الطاهر بوسمة - تونس
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 5933
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
لم تتباطأ حكومة الإستقلال وبادرت بحل الأحباس وتحجيرها مستقبلا على التونسيين وغير التونسيين ، ربما كانت النية سليمة إذ ساد الأوقاف الإهمال والتصرف الغير السليم وتعمد بعض الرجال حرمان الإناث من ذريتهم إرث ما يتركون ، ولكن ذلك حرم الناس جميعا من التبرع بما زاد عن حاجاتهم مما يملكون لتكون لهم صدقة جارية يوم يبعثون : (يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ ) الاية 88 الشعراء
لقد جاء ذلك الأمر العلي صارما جامعا مانعا لا يقبل التأويل ولا التحايل عليه مهما إجتهد الخيرون وإستشاروا فيه القانونيين .
أما أنا فقد تعمقت في درس ذلك الشان لما طلب مني البعض استشارة قانونية ليستعينوا بها لإيجاد السبيل القويم والإطمئنان على مستقبل جهدهم الذي قضوا عمرهم فيه ليستمر ويبقى بعد موتهم كوقف ليصرف على ما كانوا يقصدون
كان أول من إلتجأ لي هو الدكتور عبد الجليل التميمي صاحب مؤسسة التميمي للبحث العلمي والمعلومات وقد إشتملت تلك المؤسسة فيما إشتملت على مكتبة علمية وخزنة من المعلومات عن الذاكرة الوطنية كان دونها صاحبها تسجيلا بالصوت والصورة ونشر البعض منها في كتب ومجلات يخشى أن تتلاشى بعد حياته ويحرم منها التاريخ والذاكرة العلمية وقد يستعملها من لا يعرف قيمتها ورقا للحماصين ولبائعي بذور عباد الشمس واليقطين
لم أجد في القانون طريقا استأنس بِه وكلما فكرت وتعمقت إلا وإعترضتني العقبات التي لن تضمن الإستمرار لتلك المؤسسة الفريدة مهما فعل لتواصل أدائها لمهامها العلمية المجيدة .
فكرت في أن أقترح عليه تكوين جمعية ، ولكن قانون الجمعيات لا يضمن لها البقاء والدوام وكلما حلت الجمعية لسبب من الأسباب تعود أملاكها للدولة لتصنع بها ما تشاء او تريد . فقلت لعل إحداث شركة تكون أحسن فاعترضني الهدف التجاري وماًل التصفية وعودة المتحصل منها إلى الورثة الشرعيين بالاضافة الى ان اهداف الشركات هو الربح والخسارة وما يتعين عليها من وجوب التصريح بالنتيجة من حين لحين وذلك ما يتعارض مع اهداف المؤسسات التي تعيش على الدعم الحكومي او بعض المؤسسات والافراد للانتفاع بالحط من الاداء على أرباحهم سنويا .
أما إذا أشرت عليه بإبقاء الحال على ما هو عليه فبعد عمر طويل لا يمكن له أن يضمن استمرار تلك المؤسسة وبما تقوم به إذ مثل ذلك العمل لا يتنقل بالضرورة للورثة الذين لهم إختصاصات مختلفة ولا يعنيهم ما إختصت به تلك الدار وما جمع فيها من المعلومات النفيسة والغير المتوفرة حتى في المعاهد والجامعات الحكومية والتي أفنى عمره فيها
كما قصدني في يوم من الأيام الدكتور رضا المبروك طبيب العيون وقد أنهى مشواره الطبي وأنشأ لوجه الله مستوصفا للعيون سماه ( نادي البصر) وخصصه للفقراء والمساكين الذين لا قدرة لهم على دفع مقابل علاجهم وأراد أن يطمئن عليه بعد حياته ويترك لتسييره جانبا مما زاد عن حاجته ومما أوصته به والدته قبل وفاتها به .
طلب مني ذلك الخير أن أجد له طريقا يحفظ له أمنيته ووصية والدته ولكنني لم أتوصل إلى شيء يرضيه لأن الأمر العلي الذي جاء بحل الأوقاف حجر التحبيس مستقبلا في أي وجه من أوجه البر ولو كان للتعليم أو الصحة ، فإعتذرت له عما طلبه مني ومنيت النفس بإصلاح منظمتنا الوقفية لنحفظ للخيرين حقهم بالتبرع بما زاد عن حاجتهم وتكريسه كصدقة جارية مثلما كانوا يريدون
هكذا إنهي الأمر العلي ( 1 ) كل اشكال التحبيس في تونس المستقلة والذي يقابله في الغرب( les fondations ) .
لقد شرع الوقف في النظام الإسلامي وأعطي حصانة مطلقة يعجز الحكام عن تجاوزها خوفا وخشية من الله الذي توعد بها الظالمين .
كان المقصود بالتحبيس تشجيع من أعطاهم الله من خيره التبرع بالزائد عن حاجتهم لوجهه الكريم كصدقة جارية وتخصص عادة للعناية ببيوت الله او بالمبرات وغيرها كمراكز العلم أو ورعاية المسنين ، لكن نظام الحكم عندنا رأى التعجيل بحلها وإرجاع البعض منها للمستحقين أو ضمها لأملاك الدولة والتصرف فيها
كان السبب الظاهر وقتها ما شابها من إهمال وإستغلال في غير ما أراده المحبسين ، ولكن رغبة الإستعمار الفرنسي كانت تهدف إلى تنفيل المعمرين الفرنسيين بأحسن من تلك الأراضي لينتصبوا فيها وتجاوزوا الحصانة التي كانت تحميها واستعانوا ببعض من رجال الدين الذين أفتوهم بجواز تعويضها وبذلك استقروا في أحسن الأراضي وعمروا فيها
لقد ظهر سوء تقدير رجال حكم ذلك الزمان لما أقدموا على حل الأوقاف وأغلقوا الباب مرة واحدة وحجروا التحبيس مستقبلا بأي وجه سواء كان دينيا أو للتعليم والصحة أو رعاية المسنين .
قال لي صديقي مصطفى الفيلالي الذي تحمس لتلك العملية لما كان وزيرا للفلاحة أنه ندم على ذلك لما إعترضت الحكومة التونسية صعوبة عندما تبرعت عليها منظمة وقفية أمريكية بمنحة مالية ذات بال لتستعين بها على البحث العلمي فوجدت نفسها محتارة، فأنشأت بها معهدا للدراسات الاقتصادية والاجتماعية واستعملت طرقا ملتوية حتى لا تضيع تلك المنحة المعتبرة على البلاد التونسية .
كان على حكومة ذلك الزمان أن تعمل على إصلاح الحال وتستنبط الطريق الأقوم لإستغلال تلك الثروة واحترام إرادة المحبسين وربما تحجر التحبيس الذي يستثني البنت تحيلا وتهربا من اعطائها لحقها الشرعي عملا بقوله تعالى : { يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ } الآية 11 النساء .
لقد استبشرت لما إطلعت على مبادرة لإحياء الأحباس من جديد وكان المجلس التأسيسي سينظر فيها قبل إنتهاء ولايته ولكن القوم أقاموا الدنيا ضد ذلك القانون ووصفوه بأبشع النعوت في حين كان هواهم الحداثي متجها إلى الغرب وأغلب الجامعات الأمريكية تعيش من عطايا المؤسسات الخيرية ، وعلى سبيل الذكر فجامعة هارفارد الشهيرة وحدها تدار بفضل الأوقاف وتبلغ ميزانيتها السنوية ضعف ما تخصصه فرنسا لكل جامعاتها ومعاهدها العليا سنويا ، كل تلك الأموال متجمعة من الأوقاف التي خصصها الخيرون في حياتهم وبعد مماتهم وكانت حكومات الولايات المتحدة وغيرها من حكومات الغرب تشجع على ذلك وتعفي أصحابها من الجباية المترتبة عليهم سنويا .
(1) أمر علي مؤرخ في 18 جويلية 1957( 20 ذو الحجة 1357 ) يتعلق بالغاء نظام الاحباس الخاصة والمشتركة .
الفصل الاول : يمنع التحبيس الخاص والتحبيس المشترك ويعتبر لا غيا كل تحبيس من هذا القبيل.
الفصل الرابع : يقصد بالتحبيس العام ما كان مصرفه لفائدة الإسعاف أو الصحة العمومية أو التعليم أو الشعائر الدينية .
ويقصد بالتحبيس الخاص ما كان مصرفه لفائدة أشخاص معينين أو لذريتهم على أن يؤول بعد إنقراضها إلى جهة عامة .
ويقصد بالتحبيس المشترك كأحباس الزوايا ما كان مصرفه عائدا في أن واحد للأغراض ذات المصلحة العامة المشار إليها بالفقرة الأولى ولفائدة أشخاص معينين ولذريتهم ‘.
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: