فتحي الزّغــــــــل - تونس
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 7232
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
في يوم جميل رقصت فيه السّحب من أوّله، وغنّت فيه الشّمس من مطلعها، و طربت فيه العصافير من مضجعها... لشدّة النعيم الذي نعيشُ، و لطيب العيش الذي نذوق، و ليقين الإحساس بأنّ حامي الحمى و الدّين لا يزال يُظِلّنا بظلّ رعايته الموصولة إلى اليوم، رغم السّنوات الّتي تفصلنا عن رؤيته يهرب من بين ظهرانينا... قلتُ، و في ذلك اليوم البهيج، وفي اجتماع من تلك الاجتماعات التي يعقدُها أشراف الحيوانات وأكفؤها في الدّنيا والدّين، في حديقتهم الخلفيّة التي تطِلّ شرفاتها على قلب الوطن و شرايينه، والّتي كان موضوع انعقادها على ما أذكرُ، العلاقة الّتي يمكن أن يتفطّن إليها شعبُ الإنس في بلدي، و التي تربط بعض تلك الحيوانات بالسّياسة و الشّأن السّياسي فيه... تلك الاجتماعات الّتي لم أكن أتخلّف عنها أبدا، ومازلتُ على العهد إلى اليوم، بأن لا أتخلّف عنها، لقيمة الفائدة الّتي أخرج بها عند نهاية كلّ اجتماعٍ، و لمقدار الحكمة التي أستقيها من المتدخّلين في منابرها، خاصّة خاصّةً إذا المتكلّمون فيها من تلك القامات الطّويلة في التّحليل والفكر والمراجعة، كالثّعلب والحمار والفأر.
وكنتُ، ولازلتُ أعتبر نفسي من تلك الحيوانات عندما أسمع هؤلاء الجهابذة، إلاّ أنّني لم أصل بعد إلى مستويات بعضها في التّوصيف و المكر و الخداع. و حتّى عندما ألحظ منهم العيبَ و العارَ و الشّينَ، فكنتُ أواصل - رغما عنّي - أستمع لهم، سيّما إذا رأيتُني وحيدًا بفكرٍ يفضحهم، بين بقيّة الحيوانات تُصفّق لهم تارة، و تدعو لهم بالصّحّة و طول العمر تارة أخرى، رغم عِلمها أكثر منّي، بحكم أنّي لستُ من جنس حيوانات الحديقة و هي منهم، بأنّ بعضها قد شارف عُمرَ الموت الافتراضيّ لبني جنسه من البهيمة، و دخل في عُمُرٍ ثانٍ لا أرى له حكمةً سوى أن يعاقبنا الله بإطالته، و يُسلّطه و فعلَه علينا و على أمثالنا من الأغبياء.
كما أنّني أعرف أنّ تلك الحيوانات الثّلاثة ومعها الأسدُ الذي أظنّه لم يعرف إلى اليوم أنّه أسدًا، يكرهون حضوري ويمقتون متابعتي لهم و تعليقاتي على تصريحاتهم اليوميّة في حدائق البرّية والحيوان، وذلك لأسباب أعلمُها ولا أريد التّصريح بها أمامهم...
فالأسد يمُجُّني لأنّي أذكّره بأنّه عاجزٌ، ويُذكّرني هو بدوره دوما، بأنّ عجزه الذي لا يعترف به، هو من قبيل اطّباع بطبع أسلافه في غابات أخرى لا غير، و من قبيل الانحناءات التي تفرضها مصلحة الغابة العليا، والّتي نسمّيها نحن – البشر - بالمصلحة الوطنيّة. وأنّ تنازله عن العرين هو من قبيل التّكتيك والطّيبة الّتي يتّصف بها أسلافه الأسود الذين لم يبيتوا في عرينهم ليلة واحدة منذ ألف سنة ممّا يعدُّون... كما أنّ عجزه ذاك – و كما يقول لي - مردّه عدم قبول عديد النّاقدين الانضمام إلى جماعته في العمل، وبلاطه في المشورة، ويقصدُ منهم بالطبع مُحدِّثُكُم. فأين يثقــفني المسكينُ ناقمًا على عجزه، يُردِّد أمامي أنّي رفضتُ الوَزارة والإمارة والإشارةَ، و أنّي لست فالحا سوى في النّظر في صور الأسود الّتي أحمِلُها معي من غابات أخرى، لأتبيَّن الفروقات السّبعة بينها و بينه، و التي لا يتطلّب العثور عليها جهد نملة في عقلها الصغير.
أماّ الثّعلب فكان يمقـتُـني و يمقتُ حضوري واستماعي له. لأنّه – و كما أسرّ لبعض مستشاريه ذات يوم - يُدرك أنّني الوحيد من بين كلّ الحضور العليمُ بعد الله أنّه كذّابٌ أشِر. بل أنّه، وكما قال لهم، يستشيط غضبا في كلّ مرّةٍ يوصلُه فيها مكره إلى أن يُصدِّقُه الأسدُ، بأّنّه حملٌ من الحملان في هيئة ثعلبٍ لا غير، ويراني أنا أكذّبه وأكذّب ما يقول في ما أكتبُ عليه، و أواصِلُ نعته بالثعلبِ... فيُعاديني والأسدُ المسكينُ، و تزيدُ عداوتُه لي كلّ يومٍ، و كلّ اجتماع، و كلّ مقالةٍ... فهو لا يعلم أنّ وراء نظرتي الدّونيّة له، علمٌ بحدثٍ، لا بغضاء دفينة. فهو يفوقني مكرا و خديعةً، و أنا أفوقه بصرا و بصيرةً، إلاّ أنّ أولو الفضل في أوطانهم غرباءُ. و أصل الحكاية و مفصلها، و بيت قصيد كرهه لي، أنّي رأيتُه يومًا من الأيّامِ الخوالي في أيّام مجد الهارب سيّده في سوق النّخاسة يبيع ابنه، و رأيتُه ليلةً من الليالي الظلماء التي يُفتقد فيها البدرُ، يفاوض ثعلبًا آخر من غابة أخرى، على أن يمنحه زوجتَه يبيتُ معها، مقابل ثمن بخسٍ دُهِشتُ له، إذ كان ساعتها – على ما أذكُرُ - ترقيةً من خطّة ثعلبٍ إلى خطّة ثعلبٍ عامٍّ. كما لِأنّي أُمسِكُ عليه أنّهُ صرّح وأقسَمَ في اجتماعٍ سابقٍ، كان بعد هروبِ سيّدِه مباشرة، بأنَّ الغابةَ، والحديقةَ، والأشجارَ، والأرضَ، و الزوجةَ، والابنَ، لا يعنُون لهُ شيئًا في سبيل سيّده الهاربِ المخلوع. وأنّ كلّ همَّه بعد حادثة الهروب تلك، هو العرينُ ولا شيء سوى العرين. حتّى إذا فطن لوجودي وقتها، لم يجد حيلةً إلّا التظاهر بأنّه قد اعتنق التمثيل موهبةً، وبأنّ تصريحه ذاك و قسمهُ ذلك، ما هو إلّا تدريبٌ على مسرحيّة جديدة سينشرها في الأسواق نصّا و منهجا، وأنّ ما رأيتُه أنا بناظِرَيَّ، و ما سمعتُه بأذُنَيَّ، لا يعدو أن يكون سوى مقتطفٍ منها لا يغيّر من انتسابه للغابة الشيء الكثير.
أمّا الفأرُ، الذي أَعْجَبُ لصعوده على المنبر كلّما صعدَ، لصغر حجمه، و لقدمِ أفكاره، التي لا تتجاوزُ الجبن منزلةً، و لا العرق توصيفًا، فكان لا يريدُني ولا يحترمُني أصلا... ولعلّه مُحِقٌّ في موقفه منِّي، إذ أنّي لم أسيِّدْهُ في خطابي قطُّ... وكنتُ ولا أزال أدعوه فأرا، و يُريدُ هو أن أدعوه السّيد الفأرُ... و قد أثار حكاية التّسمية هذه، مع صديق لهُ، يَعرِفُ أنّه يُنافقني وأصدِّقُه. و أرسل لي ما مفادُهُ أنّ حجمه الصغيرَ لا يعكس حقيقة حبّ الحيوانات له في الغابة... وأنّهم – أي الحيوانات - يأتمرون بأمره، ويستأنسون برأيه، وأنّه حاكمٌ آمرٌ فيهم. خاصّة في زريــباتِ الحضانة في الغابة، و هي مؤسسات التربية والتعليم عندنا بنو البشر. وأنّ حجمه الحقيقيَّ، ليس في بدنه، بل في ظهوره المتكرّر و الدائمِ على أغصان الأشجار، يخطُبُ ويجلجِلُ، ولو دون حضور الحيوانات، و أنّ تلك الأغصان التي تُهيَّأ له كلّ يومٍ لنشر أفكاره و تصوير صولاته و جولاته، لا أستطيع حتّى أنا الظهورَ عليها، و لو جئتُ بمثل وزني ذهبا، فهي له و لأمثاله دون سواهم. يتداولُ عليها مع الثعلبِ، و النّمس، و القليلِ من الوقت للبرغوث و البعوضة. بل يُذكِّرني دائما بأنّه يشتم الأسد من عليها، و يقول فيه السيِّئَ و الفِريَةَ، دون أن يصدُر من الأسدِ حتى ردٌّ عليه يليق بقوّته التي ينكِرُها عليه... بل أنّه يُردِّدُ دوما بأنّ العرين لن يكون إلّا له، وأنّه سمع مؤخّرا بأنّ طبيبا هنديّا، قيل أنه قدّم مطلبا للحصول على الجنسية الفرنسية، قد فتح عيادةً في غابة أخرى تُجاورُ بلاد كعبة الله و بيتَه الحرامَ، ينفخ الأجسام فيها، كما ننفخ نحن بنو البشر النُّهودَ والشفاهَ...وأنّه سيزُوره حتما وسينفخ فيه ذلك الطبيبُ من علمه، و سيصبح بعد النفخ مهراجًا. لكنّه ورغم ذلك يعلم أنّي مصرٌّ على رأيي وأنّه لا يعدو أن يكون فأرا صغيرا لا حيواناتٍ تناصرُهُ، بل أغصانٌ تقدّمُ إليه يصيح من أعلاها، ولا يسمعه منها سوى الضفدعُ والكسلانُ.
أمّا الحمار، فهوالوحيد الذي يعلم أنّي أحترمه وأحبّه، وأنّي أستلهم الحكمة منه،وأنّ كل كتاباتي وأفكاري قد يكون له الفضل فيها... إلّا أنّه يراني بعين العالم للجاهل. وأنّي السببُ في كلّ ما حدث للغابة من استئساد للفأر، وتعاون بينه وبين الثعلب على الأسد... وأنّي السّبب في خروج الأسد دون لباس يواري عورته. وأنّي السبب وراء تلعثم أحد رعاة الحوار الوطني و نعته ذاك الحوار بالحمار، ممّا حزّ في نفسه كثيرا للمستوى الذي وضعه فيه المتلعثمُ الثّرثار... كما أنّه يعتبرني سبب ضياع هيبة الدولة عن الرؤساء يوم هجوم النقابيين - المهنيّين جدًّا - عليهم في جنازة شهداء الحرس ببلدي...وأنّي السّبب الرّئيس في كلّ عمليّة يسمّيها بني جلدتي "إرهابا"، و يُسمّيها معاليه "تكتيكا" نحو إلغاء المسار الانتقالي في بلدي...
وللشهادة، كنتُ دوما أزجُرُه لأنّه يتدخّل في أمُورنا نحن بنو البشر، و أدعوه على احتشامٍ ليهتمّ بشؤون الغابة التي فيها يعيش. إلاّ أنّ صاحبي يُصِرُّ على أنّه يرقُبنا من الغابة في كلّ يومٍ، يبكي على أسدنا، و حال الفأر بيننا، و مكانة الثعلب فينا. و يردّدُ على مسمعي دومًا بأنّه كلّما حاول مقارنة ما يحدُثُ عندنا و بين أحداث الغابة موطنه، لم يجد أيّ فرقٍ يُذكرُ...
ففي غابته الأسد فأر والفأر أسدا...
وفي غابته يمكرُ الثعلب ليُرهِب غيره، ثمّ يلبس جبّة الحمل و الحاكم و الضحيّة...
وفي غابته يصمتُ الحكيم ويصيح الرّويبضة كلّ ساعة و يوم و حدثٍ... .
فليتني كنتُ الحمار... و ليتَ بشرًا يملكون زمام الأمر في بلدي يكونون الحمارَ معي، فعلمُه واسعٌ، و فهمه واضحٌ، و فكره فاقعٌ، و قولُهُ صادحٌ. و ليتني كذلك، كنتُ معه في غابة دون غابته و غابتي التي فيها أعيش، لسعة علمه الواضحة، و لحكمة بصيرته الظاهرة... وليته – و هو الحمارُ - كان بين أولائك يُعلّمُهم دنياهم.
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: