د - صالح المازقي - تونس
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 9439
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
مرت الذّكرى السابعة والخمسون لاستقلال تونس من الاستعمار الفرنسي، الموافق للسنة الثالثة من عمر الثورة، وللأسف الشديد، مرت هذه الذّكرى العزيزة على نفوس جلّ التونسيين في صمت مشين لا يليق بتاريخ الحركة الوطنية ولا رجالاتها الذين قدّموا الغالي والنّفيس في سبيل الحرية والكرامة. لقد قصدت في وعي ومسؤولية قولي (ذكرى عزيزة على نفوس جلّ التونسيين) لأنّ التّجاهل المتعمد من قبل السلطة لهذا التاريخ يحمل دلائل عديدة، تجعلني أستثنيهم من خانة الوطنية التي لم يؤمنوا بها ولم يدرجوها في قاموسهم السياسي. ثم إنّ هؤلاء أي الحكّام الجدد للبلاد، لم يغفروا للرئيس الرّاحل الحبيب بورقيبة، مواقفه وآراءه السياسية المناوئة لجوهر فكرهم السياسي. ودون العودة إلى تاريخ الصراع الإيديولوجي الذي كان قائما في حياة الرجل ولا يزال يلاحقه بعد وفاته، شخصن المسألة وحوّلها إلى خصومة بينه وبين معارضيه الذين نستشف من تصرفهم روح التّشفي والانتقام من أول رئيس تونسي لحما ودما، حتى وهو بين يدي خالقه، بطمس ذكرى الاستقلال التي التحمت في وجدان الشعب التونسي بالرئيس بورقيبة قائد الحداثة والتّغيير.
لكن فات المنتقمين والمتشّفين أنّ شخصية الحبيب بورقيبة الإنسان قد تجاوزت القطرية والإقليمية، لتنحت في ذاكرة الإنسانية مكانة عظيمة، لاقت ولا تزال تلاقي الاحترام والتّقدير. وإنّي لا أدفاع عن الرئيس بورقيبة، حتى وإن بدا الأمر كذلك للمغرضين ممن على قلبهم غشاوة، بقدر ما أدافع عن تونس وتاريخ أمجادها الذي لا ينكره إلا جاحد كنود.
من الغريب أن يحتفل التونسيون المقيمون في فرنسا بمشاركة نخبة من سياسيي بلد الحرية والديمقراطية الذين نزعوا الكثير من الكبر والبغضاء من قلوبهم، وتحلّوا بقدر كبير من الموضوعية رغم تاريخهم الاستعماري والعنصري الذي يراوح الآن بين العنف والنّعومة، ليبقى من المكّونات الأساسية لشخصيتهم القاعدية. في يوم 20/03/2013 أطلق الفرنسيون اسم الحبيب بورقيبة على ساحة من ساحات بالدائرة السابعة في باريس وأقاموا نصبا تذكاريا وسطها، تخليدا لتاريخ هذا الزعيم العربي المسلم وتمجيدا لعبقريته السياسية. شرف تناله أول شخصية عربية مسلمة لم تناله غيرها، ليلحق الجمهورية التونسية حكومة وشعبا.
أحسب هؤلاء القوم وعلى رأسهم السيد برتراند دلانوي Bertrand Delanoë عمدة باريس الحالي وهو من مواليد تونس سنة 1950، هم أقربوا إلى سلوك المسلمين الحقيقيين الذين نزعوا الغّل والذين قالوا "... ربّنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربّنا إنّك رؤوف رحيم" (الحشر الآية 10)، من كل الذين ورثوا الإسلام ولم يتعلموا تسامحه ولم يعملوا بسماحته.
ولو تجاوزنا ظاهر الحدث وحاولنا ابتلاع مرارته التي وصمتنا ولا شكّ بشيء من الخزي والعار، لتهاوننا بتاريخنا المعاصر وإهانتنا لرموزنا الوطنية؛ أرى من الواجب أن ننفذ إلى مضمونه أي [الحدث] لفكّ الرسائل المشّفرة التي لا أعلم إن كانت قد بلغت إلى جميع التونسيين وعلى وجه التّحديد من تولوا إدارة أمور البلاد.
دون تفلسف وبعيدا عن التحذلق الفكري، فإنّي أستسمح الشعب التونسي الذي لا أشّك لحظة في ذكائه، أن أعرض عليه قراءتي المتواضعة للرسالة التي قدمت علينا من وراء البحار، وما تحمله من معاني شديدة الخطورة، استشعرت منها لهجة التّحذير ولمست فيها لغة التّهديد المبطن، المرشّح للخروج من ليونة الخطاب الدبلوماسي ونعومة الإشارة إلى خشونة الفعل السياسي وعلى رأي التوانسة " الحرّ يفهم من غمزة والعبد يفهم من همزة".
أعتقد أنّ الرسالة الأولى وجهها الفرنسيون لأنفسهم، ليبلغوا العالم بأسره، أنهم أمة إنسانية الهوى، تحامي وترعى وتدافع عن حقوق الإنسان حيثما كان؛ وهي دولة معادية للعنصرية والمذهبية، منفتحة الذّهنية على الحضارة الكونية ورموزها المؤثرة، بغضّ النّظر عن أصولها الدينية والاجتماعية وجنسيتها وميولها السياسية. قد يرّد البعض ممن يتهمون الرئيس بورقيبة بالكفر والإلحاد، أنّ الفرنسيين يكرمون الرجل على انحرافه الفكري وتبعيته، الشيء الذي أخرجه على الملّة. أقول لقصار النّظر أنّ إيمان الفرد من عدمه، قضية لا تهم الآخر في شيء، وهي قضية محسومة عند الخالق سبحانه وخاضعة لإرادته ومشيئته التي سبقت الخلق " هو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن والله بما تعملون بصير" (التغابن الآية 2) ولا تغيير لمشيئة الله ولا تبديل فهو وحده العالم بالسرائر " فإنّه يعلم السّر واخفى"(طه الآية 7).
أتوقف هنا برهة لألفت انتباه القارئ إلى أنّ الحدث يحمل في طياته رسالة إلى الولايات المتحدة الأمريكية، تذّكرها فيها بأن لا مساس ببلدان الضّفة الجنوبية للبحر الأبيض المتوسط (المغرب العربي الكبير)، باعتباره العمق الإستراتيجي لدولة فرنسا وأنّ المنطقة بأكملها تمثل امتدادا جغرافيا وثقافيا وسوقا اقتصادية في المقام الأول للقارة العجوز. ولنا جميعا في عملية (تخليص ليبيا من حاكمها سنة 2011) خير دليل، حين تزعمت فرنسا الحملة العسكرية قوات حلف الناتو على بمنع الطيران الحربي الليبي من التحليق في مجاله الجوّي ووقف قصفه للثوّار... الخ. قطعت فرنسا الطريق على الأمريكان في التّواجد العسكري في المنطقة وضيّعت عنهم فرصة التغلغل في شمال إفريقيا، فتلقى الأمريكان الرسالة وفهموا مغزاها.
مناطق النّفوذ العالمية مقسمة بالتّراضي بين القوى الاستعمارية، فالشرق الأوسط وجزء من آسيا منطقة نفوذ أنجلوسكسونية بزعامة الولايات المتحدة الأمريكية، أما إفريقيا بشمالها وجنوبها فهي منطقة نفوذ فرنكوفونية، ومن لا يصدق عليه الرجوع إلى الحملة الفرنسية على شمال مالي مرورا بالجزائر وموريتانيا...
أما الإشارة الثالثة التي تضمنتها الرسالة الفرنسية عبر تكريم الرئيس بورقيبة، فهي موجّهة لحزب حركة النّهضة الحاكم في تونس منذ 23 أكتوبر 2012، مفادها أنّ فرنسا لن تسمح بطمس تاريخ تونس الحديث الذي اقترن باسم بورقيبة رائد الحداثة في العالم العربي، وأنّ الحراك (الرجعي) الذي تشهده تونس بكل أطياف فكره الديني المتطرف و/أو الوسطي عليه أن يلتزم حدود المعقول في مجال العمل السياسي القومي والدولي. هذا بالإضافة إلى إشارة خفية موجّهة للمعارضة التونسية العلمانية، بيمينها الليبيرالي ويسارها الاشتراكي المعدّل، مفادها أنكم جميعا في حماية الغرب، ما دمتم تتبنّون وتدافعون عن مبادئ الحرية والمساواة والأخوة، شعار الحقوقيين في العالم.
كما أرادت فرنسا من خلال تكريم الزعيم بورقيبة أن تقول للثورة التونسية أنّ بورقيبة شخصية لها بعد كوني وأنّ قيمته تتخطى حدود البلاد التونسية، وعلى الثورة أن لا تنسى فضل بورقيبة عليها. كيف ذلك؟ ببساطة لأنّ الفرنسيين يرون في البورقيبية منهجا مبتكرا في العلوم السياسية الحديثة. فهو رجل الحوار العقلاني وصاحب نظرية المرحلية أو الخطوة خطوة التي أخرجتهم من تونس وأجلتهم عن مدينة بنزرت رغم تمسّكهم بها، إضافة إلى أنّ لبورقيبة (في نظرهم) فضل كبير في نشر التعليم في ربوع بلاده، فلولا مقاومته للجهل والمرض لكان حال التونسيين مغايرا لمَ هو عليه اليوم.
لمن لا يعرف الشخصية الفرنسية المحافظة مدى تمسّكها بالتّراث الإنساني والمحافظة عليه إلى جانب تقدير فرنسا لعظماء البشر وهي لا تتوانى في تخليد أعمالهم. أنصح الجاهلين بهذه الحقيقة بزيارة متحف الإنسان ومتحف العلوم ومتحف غريفان والبنتيون Le panthéon بالعاصمة الفرنسية. ففي هذا المعلم التاريخي يرقد مشاهير هذه الأمة منذ الثورة الفرنسية 1789م، فمن بينهم ثوار وأدباء وفلاسفة وكتّاب مثل بودلار وفيكتور هوغو وجان جاك روسو وألكسندر دوما وأندري مالرو وعلماء في الرياضيات مثل لاغرانج والكيمياء مثل برتولو والفيزياء مثل لونجوفان وبيار وماري كوري إلى جانب لويس براي واضع حروف كتابة فاقدي البصر، بالإضافة إلى سياسيين مثل كارنو وجان جوراس وعسكريين مثل الجنرال لابوازيار والأميرال مورار ديغال وغيرهم كثيرون...
في نفس الوقت الذي يحافظ فيه المتقدّمون على رموزهم ليكونوا قدوة للأجيال والناشئة في العالم بأسره، يعمل المنغلقون والمتخلفون على هدم مثلهم العليا وتحطيم مكانتهم في النّفوس ومسح تاريخهم من الأذهان. مفارقة غريبة يكون فيها المحافظون غير محافظين والتّقدميون محافظون. وإني لعلى يقين أنّ أمتنا ما كانت لتحافظ على كتابها المقدّس، القرآن الكريم لو لم يتعهدّه الله بالحفظ من التّحريف على يد أحبار اليهود الذين احترفوا تحريف الكتب السماوية، ومن الاندثار على يد العرب أنفسهم وهم أهل ثقافة شفهية، فقال تعالى مطمئنا هؤلاء وميئسا أولائك " إنّا نحن نزّلنا الذّكر وإنّا له لحافظون"(الحجر الآية 9).
رغم اجتهاد عمدة باريس واختياره ذكرى استقال تونس، كي يوجّه رسالة للقيادة والشعب التونسي، أصالة عن نفسه ونيابة عن بلده حكومة وشعبا وهو يرفع الستارة على التّمثال النّصفي لبورقيبة، بغرسه في قلب العاصمة وفرضه على الضّمير الجماعي الفرنسي؛ فقد غفل السيد دولانوي أو تغافل أو جهل أو تجاهل، ركنا أساسيا في تركيبة الإنسان العربي تلخصه بعض الأمثال المتناقلة عبر الأجيال ولا تزال مؤثرة في لاوعينا ومحدّدة لسلوكياتنا مثل " كما تدين تدان" وأنّ " الجزاء من نفس جنس العمل".
كانت الرسالة الفرنسية موفقة من النّاحية البيداغوجية، فقد راع فيها من أرسلها كل قواعد الدبلوماسية الحديثة، معتمدا على ذكاء التونسيين في فهم معانيها والوقوف على خطورة فحواها. لم يخيّب التونسيون حسن الظّن بهم، وها نحن نترجم مغزى الرسالة ونحوّل رموزها المشّفرة إلى كلمات وجمل مفيدة، شديدة الوضوح غير قابلة للتأويل. فرنسا تحيي ذكرى استقلال تونس وتتبنّى بورقيبة بفكره وتاريخه السياسيين، في الوقت الذي هدمنا فيه نحن التونسيون، كل تماثيل بورقيبة وأزلناها من الساحات العامة منذ سنة 1988 نزولا عند رغبة النّظام الساقط، فلم نبقي إلا على تمثال بمدينة المنستير مسقط رأس بورقيبة.
لعل في عروقنا يجري جين الهدم، هدم التاريخ وتقزيم العمالقة والسخرية من الأمجاد وتحقير رموز الأمة. سياق منحرف، جاحد، أسسه الرئيس بورقيبة نفسه، بالتفافه الفاضح على تاريخ الحركة الوطنية أولا وإلغائه عهد البايات ثانيا، فنصّب نفسه صانعا لتاريخ تونس المعاصر، حتى قال " أنا جوغرطة الذي انتصر" في إشارة واضحة إلى فشل القائد النوميدي (جوغرطة 160ق م/104ق م) في الانتصار على الرومان وتوحيد البلاد. نهج سياسي خاطئ يبخس الناس أعمالهم، فاكتوى بورقيبة بناره في حياته وأمام عينيه، وتجرّع مرارته الرئيس السابق وهو على قيد الحياة أيضا، مع علاوة الهروب من البلاد حتى صار مطاردا قضائيا، يلاحقه الخزي والعار في الدنيا... وهو المصير الذي ينتظر ويتربّص بالذين ينوون تحريف الثورة والسطو عليها، فالتاريخ سيف بتّار يمهل ولا يهمل
تكرّم فرنسا بورقيبة وتحيي ذكراه وتحتفي بعيد استقلال تونس، لعل في الأمر نكالة بخصومه التّقليدين وهم اليوم في قمة هرم السلطة، ولدى فرنسا علم يقيني بوجود شريحة من التونسيين رافضة للدساترة والبورقيبيين. فإن كانت لدينا شكوك غير مدعومة بأدلة على دور الغرب عموما وفرنسا خصوصا في اشعال الخلاف السياسي بين الأشقاء المتصارعين على الحكم، فقد أهدتنا فرنسا دليلا قاطعا على تدّخلها في الشأن التونسي العام ومناصرتها لفريق دون آخر. إنّ في التاريخ لعبرة، فعجبا لمن لا يعتبر من التونسيين الذين يمقتون بورقيبة وفي الوقت ذاته يتبعون خطاه.
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: