فتحي العابد - تونس / إيطاليا
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 7159
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
انطلقت الحركة الإسلامية في تونس بعنوان الجماعة الإسلامية، فحركة الإتجاه الإسلامي، فحركة النهضة، وقد مرّت بالعديد من التحولات الفكرية والتنظيمية. فعلى صعيد الفكر حدثت في بداية النشأة والتكوين قراءة لمجمل أفكار سيد قطب، وحسن البنا، وأبو الأعلى المودودي، ومالك بن نبي، ثم في مرحلة ثانية وقع انفتاح على كتابات منظرّي الثورة الإيرانية وخاصة مرتضى مطهري وعلي شريعتي والمفكر العراقي محمد باقر الصدر.. وبقي التزامها بالخط العام لحركة الإخوان المسلمون من حيث التنظيم، معتبرة أن التجديد الفقهي والفكري والسياسي في إطار سنن الإختلاف والتدافع يعتبر من عوامل الإبداع و البناء الحضاري الاسلامي.
ونجاحها في بلورة مرجعية فكرية ذاتية ليس صدفة، بل هو اجتهاد من قياداتها بعد تحولات فكرية كبيرة. وقد اعتبر الكاتب والباحث الفرنسي "فرنسوا بورجا" أن حركة الإتجاه الإسلامي عندما تأسست هي بمثابة إعلان عن انفصالها عن المشروع الإخواني، لأنها قبلت بقواعد اللعبة الديموقراطية، وهو مالم تفعله نظيراتها في الوطن العربي بما فيها حركة الإخوان المسلمين نفسها.
والنهضة ارتبطت في عمومها بمدرسة الإصلاح التونسية المتمثلة في خير الدين ومحمد علي باشا ومكي بن عزوز وعبد العزيز الثعالبي و الشيخ العلامة الطاهر بن عاشور كما عملت على إحياء الفكر الإجتماعي والسياسي والإقتصادي لابن خلدون. إلى درجة القول بأن الحركة هي امتداد لكل هؤلاء.
حركة النهضة صاغت مرجعيتها الفكرية الذاتية المتشبعة بخصوصيات البلد تونس، واضعة في حسبانها أن المرجعية الفكرية هي الإطار النظري الذي يحدد القيم والمبادئ التي تحدد مسار تجربتها، وترسم آفاقها الإنسانية العليا.
إن حركة النهضة أدركت من البداية أن لابد أن تكون لها خصوصية وإن كانت نسبية، والسبب في ذلك هو خصوصية التجربة الحداثية في تونس، التي فرضت على حركة الإتجاه الإسلامي التأقلم مع مجتمع فيه تطورات اجتماعية حداثية، وفيه نضال نقابي ويساري وحقوقي ونسوي خاص أدى إلى التأقلم.
ولكن قمع السلطة للحركة الإسلامية دفع أجنحتها لأمرين متوازيين هما مواصلة البحث عن صيغة "أكثر حداثية وديمقراطية"، مما دفع ببعض المغتربين والمنفيين وعلى رأسهم الشيخ راشد الغنوشي بأن ليس أمامهم إلا أن يحترموا خيار الشعب، ما احترم الفائز قانون اللعبة، حتى لو شعب تونس اختار في انتخابات حرة الحزب الشيوعي بأغلبية، وذلك لمقارعة الخطاب السلطوي. والسعي إلى المحافظة على الوحدة التنظيمية التي تستدعي عدم الذهاب بعيدا وسريعا في اتجاه "الحداثة"، حتى لا يشعر المسجونون بخيانة إخوتهم "المراجعين".
وما ضمن تعايش هذين الإتجاهين طويلا هو طابع الحركة نفسها الذي يقوم على الإزدواج بين الدعوي والسياسي، وبين المبدئي والبراغماتي، وبين الأصولي والنهضوي، وخاصة بين الظاهر الديمقراطي والباطن التقليدي المحافظ.
فعلى المستوى الفكري، استطاعت حركة النهضة إلى حدود عقد قبل الثورة أن تتحول إلى ورش عمل وحركة نامية متجددة، تشارك فيها عقول مختلفة، رغم تكريس شخصية الزعيم، المؤسس التاريخي، الذي لم يكن قيمة فكرية معتبرة فقط، بل قيمة شخصية وعاطفية..
ففي القضايا السياسية، كتابات الشيخ راشد الغنوشي وأهمها "الحريات العامة في الدولة الإسلامية"، وكتابات عبد الباقي الهرماسي، أما في القضايا الإجتماعية التي هي الأكثر ارتباطا بالواقع مثل قضية المرأة، فقد لعبت المؤلفات الحركية التونسية دون سواها دورا كبيرا في تأطير التفكير الحركي للنهضة بخصوص المسألة النسائية، خصوصا كتاب الشيخ راشد حول "المرأة بين القرآن وواقع المسلمين"، وكتب الدكتور أحمد الأبيض، "فلسفة الزي الإسلامي"، و"مقاربة إسلامية للإستلاب النسائي"، و"من أجل حياة جنسية إنسانية وناجحة" و"الإشكال الجنسي في الواقع المعاصر". بل كتبه تعدت الحدود التونسية واكتسحت الساحة العربية والإسلامية وبالخصوص المغرب الشقيق.
وأكاد أجزم أن الممارسة الطقوسية لأغلب رواد النهضة وفية للمذهب المالكي رغم المغازلات لبعض المذاهب الأخرى، وهاته المغازلات أغلبها كردة فعل على محاولات النظامين السابقين للثورة تغريب البلاد.
فحركة النهضة في عمومها، منتوجا مرجعيا وفكريا تونسيا، واستطاعت الإستفادة من الإبداع التونسي، فقها وفكرا، رغم أنك لاتكاد تجد في مداولات منتسبيها حديثا عن تاريخ تونس، وظروف تشكله عمرانا واجتماعا، في حين تجد أغلب أبناء النهضة من الثماننيات والتسعينيات يعرفون أشد التفاصيل عن المقاهي التي كان يرتادها حسن البنا داعيا، والجبال الوعرة التي كان يسلكها المقاتلون الأفغان في حربهم مع الإتحاد السوفياتي، أو صعود "الإخوان"، عفوا، جماعة الضباط الإسلاميين إلى الحكم في السودان..!
واليوم نرى أن هناك إدراك متزايد يوما بعد يوم في عقول أبناء حركة النهضة على ضرورة بلورة مرجعية فكرية تونسية، في ضل هبوب رياح مرجعية مشرقية جديدة على تونس بأشكال ومساحيق حديثة وجذابة، مرة تحت إسم "صناع الحياة"، وأخرى "ونلقى الأحبة" وأخرى "البرمجة اللغوية العصبية"، وغيرها كثير مما عرض جمهور الصحوة الإسلامية الثانية لحالة اختطاف واستلاب جديد، وضيع على الفكر التونسي فرصة لتأطير قطاع واسع من المواطنين، ربما يكون ثمنه غاليا على البلد لاقدر الله.
وأمام الوضع الجديد لحركة النهضة بعد 14 جانفي، نرى أنها محتاجة أكثر من ذي قبل إلى مبادرات فكرية تونسية ناجعة، بعمق ديني، وبحس نقدي إيجابي، وإلا ستتعرض طاقات الشباب التونسي للهدر والضياع، وستوفر منتوجا جاهزا لكل متسوق ديني أجنبي من الخطباء والمفتين والدعاة الجدد وجماعات العنف.
حركة النهضة بعد سقوط المخلوع شهدت تحولا جذريا ثالثا في مسيرتها، وسلكت طريق أفقدها خصوصياتها التنظيمية الداخلية التي تعتمد على البناء العقائدي، والتي لم تعد ملزمة لأحد، ورفع عنها صفة التوجه الإسلامي الصرف، باعتبار التنوع الذي أصبح عليه أعضاؤها، وزادت تركيبتها تعقيدا مقارنة مع جميع التيارات الإسلامية في الوطن العربي والإسلامي رغم اتهامها تارة بأن مرجعيتها العدالة والتنمية التركية، وتارة جبهة الإنقاذ السودانية.
النهضة لم تعد بفلسلفتها الجديدة قادرة على استيعاب حركة النهضة بأعضائها فقط.. لقد تغير مفهوم الإنتماء لها وصار مبنيا على النقاش والجدل والتفكير بعدما كان قائما على مفهوم الطاعة والتنفيذ..
هذا التحول جعل النهضة اليوم غير قادرة على القيام بعملية فرز صلب أعضائها، تنتقي منهم من تشاء وتلفظ من تشاء وتركن على جنب من تشاء، بشكل أصبح الإنتماء إليها يحدده الفرد ولايحدده الحزب، كما كان سابقا يتم قبولهم بالتزكية وما يتطلب ذلك من نزاهة من يزكيهم..
النهضة أصبحت مفتوحة على كل التونسيين دون استثناء، مهما كانت التزاماتهم الدينية وأفكارهم التي يحملون، لا يشترط عليهم الإلتزام بأداء الشعائر من صلاة وغيرها، ولا يبحث في منشئهم السياسي وإن كانوا تجمعيين شرفاء، يكفي ألا تتعلق بالمنتسب للحزب أحكام تعيق انتماءه له، ما يضعنا أمام تصورات جديدة لهذا الحزب.
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: