تفاعلا مع حديث الأستاذ الشاذلي القليبي إلى القناة الوطنية الأولى
محمد المختار القلالي - تونس
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 5772 kallalimokhtar@gmail.com
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
لم أنتظر من الأستاذ الشاذلي القليبي، وهو ينزل ضيفا على برنامج ‘قهوة عربي’ الذي تبثه القناة الوطنيّة الأولى عشية الأحد من كلّ أسبوع أن أظفر منه بما يشفي غليل المتطلع إلى تبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود من حقيقة التجربة البورقيبية وصاحبها، وذلك بما درجت عليه حاشية بورقيبة من ‘قراءة تمجيدية’ لتجربة الرجل، تذهب إلى حد التعسف على الحقائق في الكثير من الحالات.
لا عجب إذن أن جاء حديث الأستاذ القليبي لمشاهدي القناة الأولى، في جزء منه بالأقل، موسوما بالإسراف في المدح، وبالزوغان، عن ‘المعلوم من التاريخ بالضرورة’.
وأريد بداية أن أوضّح أنّي لا أنوي التوجّه بحديثي هذا إلى الذين آمنوا بـ ‘استثنائية’ بورقيبة، ذلك الذي لم تسحب الطبيعة منه، في ‘مذهبهم’، غير نسخة واحدة يتيمة. فهؤلاء لن يرتدّوا عن إيمانهم هذا وإن حاججتهم بجبال من القرائن والبراهين. ولعلّ أن تفلح في إثارة الشكّ في وجود الله لدى المؤمن بوجود الله، أمّا أن تنتظر من هؤلاء المتعصبين ‘للمجاهد الأكبر’ التّسليم بأنّ تجربة الرّجل قد جمعت الغث إلى السّمين والإخفاقات إلى النّجاحات، فهذا من قبيل المحالات.
تعليقي إذن على بعض ما جاء في حديث الأستاذ القليبي أتوجه به خاصة إلى المؤمنين بأنّ الكمال لله وحده، وبأنّ الشعوب التي تتعامى عن أخطائها، وترفض أن تتعلم منها تكون قد حكمت على نفسها بمرواحة مكانها، لا تريمه إلى ما سواه. أَلاَ وإنَّهُ ليس كالتاريخ، للمعتبر، معلّم وملهم وعاصم له من الأخطاء والزلاّت، إلاّ أن تكون الغاية من قراءته لا تتعدّى التغنّي بالأمجاد، واللّهج بأفضال الماضين.
المواضيع التي تطرق إليها الحوار مع الأستاذ القليبي كثيرة، من بورقيبة وبناء الدّولة (الحديثة)، إلى موقف بورقيبة من الإسلام، إلى علاقته بعبد النّاصر، إلى السّياسة الخارجية في عهده، إلى الشأن الثقافي ماضيا وحاضرا، إلى الجامعة العربية وطبيعة أدائها، انتهاء بتناول الأوضاع الرّاهنة في تونس، وفي بعض الأقطار الشقيقة (سوريا مثالا). وهو تمشّ لا يسمح، في اعتقادي، بضمان الجدوى من مثل هذه البرامج ذات المساحة الزّمنية المحدودة. ولعلّ أن يكون الأجدى مثلا لو يتمّ الاقتصار على تناول المسألة الواحدة في الحصّة الواحدة من هذه المسائل الجديرة بتعميق الحوار حولها، وإلاّ فإنّه لا فرق يبقى عند ذاك بين ما يقدّم عبر الشاشة وبين ‘حديث الناس في المقاهي’.
ولأنّ هذه الحصّة قد لامست كلّ هذا الكمّ من المواضيع الحريّة جميعها بمزيد الحصحصة والتّعميق فإن مناقشتها دفعة واحدة تطول وتتشعّب بلا شكّ. لذلك سأقتصر، في هذه الأسطر على مقولة واحدة وردت على لسان ‘الضيف’، وتحولت بسبب من كثرة جريانها على الألسن إلى إحدى ‘البديهيات’ أو ما يشبه البديهيات التي لا يُحْتاَجُ، في الغالب إلى التوقّف عندها، أو إلى مزيد التحرّي في مدى مصداقيتها. وأعني بها تلك التي تفيد بأن بورقيبة ‘بنى دولة حديثة’، والتي روّجت لها المدرسة البورقيبيّة حتى شاعت بين الناس كأوسع ما يكون الشيوع، وتسلّلت إلى عقول الخاصّة والعامّة على السّواء، وتبناها الجمهور على البداهة في غالب الحالات. ولقد سبق، في الواقع، أن تعرّضتُ لمناقشة هذه المقولة من زاوية من يعنيه تقصّي الحقيقة بعيدا كل البعد عن أي نية لي في التحامل على ‘الزعيم’ أو في بخسه ‘منجزه’ الذي اختلط فيه الصّالح بغير الصالح. بيد أنّ تمادي الترويج لهذه ‘الأغلوطة’ هو ما يدفعني من جديد للتنويه إلى تهافتها إسهاما في الدّعوة إلى التحلي بالعقلانية في قراءتنا لماضينا القريب منه والبعيد، وتوطين ‘العقل المتسائل’ بمجتمعنا محلّ ‘العقل المذعن’، هذا الذي لم يشأ أن يغادرنا أو لم نشأ أن نغادره إلى اليوم، على أمل أن أعود إلى مناقشة باقي المحاور التي تعرضت لها هذه الحصّة التلفزية في قادم الأيام إن تهيأت لي الظروف لذلك.
وبالعودة إلى المقولة المكرورة أقول إمّا أن بورقيبة ‘قد بنى دولة’ فهذه حقيقة لا شك فيها، وإمّا أنه ‘بنى دولة حديثة’ فهذه ليست من الحقيقة في شيء، بل هي من قبيل الكلام المرسل الذي يجري على اللّسان دون الوعي بكنهه ومعناه. أجل، تولى بورقيبة الإشراف على إقامة الدّولة الوطنية بعد الاستقلال. وهذا أمر طبيعي للغاية بعد أن لم تكن ثمّة دولة أصلا، فبلادنا ظلّت، كما المعروف، مجرّد ‘محميّة فرنسيّة’ طيلة عهد الاستعمار البغيض. وما الاختلاف إلاّ حول طبيعة هذه الدّولة، ومدى حظها من الحداثة. اختلاف لا يحتاج حسمه إلى ‘العلم اللّدني’ بعد أن تواضع الخلق على أنّه لا يجوز الحديث عن دولة حداثية ما لم تكن:
- سياستها قائمة على اعتبار المواطن هو رأسمالها الحقيقي، لا تألو جهدا في خدمته بما هو عندها ‘المبتدأ والخبر’.
- مقرّة بحقوق مواطنيها، وفي مقدمتها حقّهم في التنظّم، وفي حريّة التعبير، وفي المساهمة في صناعة القرار.
- محترمة لإرادتهم في اختيار من يتولّى شأنهم العام.
- ملتزمة بمبدأ الفصل بين السّلط.
- حريصة على جعل ‘مؤسساتها’ تنهض بأدوارها في أريحية تامة، بعيدا عن التفكير في تحويلها إلى ‘أجهزة’ تتولّى تنفيذ أغراضها.
- محافظة على استقلالية منظماتها، نائية بنفسها عن التدخّل في مهامها، فضلا عن الحرص على احتوائها.
- ملتزمة بمبدإ المساواة بين أفرادها.
- عاملة على تحقيق العدالة بين مختلف الفئات والجهات.
فأي من هذه الشروط يا ترى أخذت بها دولة بورقيبة ؟ أم هي، كما الظّاهر، إلى مواصفات الدّولة ‘المتخلفة أقرب ؟
أدع لمن يتهيأ لهم الإطلاع على هذه الأسطر حريّة الإجابة عن هذا التّساؤل.
بمفعول ‘تورم الأنا’ لديه، وبدعوى ‘هيبة الدّولة’ أو بالأحرى ‘ديناصورية الدّولة’ ‘افترس’ بورقيبة الرجال، وبطش بمعارضيه، وقمع كلّ صوت حرّ، وخيّر الناس بين الانقياد والاضطهاد، واستكثر على التونسيين أن يُساسوا كما تُساس الشعوب في ظلّ الأنظمة الحداثية بدل أن يُساقوا بالعصا سوق القطعان على غرار ما كانت عليه حال’الرعايا’ في ماضي الأزمان، تُخْصَى فترفع عقيرتها بالدعاء لجلاّدها ‘الله ينصر سيدنا، الله ينصر سيدنا
وبعد، أنا لا أستطيع بصراحة أن أقتنع بأن من استأثر لنفسه بجميع السلطات دون استثناء، وفرض رئاسته على البلاد مدى الحياة، ومن ردّ لما سئل عن طبيعة الحكم السياسي في تونس بالقول : ‘النّظام ... أنا هو النظام’ بكونه أقام دولة حديثة كما هو القول السّائر. ولكن رغم ذلك فإنّ الاحتكام إلى ‘مبدإ التّنسيب’ يدعوني إلى الاعتراف بأنّ مشروع بورقيبة، في عمومه، لم يكن خلوا بإطلاق من أي مسحة حداثية، رصدناها خاصّة في عمله على تخليص عقلية التونسي من رواسب ‘ثقافة الخرافة’ التي رانت على العقول دهرا طويلا، بيد أنه غالى في ذلك حدّ المساس بما هو أصل وجوهر ليُسلك بذلك في أولئك الذين ‘ارتأوا أن ينتقلوا بأنفسهم إلى الحداثة حيث هي، إذْ أعجزهم أن ينقلوها إليهم حيث هم’. (المقولة للمرحوم الشيخ محمد الفاضل بن عاشور).
ختاما، أدرك أنّ حديثي هذا قد يغيظ الغالين في التعصب لبورقيبة، أولئك الذين يعتبرونه بمثابة الملك الخاص بهم دون غيرهم من التونسيين، صمّ عن كل رأي يخالف رأيهم فيه، لكن ما حيلتي أنا، والحقّ عندي أحقّ أن يصدع به، أم هل يريدونني أن أنقم على من علموني ‘أن أقول الحقّ ولو كان مرّا’ ؟
غفر الله لبورقيبة ... كان رحمه الله ‘ملكا بلا تاج’، لكن ما الملك في النهاية إلا لله.
كلمة أخيرة : ‘عندما تغرب الفكرة يبرز الصنم’ (مالك بن نبي).
-----------
محمد المختار القلالي
عضو اتّحاد الكتّاب التّونسيّين
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: