د - صالح المازقي - تونس
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 7401
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
منذ أن سقط نظام حكم الرئيس المخلوع "ابن علي" والشعب التونسي يفاجئ مع مطلع كل شمس بأحداث أغرب من الخيال، والأسباب عديدة ومتنوعة يضيق المقام عن ذكرها وشرحها. آخر تلك المفاجآت التي نعيش على وقعها في تونس، الحدث القنبلة الذي فجره أحد نواب المجلس التأسيسي المنتخب منذ أسبوع.
في الحقيقة لم أعلم بهذه (الغريبة) إلا بعد عودتي إلى أرض الوطن من مهمة علمية وأدبية استغرقت أسبوعين قضيتها في المملكة المغربية الشقيقة مع قافلة المحبة المغاربية. على إثر عودتي باشرت عملي في اليوم الموالي، فطلب منّي طلبتي بمرحلة الماجستير رأيي في مسألة المنح التي تمتع بها بعض نواب المجلس التأسيسي بغير وجه حق وكان عددهم (67 نائبا) إضافة إلى (04 وزراء) تقاضوا مرتبين شهريين من جهتين مختلفتين؛ وللأمانة لم أعي ما قصّه عليّ الطلبة ولم أفهم حديثهم ونقاشاتهم واعتبرت الأمر مزحة أرادوا من خلالها الخروج على موضوع الدّرس، فرغبت عن حواراتهم وطلبت منهم العودة إلى ما ينفعهم.
لكن كانت دهشتي عظيمة وأنا أتابع حصة حوارية معادة البّث على إحدى القنوات التلفزية التونسية التي ترّكز الحوار فيها حول ذات المسألة التي اعتبرتها مزحة مغرضة قام بها الطلبة... وللأسف الشديد لم تكن نكتة ولا إشاعة يراد منها المسّ بأعضاء انتخبناهم لينوبوا عنّا في المجلس الوطني التأسيسي ويعبّدوا الطريق أمام قيام الجمهورية الثانية بعد ولادة دستور جديد يستجيب لرغبات شعب ثار على الفساد والمفسدين. ما إن انتهت إعادة الحصة التلفزية حتى شعرت بكل دوار العالم يحطّ رحاله برأسي إلى درجة أحسست معها بغثيان شديد...
تشنّجت أعصابي وأصبت ليلتها بأرق حاد وشوّشت أفكاري وفقدت القدرة على التّركيز وارتفع منسوب غبائي الفطري، هذا الغباء الذي دفعني إلى تفاؤل مجنون بمستقبل وردي ينتظر أجيال التونسيين بفضل ثورة نظيفة لم يشهد التاريخ البشري لها مثيلا.
لقد انتخبت غالبية التوانسة من اعتقدوا أنهم يخافون الله ويعملون بتعاليم الإسلام الحنيف، وظنّنا نحن البسطاء أنّ هؤلاء القوم جاؤوا إلى الحكم من أجل تطهير السلطة من شوائب الفساد والقضاء على رموزه وآلياته الجهنّمية التي أتت على الأخضر واليابس من خيرات وثروات البلاد، وقد حوّلوا هذه البلاد إلى ضيعة والعباد إلى عبيد... وليصلحوا ما أفسده الدّهر ويعيدوا الحقوق إلى أصحابها بفضل عدالة انتقالية، تبيّن في النّهاية أنّها (عدالة انتقامية) أراد من خلالها حكّامنا الجدد تسليط عقوبة جماعية على شعب، اعتقدوا أنّه خذّلهم وتخلّى عن نصرتهم في صراعهم مع الطاغية... لكن ما راعى هذا الشّعب الطّيب (إلى حدّ السذاجة) أن النّخبة المنتخبة من إسلاميين وغيرهم، لم تكن سوى استنساخ مقيت لأولائك الذين عبثوا واستهتروا واستخفّوا بمشاعرنا لعقود طويلة فعاثوا في الأرض فسادا وإفسادا.
وبغضّ النّظر عن تفاصيل الحدث الذي يندى له الجبين ويشيب من هوله الرّضيع، ولنبقى في جوهر الموضوع الذي يعتبره القانون التونسي المستمد من مرجعية أخلاقية كونية مفادها تحريم السرقة ومعاقبة مرتكبها حفاظا على اللّحمة الاجتماعية وضمانا لحق الملكية العامة والخاصة. نفس القانون التونسي صنف السرقة وربط كل صنف منها بدرجة من العقوبة تتناسب معها طردا من حيث إساءتها للأفراد و/أو الجماعات و/أو المجتمع وما يترتّب عن كل صنف من آثار ومضار.
السرقة في القانون التونسي جناية وليست جنحة (هذا حسب معرفتي المتواضعة)، ولعل أخطر أنواع السرقات حسب المشّرع التونسي تلك المضاعفة بخيانة المؤتمن إذا نسبت لمنحرف ولو كان محتاجا، فما بلك إذا تعلق الأمر بسرقة موصوفة للمال العام من قبل، عندها تكون مقترنة آليا بخيانة المؤتمن وعندها تتعقّد الأمور أكثر فأكثر... خاصة بعد قيام الثورة. فكيف تسوّل بعض الأنفس الضعيفة لأصحابها التّمتع بما ليس لهم فيه حقّ ودماء الشهداء (الذين لولا تضحياتهم ما وطأت أقدام هؤلاء عتبات السلطة وما وضعوا مؤخراتهم على كراسي الحكم) لن تجّف أبدا لأنّ الأرض لا تشرب دما.
من اللحظة التي اعتلا فيها التّيار الإسلامي وحلفاؤه السلطة بانتخابات نزيهة وشفّافة (وهذه حقيقة تاريخية لا غبار عليها)، حتى انحرفت الترويكا الحاكمة على مسار الثورة وتآمرت وتحايلت على النّاخبين الذين صوّتوا لهم ولغيرهم(*) بالتّسلّل من المجلس التأسيسي (السلطة التّشريعية) إلى السلطة التّنفيذية بتشكيل حكومة، لينفّذوا مشاريع ميّتة للاستيلاء على مفاصل الدولة... في نفس الوقت لم يتوقف نوّاب التّيار الإسلامي (على وجه الخصوص) من تصديع رؤوسنا بمسألة الهوية، وهي قضية محسومة أساسا في بلد مسلم بطبيعته إلى جانب مناداتهم بحناجر لا تكل ولا تبّح بتطبيق أحكام الشريعة وقطع يد السارق ورجم الزّاني و... الخ.
وإنّي أحمد الله الذي منحهم فرصة تطبيق أحكام الشريعة السمحاء وقطع يد السارق إذا سرق. فلماذا لا يبادرون بإعطاء المثل الأعلى ويبدؤوا بقطع أيادي زملائهم (السبعة والستين زائد أربعة وزراء لا نعلم انتماءهم الحزبي) التي امتدّت إلى أموال التونسيين من عاطلين وأرامل وأيتام في شكل رواتب ومنح سكن...؟ أم أنّ فعلتهم هذه لا تنضوي تحت بند السرقة؟ أم أنّ سرقة المال العام والتّمتع به بغير وجه حق ليست سرقة؟ أم أنّ أموال التوانسة مستباحة باسم الله وعونه؟. تفضّلوا يا سادة يا كرام بتطبيق شرع الله وإقامة حدوده فلا تضيّعوا علة أنفسكم فرصة عملية لتفعيل قناعتكم، أم ستعملون بالمثل الشعبي القائل (عليكم موش علينا)؟ علما وأنّ كل الذين تمتّعوا بتلك المنح أو رضوا وقبلوا بمراكمة مرتبين من مصدرين مختلفين ويسميها الفرنسيون (malversation) يقعون تحت طائلة نصوص المجلة الجنائية التي يقّر أحد فصولها بمعاقبة مرتكب هذه الجناية بخمسة عشر سنة سجنا مع النّفاذ إضافة إلى إرجاع المال المنهوب إلى الخزينة العامة للدولة.
يبدو واضحا أنّ الدولة التونسية لا تزال في حالة ضعف شديد إلى حدّ الوهن وكذلك الشعب الذي فرّط في ثورته بطيبته وحسن نواياه فهو يعيش في غيبوبة عميقة. هذا ما بيّنته وشرحته في إسهاب إحدى المحاميات الفاضلات من وجهة قانونية لا تحتمل التأويل في مواجهة شجاعة وجريئة مع المدافعين والمدافعات على هذه الفضيحة/الجريمة في صلف ووقاحة عن هذا الفعل المشين ومرتكبيه.
وإنّي لأعجب من هؤلاء الذين تحدّوا مشاعرنا واستباحوا أموالنا وسمحوا لأنفسهم بتلويث نبل ثورتنا وتشويه سمعتها أمام القاصي والدّاني وشمتّوا فينا الأعداء، ألم ينتبه السادة والسيدات النّواب أنّ الوضع الاقتصادي للبلاد التونسية يقف على شفى جرف هاري يوشك أن ينهار بهم وبنا؟ ألا يهمهم أمر العاطلين الذين يعانون الإحباط والحرمان والإهانة إلى درجة دفعت بأحدهم إلى الانتحار حرقا (خلال الشهر الجاري) أمام المسرح البلدي في قلب العاصمة احتجاجا على بؤسه وتعاسته؟ ألم تصلهم التقارير الرسمية عن ارتفاع نسبة الفقر في البلاد؟ أليس لهم علما بغلاء المعيشة الذي يقوّض مضاجع الأسر التونسية؟ أم أنّ تصرفهم هذا نابع من مبدأ (لا تحق الصدقة حتى يشبع أهل الدار)؟...
وأذّكر الجميع بأنّ الله يمهل ولا يهمل، وأنّه ليس أمام كل أعضاء المجلس الوطني التأسيسي ورئيسه باعتباره المسؤول الأول والأخير عن الإذن بالدّفع الذي لو لم يمضي على صرف المنح لمّ وصلت إلى حساباتهم البنكية والبريدية، سوى تقديم استقالتهم الجماعية والاعتذار إلى الشعب التونسي بكل شرائحه وتقديم أنفسهم بأنفسهم إلى القضاء، بعد أن طعنوا بأنفسهم في نزاهتهم ونزاهة المجلس التأسيسي، كذلك على أعضاء الحكومة الأربعة أن يفعلوا عسى أن يسامحهم الشعب ويغفر الله لهم.
وليس من حق أي متحذلق أن يخوّف التونسيين بالعيش في حالة الفراغ الدستوري، فنح لا نخاف الفراغ الدستوري لأننا نعيش في صلبه، ولا ضير إن امتدت بنا هذه الفترة التي لا تكشف عن نهايتها بفضل مماطلة هذا المجلس في كتابة دستور للبلاد. ,إنّني بعد هذه الفضيحة أناشد الشعب بكل أطيافه وفي مقدمته الأحزاب السياسية على مختلف إيديولوجياتها أن ترفض بشكل قاطع أن يكتب الدستور بأيادي ملوثة، وإنّي أتوجّس خيفة أن تشرعن هذه السلالة الفاسدة المنتمية إلى المجلس التأسيسي (67 نائبا) سرقة المال العام و"يدستروا" استباحته، وهذا ما لم يفعله المنحرفون المحترفون السابقون.
تخيّلوا معي لو أنّ هذا النّائب الشريف صاحب النّفسية العفيفة المتعفّفة لم يعارض أو لم يرفض المبلغ المالي الذي دخل حسابه الجاري، ومرّت العملية بسلام دون أن يعلم بها الإعلام جملة وتفصيلا؛ هل سيأكل المنادون بتطبيق أحكام الشريعة نصيبهم من مال عام حرام ويلقون في بطونهم نارا ؟ الجواب سيكون قطعا بنعم، لأنّ منهم من تصرّف في تلك المبالغ واستساغتها أنفسهم، وها هم اليوم وبعد افتضاح الأمر يبدون استعدادهم لإرجاعها لأصحابها المعذّبون في الأرض أقساطا ميسّرة دون خجل ولا وجل. في ذلك إقرار صريح بعدم مشروعية المال الذي تصرّفوا فيه وتصريح على الشّرف أنّهم بدون شرف. أولا قبولهم بتلك المنح والمرتّبات وسكوتهم عليها جريمة في حدّ ذاتها تقيم الدّليل على توفّر ركن سوء النيّة مشفوعا بعلمهم بأنّها أموال حرام حتى لو كان دينارا واحدا. ثانيا التّصرف في تلك الأموال (مهما كانت مبالغها) أمر كاشف على انحراف سلوكي متعمّد.
فإذا تناولنا هذا السلوك الشّاذ من زاوية علم الاجتماع وعلم النّفس الاجتماعي لقلنا أنّه يندرج في صيرورة التّغيير التاريخي المتّسمة بالبطء ويعتبر امتداد للانحراف سنوات طويلة من الفساد، فَقَدَ وافْتَقَدَ فيها المجتمع التونسي جلّ أطره المرجعية نتيجة سياسة تجفيف المنابع الأخلاقية والثقافية واستبدالها بأخلاقيات وثقافة رأسمالية زائفة ومشّوهة دخيلة قائمة على مبدأ الرّبح السّهل والسّريع التي ساهم أباطرة إعلام البلاط في نشرها بين مختلف طبقات المجتمع التونسي؛ وغرسها في وجدان كل الشرائح العمرية خاصة الشبابية منها وعلى وجه التّحديد العاطلين والطّامحين والحالمين بالتّرقي الاجتماعي بأيسر السّبل وأقصرها وتثبيتها في ثقافة جماهرية تحقّر الطريق الكلاسيكية والموضوعية والمنطقية لكسر الطبقية والتّخلص من براثن الفقر؛ وأعني على وجه الدّقة المؤسسة التّربوية ومناهجها العلمية.
لقد تدّنت مكانة المدرسة في نفوس الشباب واجتثّت من بواطن اللاشعور الأسري وتحوّلت الشهادات العلمية إلى عبء على كل من اللأولياء والأبناء، حتى أطلق شباب الثانوية العامة والجامعات صيحتهم الشهيرة للتّعبير عن خيبة أملهم في التّحصيل العلمي (تقرا ما تقراش المستقبل ما فمّاش). لقد حلّت محلّ التّعليم في نفوس الناشئة سلوكيات جماعية أُقِيمَت على قاعدة (هات شاشيتك هات صباطك)(**) وعيونهم وعقولهم مركّزة في المقام الأول والأخير على الهجرة غير المشروعة، المصطلح عليها في الوسط اشبابي (بالحرقة) إلى الخارج بكل الطّرق مهما كانت ملتوية وبأي ثمن ولو كان حياتهم.
فلا عجب أن يتواصل الانحراف حتى في ظل الثورة، ومن يحلم بالقضاء عليه في مستقبل قريب فهو واهم، بل العكس هو الصحيح، فالفساد ستشتّد وتيرته حتى يبلغ حدّه فينقلب إلى ضدّه بعد جيل أو جيلين، ما لم يتحرك بسرعة أصحاب الحق الثوري ليستردوا ثورتهم أو أن يرحم الله هذه البلاد ويغيّر ما بالعباد، فيغيّر سبحانه إحدى سننه فهو على كل شيء قدير. فسبحان الذي وهب لنا ثورة وسبحان الذي كشف نوايا ربائبها الذين ركبوا موجتها وسبحان من يعلم السّر وأخفى.
-----------
*) انظر مقالي: الانحراف المبيّت، جريدة الصحافة 15/01/2012
**) مثل شعبي تونسي مفاده تقريبا لا تفكر في مصدر ولا نوعية ما تحصل عليه وما تنوي الحصول عليه.
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: