أنس الشابي - تونس
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 7119
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
راجت في الأيام الأخيرة أخبار عن استقالات من حزب حركة النهضة ووصل الأمر إلى حدود التلويح بتأسيس أحزاب جديدة تجمع هؤلاء المستقيلين وآخرين من جهات أخرى.
في البدء نقول إن الاستقالة في العرف السياسي تعني طلب الإعفاء من أداء مهام معيّنة لاختلاف في التحليل أو خروج عمّا هو متفق عليه في مؤتمر حزبي أو تحالف وذلك بعد استنفاذ الطرق القانونية كالالتجاء إلى هياكل المؤسّسة للتحكيم وغير ذلك، واللافت للنظر أن حزب الحركة خِلو من هذه المعاني تماما وبيان ذلك:
1) لحزب الحركة قانونان أساسيّان، الأوّل منهما نُشر كملحق لكتاب الغنوشي "الحريات العامة في الدولة الإسلامية" الصادر عن مركز دراسات الوحدة العربية في طبعة أولى سنة 1992 وأعيد طبعه دون تغيير في تونس بعد أحداث 14 جانفي سنة 2011 أما القانون الثاني فهو الذي نجده في الشبكة العنكبوتية وقُدِّم في ملف طلب التأشيرة، والمعوّل عليه داخل الحركة هو القانون المنشور في كتاب رئيسها أمّا الثاني فمخصّص للاستهلاك الداخلي والخارجي ولتلميع الصورة والتلبيس على خلق الله، والمتأمل في هذين القانونين يلحظ بجلاء أنهما يخصّان حركتين سياسيتين متناقضتين، الأولى منهما عرفناها واكتوينا بنارها طوال السنتين الماضيتين والثانية تتطابق مع ما تشيع الحركة عن نفسها من وسطية ووطنية وديموقراطية واعتدال وغير ذلك من الأكاذيب وهذه لا وجود لها إلا في عقول البله والسذج ممّن امتلأت بهم الساحة، وهو ما يؤكّد أن الازدواجية هي العمود الفقري لعمل الحركة داخل البلاد ويظهر ذلك في الخطاب والمواقف والهياكل وحتى لمّا تمكنت من الوصول إلى السلطة أوجدت الأجهزة الموازية في كل المجالات.
2) يشاع بين الناس أن حزب الحركة يمارس الانتخابات داخله وهذه المسألة مسكوت عنها في القانون الأساسي المعوّل عليه فالأصل في الانتخابات أن يتقدم المترشحون برؤاهم ويدافعون عنها لإقناع الأعضاء بجدواها ومن ثم التصويت لها ولكن في حزب الحركة يحدث أمر غريب وعجيب إذ يستندون إلى الآية الكريمة: "فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى"(1) لمنع الترشح والحملات الانتخابية وفي مقابل ذلك يُدعى المؤتمرون إلى اختيار الأفضل!!!! من الحاضرين في قائمة مضبوطة العدد، والغريب أن عدد الأصوات في المؤتمر التاسع يكاد يكون متساويا بين المترشح لرئاسة الحركة والمترشح لمجلس الشورى حيث نجد أن الغنوشي تحصّل على 744 صوتا والصادق شورو على 731 صوتا، الأمر الذي يؤشر على أن قائمة أُعِدَّت سلفا وطولب المؤتمرون بنسخها وهي التي اعتُمدت في الإعلان عمّا سُمِّي نتائج، هذا الأسلوب نقلته الحركة بحذافيره من البهائية التي تعتمده عند اختيار أعضاء مجلس العدل التسعة المشرفين على حظوظ هذه الديانة، جاء في مقال للغنوشي ما يلي: "واعتبرَ (الرسول عليه الصلاة والسلام) الترشح لمنصب من المناصب في الدولة الإسلامية سببا كافيا للحرمان منه قال عليه السلام إنا لا نُوَلي هذا الأمر أحدا طلبه ومن ثم لا مجال في المجتمع الإسلامي للحملات الانتخابية يخوضها الزعماء (فلا تزكوا أنفسكم) وإنما الأمّة هي التي تزكي وترشح من تراه كفئا"(2) إن كان هذا هو تخطيطه للمجتمع الإسلامي الذي يدعو إليه فكيف سيكون حال الحزب الذي أسّسه وينفرد به؟.
3) الإيهام بوجود نقاش وحوار داخل حزب الحركة لتلبيس الرؤية لدى المواطنين بإشاعة التصريحات المتضاربة وهذا التكتيك لا يدخل في باب الازدواجية فقط بل هو محاولة لإرباك الساحة السياسية بالإشاعات والإشاعات المضادة والتكذيب تلو الآخر، من ذلك أن البعض يصرّح بأن رئيس الحركة تجاوز مقرّرات مجلس الشورى والحال أن أعضاء المجلس ورئيسه جميعهم عيَّنهم رئيس حزب الحركة وولاؤهم له مطلق لأنه هو الذي يعدّ القائمات التي ستعتمد لإعلان الفائزين بالعضوية فضلا عن أن القانون الأساسي في فقرته الأولى من الفصل 28 ينصّ على أن من مهام الرئيس: "تشكيل أجهزة الحركة وهياكلها" وهو ما يفسّر لنا غياب أي ردّ فعل أو معارضة له من طرف المنتسبين لحزب الحركة بعد التغييرات التي طالت مواقفه وانقلبت بدون مقدمات من النقيض إلى النقيض كموقفه من نداء تونس والتجمعيين والسلفيين والإقصاء والإرهاب... فالكلّ منضبط لمتغيرات الرئيس بلا استثناء.
4) نصّت الفقرة الثالثة من الفصل السادس المتعلق بإجراءات كسب العضوية على أن: "يؤدي العضو بيعة الالتزام بالولاء وطاعة قيادة الحركة وحفظ أمانتها وبذل الوسع في تحقيق أهدافها والانضباط إلى نظمها ومناهجها"، وللبيعة لدى حركة الإخوان المسلمين ومشتقاتها استعمالات شتى، فهي مصطلح فقهي عرّفه ابن خلدون بقوله: "اعلم أن البيعة هي العهد على الطاعة، كأنّ المبايع يعاهد أميره على أن يسلم له النظر في أمر نفسه وأمور المسلمين لا ينازعه في شيء من ذلك، ويطيعه فيما يكلفه به من الأمر على المنشط والمكره"(3) الأمر الذي يعني أن العضو مرتبط بميثاق ديني ويحرم عليه النكوص في بيعته التي هي قسم يؤدّى على المصحف ويستشهدون في ذلك بحديث عبد الله بن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من خلع يدا من طاعة لقي الله يوم القيامة ولا حجّة له ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية"(4) وممّا يروى أن أعضاء التنظيم السري للإخوان المسلمين يؤدّون البيعة على مصحف ومسدس في أجواء غاية في الغرابة، جاء في شهادة أحمد عادل كامل أحد قادة التنظيم الخاص قوله: "كانت الغرفة مضاءة إضاءة قوية، وتركنا بها أحمد حجازي وقام إلى غرفة مجاورة ثم عاد ومعه عبد الرحمان السندي فعرّفنا به على أنه رقم 1 في هذا التنظيم وبعد أن حدثنا عن النظام وأهدافه استوثق من استعدادنا استدعاني عبد الرحمان وحدي فقمت معه، وإذ بدأت أخطو إلى الغرفة المجاورة وقد أمسك بيدي فوجئت بها في ظلام دامس وقد فاح في أرجائها روائح البخور والعطور الشرقية ثم أجلسني على الأرض. وجاء صوت الرجل الجالس في الظلام لا أتبين منه شيئا، يذكّرني بمبادئ الدعوة التي جندنا أنفسنا لنصرتها وإلى أن الجهاد من أركانها وهو سبيلها، وإلى أني بأداء البيعة أضع نفسي تحت تصرف القيادة سامعا مطيعا لأوامرها في العسر واليسر والمَنْشَطِ والمَكْرَهِ معاهدا على الكتمان وعلى بذل الدم والمال. وقد ذكر ثقة القيادة فينا ومع ذلك أشار إلى أن أي خيانة أو إفشاء سرّ سوف يؤدي إلى إخلاء سبيل الجماعة ممّن يخونها، وبايعت على ذلك وقد مددت يدي فوضعتها على مصحف ومسدس وقد وضع يده فوق يدي ولئن لم نر شخص الرجل فلقد كان واضحا من صوته أنه الأستاذ صالح عشماوي"(5) واللافت للنظر أن حزب الحركة أدى البيعة للتنظيم الدولي مرّتين المرّة الأولى أمام حسن الهضيبي وأداها احميدة النيفر نائب الأمير وذلك بعد إتمام إجراءات الانتماء في المؤتمر الإخواني المنعقد في مكة سنة 1973 إلا أن وفاة المرشد وتعويضه بآخر استلزم أداء يمين البيعة مرة ثانية أمام المرشد الجديد عمر التلمساني وقد أداها احميدة مرّة أخرى بحضور أحد قادة النظام الخاص كمال السنانيري بعد أن سبقه في أدائها في نفس اللقاء الإخواني الجزائري محفوظ نحناح(6).
5) الأصل في العمل الحزبي أن القيادات يقع انتخابها على أساس برامج ووعود ونقاش، عندها تصبح الاستقالة مستساغة ولها ما يبرّرها سياسيا، أما في حالة حزب الحركة فإن رئيسها هو الذي يُشكل أجهزتها وهياكلها ويقترح الخطط والمناهج(7) وهو ما يعني أن الذين ظهروا في التلافز وعُيِّنوا في الحكومتين المؤقّتتين وفي هياكل الحركة ومن هم متكدّسون في مجلس 23 أكتوبر يدينون جميعهم بالولاء لرئيسها وليس لأي جهة أخرى، بعد هذا هل يبقى لاستقالة أي واحد ممّن ذكرت معنى أو دلالة سوى التلاعب والتلهية؟.
6) لم يعقد حزب الحركة منذ تأسيسه أي مؤتمر يستجيب للشروط المتعارف عليها عند عقد المؤتمرات كلّ ما هنالك اجتماعات عادية تُعطى فيها التوجيهات وكفى الله الأعضاء شرّ النقاش والحوار والاختلاف، والحال أن الأصل في المؤتمرات أن تتم مناقشة التقرير المالي أوّلا وهذا من المغلقات التي ينفرد بها رئيس الحركة وتحديد الخطة السياسية ثانيا وهذه وفق القانون الأساسي من اختصاصات رئيس الحركة، قال صلاح الدين الجورشي أحد المؤسّسين الأوائل إن الحركة "بقيت سنوات طويلة بلا قانون أساسي ولا تحديد للصلوحيات وترى في أي خلاف شرًّا وتعتبر نفسها الجماعة ويملك أميرها الذي لم ينتخب كلّ الصلوحيات في تشكيل المكتب التنفيذي والمشرفين على الجهات وأعضاء مجلس الشورى"(8).
7) أعلن حمادي الجبالي عن استقالته ممّا يسمى الأمانة العامة لحزب الحركة، وكعادتها هللت بعض وسائل الإعلام إذ ذهب في ظنها أن في ذلك إضعافا لحزب الحركة، والحال أن الرجل استُبعد منها منذ الخطاب الشهير لرئيسها في شارع الحبيب بورقيبة لمّا قال في نبرة تهديد ووعيد إن الانتماء للحركة يرفع من قدر صاحبه وخروجه منها يعيده إلى حجمه الطبيعي هذا من ناحية ومن ناحية أخرى قامت قناة التونسية بإجراء حوار مع المذكور أذيع يوم 28 مارس 2014 استمعت إليه فأُصبت بالدهشة لِما عليه الرجل من خواء معرفي وتسيُّب لفظي خِلو من أي معنى وكمية مهولة من الكلمات والحروف التي لا يحتاج إليها الذكي ولا ينتفع بها البليد من نوع نحب نخدم بلادي ونحب تونس وغيرها ممّا هو دارج لدى العوام والدهماء، وقد تساءلت عندها هل بهذا الخطاب حكمت الحركة تونس مباشرة لمدة سنتين؟ وهل هذا هو مستوى المشرفين عليها؟ وهل بهذه الضحالة يتقدمون للانتخابات ويعرضون أنفسهم لحكم البلاد من جديد؟ والذي أنا متأكد منه أن الإفلاس والخراب الذي تعرّض له الوطن يعود في قسم منه إلى غياب المعرفة والجهالة التي عليها من عُيِّنوا في الصف الأوّل، لم تكن استقالة الجبالي إلا تلهية وحَرْفا للناس عمّا هو أساسي إلى ما هو عرضي وجانبي ومسرحي.
8) أثناء مشاهدتي لبعض البرامج الحواريّة لاحظت أن منتسبي حزب حركة النهضة يستشيطون غضبا ويخرجون عن المألوف كلما ذُكرت واحدة من الشعارات التي دأب مواطنونا على ترديدها في المظاهرات والاعتصامات باتهامهم رئيس حزب الحركة بالاغتيال أو بالتسامح مع الإرهابيين الذين يذكّرونه بشبابه وفق ما قال، وقد تفطن الشباب الوطني إلى المسألة فأصبح نشيدهم المفضل رفع هذه الشعارات نكاية في الحزب وحركته، ولأن راشد الغنوشي يحتلّ مكانا محوريا وأساسيا لسابقته في التأسيس وللمهام التي خوّلها له القانون الأساسي المعوّل عليه وإشرافه على المالية فإن مجرّد التعريض به أصبح من المحرّمات لدى منتسبيه حتى إنه يوم عودته من إنكلترا استقبله مناصروه بقصيد أقبل البدر علينا في تشبيه مستنكر ومستهجن ومستقبح ومستقذر ومَعيب لحادثة خروج بنات النجار لاستقبال الرسول صلى الله عليه وسلم لمّا وصل إلى المدينة فشتان بين السماء والماء، والذي أودّ قوله إن الذي يقدّم نفسه للعموم عليه أن يستعدّ لهذا الذي حدث ولِما هو أكثر هذا أوّلا وثانيا إن ما تعرّض له التونسيون من هَوَان ومهانة بين الأمم خلال هذين العامين اللذين تصدّر فيهما حزب الحركة للحكم لن يمحُوه الزمان فجرحه غائر في ذاكرة الأمّة، قال الجبرتي في وصف حالنا سنة 1798: "وجرى على الناس ما لا يسطر في كتاب ولم يكن لأحد في حساب، ولا يمكن الوقوف على كلياته فضلا عن جزئياته، منها عدم النوم ليلا ونهارا، وعدم الطمأنينة وغُلوّ الأقوات وفُقد الكثير منها خصوصا الأدهان، وتوقع الهلاك كل لحظة والتكليف بما لا يطاق، أو مغالبة الجهلاء على العقلاء وتطاول السفهاء على الرؤساء، وتهوّر العامة ولغط الحرافيش وغير ذلك ممّا لا يمكن حصره"(9) ويواصل الجبرتي حديثه عن كراس شروط هيكا زمانه قائلا: "نادى أصحاب الدرك على العامة بترك الفضول والكلام في أمور الدولة، فإذا مرّ عليهم جماعة من العسكر مجروحون أو منهزمون لا يسخرون بهم، ولا يصفقون عليهم كما هي عادتهم"(10) وغاب عن حزب الحركة وتابعَيه أن عدم النوم خوفا من الاغتيال أو التفجير وتوقُّع الهلاك لانتشار الإرهاب ولغط الحرافيش من روابط حماية الثورة في الكرم وغيرها وفقدان الأدهان كاللحوم ومشتقاتها بحيث أصبح شعبنا شعبا عَشّابِيًّا وتطاول السفهاء الذين ظهروا بعد انتخابات 23 أكتوبر، كلّ هؤلاء كانوا السبب في سخرية شعبنا ممّن قادتهم المؤامرات والخيانات والتزوير إلى مواقع الحكم عملا بالبيت الشعري الشهير لابن إياس:
إن حُمِّلت الأنفس ما لا تطيق * * * أطلقت الألسن ما لا يليق
-------------
الهوامش
1) سورة النجم الآية 32.
2) مجلة "المعرفة" العدد 8 السنة 5 بتاريخ 1 سبتمبر 1973 ص5.
3) "المقدمة" نشر دار المصحف، القاهرة دون تاريخ، ص149.
4) صحيح مسلم 3/1478 كتاب الإمارة، باب 13، ح58.
5) "النقط فوق الحروف، الإخوان المسلمون والنظام الخاص" لأحمد عادل كمال، الزهراء للإعلام العربي، القاهرة 1989، ص137. إخلاء سبيل الجماعة من عضو منها أي قتله، أمّا صالح عشماوي فهو الذي أسند إليه حسن البنا مهمة الاشراف على النظام الخاص.
6) "تنظيمات الإرهاب في العالم الإسلامي أنموذج النهضة" عبد الله عمامي، طبع الدار التونسية للنشر، تونس1991، ص49 و51.
7) انظر القانون الأساسي المعوّل عليه الفصل 28.
8) مجلة "حقائق" العدد 225 من 8 إلى 14/12/1989.
9) "عجائب الآثار في التراجم والأخبار" عبد الرحمان الجبرتي، طبعة مكتبة مدبولي، القاهرة 1997، إعداد وتحقيق عبد العزيز جمال الدين، 4/341 و342.
10) المصدر السابق، 4/109.
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: