د - المنجي الكعبي - تونس
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 6975
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
يمكن القول في جو الانتعاشة بالفائزين الجدد في التشريعية الحالية، أن التداول السلمي على السلطة بالانتخابات حصل، وحصل لأول مرة بعد الاستقلال دون ثورة كما في 14 جانفي 2011، أو خلافة آلية دستورية مسترقة كما في 7 نوفمبر 1987.
وليس ببعيد أن تصنع الطبقة السياسية، التي استطاعت أن تصنع الانتخابات الناجحة للتداول على السلطة، أن تصنع مرحلة الاستقرار السياسي القادمة. ولكن ليس استقرار ديكتاتورية الحزب الواحد أو التعددية المشابهة للحزب الواحد، بل استقرار الديمقراطية الحقيقية التي دشنّا عهدها بعد الثورة، من خلال تجربتين تأسيسية وتشريعية الى حد الآن.
وبينت الأحداث أن الأمن والاستقرار يمكن أن يحدث في ظل نظام قائم على القمع والاستبداد، كما يحدث في ظل نظام قائم على العدل والحرية. وأقرب مثال الينا نظام المخلوع الذي عمر أكثر من عقدين، وربما بشكل أخف النظام الذي قبله.
والظروف، هي التي تحتم أحياناً قيام هذا النظام أو ذاك، وربما تحكُم بشرعيتهما منعاً للفتنة أو للخطر الداهم، ولكن المجتمعات تتطور كما تتطور حياة الانسان، وتتفاعل مع محيطها بين نكسة وانتعاش الى أن تحقق الغلبة والاقتدار على صنع مستقبلها واكتساب المنعة لنفسها.
ونحن مدعوون الى صنع هذا المستقبل، وعدم الاستنامة الى رياح الأقدار من حولنا - التي عناها الشابي في شعره - لكسب معركتنا مع الديمقراطية.
فأمامنا، بعد تحقيق هذا الفوز الساحق في الانتخابات التشريعية للخط الديمقراطي في توجه الشعب التونسي، بناء استقرار سياسي قائم على الأغلبية المطلقة لا على الأغلبية النسبية في النظام الانتخابي.
ولا شيء أمنع من ظلم الحكام من التعاقب على السلطة لغير أصحاب عصبية واحدة في الحكم، بل لأغلبيات من هذا الأفق وأغلبيات من ذاك الأفق، ممثلة لاتجاهات الرأي العام الاقتصادية والاجتماعية في المجتمع.
فالدول التي تنعم بالاستقرار والأمن والازدهار الاقتصادي والصناعي والعلمي وبالحريات على اختلافها وبالنفوذ في العالم، لا تعرف الاّ ديمقراطية الأغلبية، لا ديمقرطية النسبية المرقعة كجبة الإسكافي.. والنماذج القليلة استثنائية ومحكومة بتطور مجتمعاتها.
وعلى الطبقة السياسية التي سيشكلها المشهد الجديد معالجة هذا الوضع الموروث عن لجنة ابن عاشور لتحقيق أهداف الثورة.. ونظامها الانتخابي السيء التقدير، والذي بصريح صُنّاعه ولّد غير ما كانوا يتوقعونه من فوز حزب أغلبي نفخ - بتقديرهم - من أنفاسه في أحزاب ضعيفة متهافتة واصطنع منها تحالفاً للاستيلاء على السلطة، واستدامة الأمر له بمنطق المشاركة والتوافق.
وما كان لهذا التحول الديمقراطي الذي أفضى الى هذه النتائج الانتخابية التي لم تكن في الحسبان، أن يتجسم لولا لم تقم بعض الإرادات النافذة البصيرة والعزيمة الصلبة لخلق أسبابه مباشرة بعد الانتخابات الماضية لتعديل كفة الأمور بعدما ما شهدته البلاد من انهيارات. فأمكن لأحزاب مثل نداء تونس - وهنا تهنئة لرئيسه وقياداته - وغيرها من الأحزاب الناشئة من تجاوز محنة التداول السلمي بالانتخابات على السلطة كما هو مقرر اليوم، ولكن بتداول حقيقي مغاير لا بتداول من نفسه.
ولذلك فإن كل عودة لفوضى الأحزاب والتكتلات والتحالفات الهشة والصراعات الفارغة في المجلس النيابي القادم يمكن تجاوزها ومنع قيامها من الآن، إذا استمر نسق الاقبال على معالجة الأوضاع من أساسها، أي التركيز العام على منح الانتخابات الرئاسية بعدها الأهم في الانتخابات العامة، لتعديل صورة الدولة بسلطاتها الثلاث المتوازنة في ظل ديمقراطية الأغلبية بين كل انتخابات وأخرى، لضمان السير الحسن لدواليب الدولة واقتصادها وصورة تونس المتميزة باعتدالها عقلانيتها وتأثيرها في ما حولها. والمتوقع أن تتداعى أصوات الحكمة لنداء تونس لمنح الرئاسية ضمانات التعايش السياسي السلمي للمرحلة القادمة، التي لا تقل دقة من المرحلة السابقة إن لم تكن بأصعب منها.
ومهما يكن من أمر هذه الانتخابات والملاحظات التي يمكن أن يسجلها الملاحظ النزيه، فأنها على كل حال خير من "لا انتخابات"، بعد تلك الفوضى والاغتيالات التي شهدناها بألم وحسرة، ولعل شهداءها عند الله يسامحوننا، وبعد ذلك المخاض العسير للفترة الانتقالية التي استدامت بفعل فاعل لكهربة الأجواء لفائدة استقرار السلطة بيد من تمكنوا منها في فجاءة الثورة والانتخابات الأولى بعدها. ولكنها بمقياس المعاير الدولية للانتخابات حققت سبقاً لبلدان الربيع العربي كما اصطلح على تسميته، التي انتكست الثورات فيها أو تُصارع، وربما تكون الصورة في تونس محفزة لها لاستدراك أمرها، والإعانة على شمل جمعها للتغلب على تحديات عالم الإرهاب والاسلام المقاوم الذي تصطرع حروبه في كل مكان، ونعيشه بمرارة ولكن بأمل.
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: