لكشف ما تسلطه الإدارة على النائب المكتفي بذاته، ليس فقط باهتضام جانبه من المنحة البرلمانية بعنوان المرتب المستحق، بل وبالتعتيم على تسويته بالقانون الجاري به العمل.
❊❊❊
ولأن المعايير الدولية تقضي بأن تكون المنحة في التمثيل النيابي مكافئة للصنف الأعلى في درجات السلم الوظيفي للإطارات السامية في الدولة. وبما أنه في النظام الرئاسي منذ الاستقلال إرادة التشريعي هي نفسها إرادة التنفيذي أو تكاد، كان المنطق أن لا يمرر التشريعيّ للتنفيذيّ إجراء يصب في مصلحة نائب مشاكس - بعبارتهم - فما بالك أن يقبل المجلس منه بمشروع قانون أو تنقيح قانون باقتراح من ذلك النائب نفسه.
ذلك أن الطبقة السياسية كانت ترى في التشجيع على ذلك تشجيعاً لصنف من الجامعيين لا ترغب في الترويج له بالمشهد السياسي حولها فضلاً عن التشريعي.
ومع ذلك فقد أودعتُ مشروع القانون بكتابة المجلس. وللوقت وجده رئيس المجلس فرصة للتشهير بمقدّمه في الجلسة العامة بدل التنويه به كمبادرة من أحد النواب عملاً بالدستور.
ولا تحدِّثْ عن مهمات بالخارج مكفولة من ميزانية المجلس لمؤتمرات برلمانية أو تخصيص كتابة للنائب أو أكثر، أو فضاء لاستقبال ضيوف أو مواطنين للتدخل الاجتماعي والثقافي، أو فتح مكتب اللجنة بوجهه في غير أوقات جلساتها، أو الترخيص لنشاط جمعية برلمانية أو التأسيس لمجلة... كل ذلك كان جوابه الإهمال وربما الترصد لمنع صاحبه من فرض الأمر الواقع. حتى أن التردد الى المجلس لغير الجلسات العامة أو جلسات اللجان غير مسموح به، وربما يكون تجاه بعض النواب محل تنديد أو شبهة واستفسار.
ولا تحدّث كذلك عن الخدمات غير المتاحة، كتصوير وثيقة أو نسخة من جريدة أو كتاب عن طريق مكتبة المجلس. أما التنفيل للحضور في الوفد الرسمي بالجلسة العامة السنوية للامم المتحدة أو البعثة للحج أو التكرم بوسام أو بطاقة للعلاج المجاني أو النقل أو التخفيض في طائرة.. فكله كان حظوة لنواب يتقرّاهم رئيس المجلس بمعرفته وتقديره.
وهذه الامتيازات وما خفي أهم، لم يكن ليطمع فيها من تفوح من قلمه أو لسانه رائحة التعاصي على الحكومة في قانون ترغب في تمريره في الجلسة العامة بالإجماع دون تكدير على وزير أو إغضاب لرئيس المجلس.
إذن لم تكن المشكلة في المنحة البرلمانية إن كانت مجزية لبعض النواب أو تفيض على حاجتهم. بل في عقلية التعامل معها حتى أن بعضهم لم يتردد في وصف المنحة بأنها لا تساوي عنده "بوربوار" يضعه في يد النادل بعد عشاء حميم، وأنه ليستحي أن يقول لكاتبته عندما يغادر مكتبه إنه ذاهب الى المجلس.
ولو قص عليّ أحدهم هذه القصة لما صدقت، ولكن النائب كان هو الذي بجانبي بحسب ترتيب المقاعد، وكان يردّ على تنبيهي اليه بأن المجلس قرر أن يخصم للغياب وكان هو كثير التغيب.
ربما أوحى إليّ ذلك بالتفكير في هذا التفاوت التقديري بشأن الاستحقاق للمنحة أو الترفيع فيها على نحو يستفيد منه من يُضيع ماء وجهه أحياناً في المطالبة به ولكن ينعم بها الآخرون رغداً على غير جوع أو كالنافلة التي لا ترد.
من وحي ذلك ومن باب ما حركني للتفكير وأنا في النيابة النظر لبعض الإشكاليات من زاويا جديدة. مثل أن يفكر في مسألة النيابة من أساسه. وأساسه أن النواب من الجهات القصية أو في الخارج لو انتخبوا على أساس تغيير النائب إقامته كما يشترط في صاحب كل سلطة عليا النقلة الى مقر عمله، فربما يصبح الكثير من أهالي الجهات في غنى بأبنائهم في العاصمة أصيلي الجهات للتمثيل عنهم، ما دامت النيابة عامة عن الشعب. وان كانت من المنطلق جهوية أو عن دوائر انتخابية.
وتبقى صلة النائب بأوضاع جهته مضمونة بالمناسبات وبعلاقاته بممثلي المواطنين في البلديات وفي مجلس الولاية والمجالس القروية، التي تكون بدورها مفرخة طبيعية لتصعّد الأفراد للتمثيل البرلماني.
فتكون للجهات اختياراتها في الانتخابات التشريعية بين أبنائها المقيمين أصلاً في العاصمة أو ممن يتعين عليهم الإقامة بها بعد الانتخاب، اقتصاداً للطاقة وادخاراً للأتعاب وتضييع المصالح في المطالبات للتكفل بالسفر والإقامة وحفظ المظهر العام، فتكون المنحة مجزية للجميع لا غبن لمن في الجهات على من في العاصمة أو العكس.
لكن السياسة، في الأول كانت أميل لمراعاة الشكل على المضمون. فالنواب الممتنّ عليهم بالنيابة في ظل الحكم الفردي لا تتقرّى الحكومة القوانين التشجيعية لهم على نقدها، فما بالك الاستعصاء عليها استمالتهم في الأزمات. ومن هنا كانت المنحة البرلمانية نوعاً من الإكرامية على عدد منهم. ويبقى ما عداها من الامتيازات على قدر كساء الولاء للسلطة من ميزانية المجلس. ويندرج في ذلك توفير المرافق لحركية النائب والتغطية الإعلامية لنشاطه، ويقابله بالنسبة للمغضوب عليهم التحين بالفصل الخاص في القانون الداخلي للمجلس لرفته من الحزب الذي زكاه للنيابة، أو الإيقاع به في أحبولة الإجراءات الإدارية في حق يطالب به أو قضية له إن ساعد الطالع بإحالتها على جهة النظر.
❊❊❊
ولو سئلت اليوم في المسألة لما رجعت الى فكرتي الأولى، لأن الزمن تطور والأوضاع تبدلت وربما تجد من يطورها. ولكن كانت آنذاك أفضل على كل حال بكثير مما كان جار به العمل في التزكيات للمقاعد النيابية. فلم تكن أكثر القائمات إلا وهي تبوّب في صدارتها من هم أعضاء في الحكومة أو في الديوان السياسي بقطع النظر عن نسبتهم للجهة أو لا، ولا تأخذ لأقلية المقاعد من الجهات إلا أبناءها من ذوي المنة عليهم والولاء للسلطة.
والأمر تطوّر قليلاً بعد ذلك بحضور أكثر للتمثيل النيابي الحقيقي وللتوازن الاجتماعي والثقافي والتعليمي لكن مع الاحتياط بالنسبة الى المؤلفة قلوبهم من المنظمات الاجتماعية والأفراد المتميزين بخبرتهم الاقتصادية والمالية وغيرها.
ولما كانت المنحة بالنسبة لأكثر النواب حاجة اليها باباً لتحسين الدخل أكثر منه تسديد مصاريف نشاط برلماني غير مقيد يومها بقيود الحضور والفاعلية، فقد كانت المعاودة أهم ما يطمح اليه النائب لإدامة النعمة عليه بهذه المنحة المزجاة. ولذلك لم يكن تفكير في مضاهاتها بمرتب الصنف الوظيفي الأعلى في الدولة أو المطالبة بالترفيع فيها، كما هي الحال بعد المدة التي جلست فيها، وهي الرابعة، وبرقم قياسي بعد الثورة.
------------
تونس في 15 فيفري 2016
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة:
أي رد لا يمثل إلا رأي قائله, ولا يلزم موقع بوابتي في شيئ
17-02-2016 / 14:33:50 فوزي
نموذج من تصدي بقايا فرنسا لكل من يتخذ موقفا متصالحا مع هويته
الدكتور المنجي لقد حدثتني في لقاءاتنا حيث كنا نجتمع كل فترة على احتساء قهوة، ذكرت لي تاريخ تصديك لبقايا فرنسا بالجامعة وكيف انهم كانوا مثلما نعرفهم الان مجرد عصابات ولوبيات همهم خدمة مصالحهم الشخصية والايديولوجية، وان كان ظاهرهم رجال علم
بالطبع انت لا تقول انهم بقايا فرنسا ولا تقول انهم عصابات رغم انك عانيت منهم طوال فترة عملك بالجامعة، ورغم ما بذلوه من عرقلات ومؤامرات
ولكن اسمح لي ان اقول انا عنهم ذلك، لان من اذاقك الويلات، هم من أذاق تونس ويذيقها الان الويلات، و هم من يتربص بثورتها، و اولئك من يصطنع المصطلحات كالتصدي للارهاب المزعوم لمواصلة الحرب على هوية البلاد
17-02-2016 / 14:33:50 فوزي