د - صالح المازقي - تونس
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 8677
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
قد يبدو مصطلح "الشومقراطية" غريبا عن ذهن القارئ، نعم هو كذلك، لأن الكلمة أو المصطلح أو المفهوم، مستحدث أوصلني إليه البحث العلمي الجاد في الأوضاع المتردّية التي تعيشها بلدان الربيع العربي، ممثلة في تخبط حكومات الأحزاب الإسلاموية التي وصلت إلى سدّة الحكم عن طريق الغّش بتوظيف ما لا تؤمن به (الديمقراطية) لتحقيق ما تؤمن به (الشورى) بعد سقوط دكتاتوريات امتد بها العمر حتى بلغت أرذله.
لو تأملنا في التاريخ المعاصر للشعوب العربية لخرجنا بنتيجة رئيسية مفادها أن هذه الشعوب من المحيط إلى الخليج، عاشت ولا تزال حالة من الجهل السياسي والتصّحر الإيديولوجي حتى على مستوى النّخب التي عجزت عن فهم خلفياتها الفكرية فهما صحيحا، يمكّنها من شرح انتماءاتها السياسية وتوضيح مواقفها الفكرية. هذا برأيي ما توصل إلى فهمه واستغلاله دعاة الفكر الإسلاموي السياسي في عالمنا العربي المنكوب في ذكائه. لم تجد قيادات الإسلام السياسي عناء في توظيف الإسلام المغشوش بين بسطاء الأمة، فخاطبوهم بما يحبون، وهم المتعطشون لممارسة شعائرهم الدينية دون مراقبة السلطة العلمانية التي حكمت وتحكّمت في وجدانهم إلى حدّ التّشويه، فحوّلت الدين إلى فلكلور احتفالي ومناسباتي. في نفس الوقت استغلت تلك القيادات الإسلاموية تلهف النّخب إلى الديمقراطية، فجمعت بين تعطش هؤلاء ولهفة أولائك في ما أسميه (شموقراطية) أي الجمع بين مفهوم الشورى في الإسلام ومفهوم الديمقراطية المستورد من الغرب، لتخرج من صناديق الاقتراع وتهيمن على الساحة السياسية مستندة إلى الغباء الجماعي من ناحية ومتحصنّة بأسطورة الشرعية الديمقراطية من ناحية أخرى.
هذا ما يلاحظه المحلل الحصيف من ممارسات الأحزاب الدينية ، فبمجرد أن وصلت هذه الأحزاب إلى الحكم ممتطية ظهر آلية الكفّار والزنادقة والسفهاء (الديمقراطية) حتى ضربت بها عرض الحائط مع أول قراراتها العملية الصادرة عن مجموعة ضيّقة العدد والأفق في غرف مغلقة، تصف نفسها بأهل الحلّ والعقد الذين هم أعضاء مجالس الشورى، المتحكّمين في مصير الأمة، سواء كانوا من جماعة الإخوان المسلمين في مصر أو من حركة النّهضة في تونس وكلاهما يخلط بشكل خطير بين المفهومين.
من هنا كان تعطيل وتوقف مسار الثورة على أرض الواقع، بعد أن تفطن اليمين واليسار العربيين للخدعة المنهجية والرّمس السياسي الذي أوقعهم فيه حلفاء الأمس، إلى جانب اكتشاف الشعوب لضعف أداء الأحزاب الإسلامية في إدارة الشأن العام وعجزها عن فهم رغباتهم في الحرية والكرامة وفشلها في تلبية طموحات الجماهير الثائرة من أجل العدالة والمساواة في كنف دولة مدنية محايدة. كيف سيفكّ الموقف المعّطل في مجتمعات توقفت عن التّقدم أصلا ؟ مرّة أخرى يعجز اليمين واليسار العربيين عن إيجاد حلول عملية وتقديم بدائل سياسية تخرج تونس ومصر من أزمة لن تحلّ حتى يلج الجمل في سمّ الخياط.
لقد زاد لجوء المعارضة (غير الممنهجة) في بيئة اجتماعية تجاوزت الإحباط واليأس ودخلت في برانويا، لاحت بوادرها في العنف والعنف المضاد الذي بلغ في تونس كما في مصر حدّ الاغتيالات السياسية وانتحار بعض الشباب حرقا وسط العاصمة التونسية. تلك هي إذا إرهاصات حرب أهلية قادمة، تدفع إليها الحكومات الإسلامية في كلا البلدين بتستّرها خلف رابطات و/أو لجان حماية الثورة التي اكتسبت في ظل غياب دولة القانون من ناحية وتهلهل شرعية الحاكم التي أفرزتها صناديق الانتخاب بنسب ضئيلة تحجب الوفاق السياسي وتضعف الإجماع حول الحاكم.
لا تكاد تشرق الشمس في سماء تونس ومصر إلا وترسل بأشعة يميل ضوءها إلى اللون الرمادي ليؤكد الانحراف المبيّت للحكّام الجدد وينبئ يثبّت انفصالهم عن واقع الشعبين ويبشر بفاشية لن يتأخر قدومها كثيرا. ليس في كلامنا مبالغة وليس فيه تشاؤم كما قد يراه البعض، ما دام البحث عن حلّ يقرّب بين الأطراف المتنافرة، ينطلق من تحليل الواقع على علّته. يحاول الباحث النّزيه استقراء أوضاع تمضي بخطى ثابتة نحو اخراج هذين الشعبين من صيرورة التاريخ؛ وتحث السير باتجاه عصر الظلمات الذي سينقل الأمة من خير أمة أخرجت للناس إلى أرذل أمة بين الناس.
يتبين صدق التحليل الموضوعي من خلال تناول بعض الظواهر الاجتماعية الجديدة بالدّرس والتّمحيص، للكشف عن الميكانزمات السوسيو- سياسية التي لا ترى بالعين المجرّدة و لا يلمس الرجل العادي خطورتها عليه وعلى أبنائه وأحفاده في مستقبل قريب. ظواهر اجتماعية يستغرب المجتمع بروزها ويعتبرها المتخصص من العلامات اليقينية على دون كوارث اجتماعية ستأتي على الأخضر واليابس في بلدان قلّ فيها الأخضر وكثر فيها اليابس.
أهم تلك الظواهر الدالة على ما تقدم ذكره تأثر العديد الشباب من الإناث خاصة في كل من تونس ومصر بفتاوى دينية تعمل على تقليص تواجدهن ومشاركتهن في الحياة العامة، وحصر مكانتهن خلف الأسوار وتنفي عنهن دورهن في بناء المجتمع وتجعل منهن ماكينات للإنجاب وأوعية لإفراغ شحنات جنسية بهيمية ذكورية. ويقف علماء الاجتماع في حيرة من أمرهم أمام ظاهرة اجتماعية أقلّ ما يقال فيها أنها غريبة في مجتمعات أمضت عقودا طويلة تعمل على نشر المساواة بين الجنسين في التعليم والصحة والشغل والحرية... لا يوجد عاقل في هذا الكون ينفي عن المرأة حقها في الوجود السوّي والمتّزن، فهي الأم والأخت والإبنة والزوجة والرفيقة والعالمة والموظفة ونصف المجتمع... الخ الذي لا يستقيم الوجود إلا بوجودها.
لم تعي المرأة العربية بعد أنّ مكانتها ودورها الاجتماعيين لا ينحصران في الجانب البيولوجي فقط، وأنّ العلوم الاجتماعية قد تخطّت هذا الجانب (البسيط/السّاذج) إلى مجالات بحثية جديدة، لعل أهمها نظرية الجندر "The gender" أو ما يسميه البعض (بالجنسوية) التي ظهرت على أنقاض نظرية النسوية "Womenism " أو "Féminisme" القائم على الفصل بين الجنسين معتبرة الرجل هو (XY) والمرأة (XY) وهذا تصنيف بيولوجي نظري وافتراضي للتمييز بين الجنسين على دفاتر العلماء وهي لا تتعدى ذاكرة حواسبهم.
لقد ثبتت المحدودية العلمية لهذه النظرية، كما تأكدت نزعتها 'العنصرية" في شرعنت اضطهاد المرأة منذ فجر التاريخ إلى اليوم، خاصة وأنّ بعض ضيّقي الأفق المعرفي من شرّاح القرآن الكريم ومتصدّري الفتاوى الظلامية/الضلالية، يعتمدونها في تفسير قوله تعالى: " الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ... "(1). يكرس بعض متشدّدي شباب السلفية الجديدة نظرتهم الدونية للمرأة بحصر دورها الاجتماعي في الإنجاب والتنشئة الاجتماعية الأولي؛ حتى ذهب بعضهم إلى تحريم انفاق المرأة على بيتها وعلى أسرتها ولو دينارا واحدا، خوفا من كسر مبدأ القوامة؛ متجاهلين سوء الظروف الاجتماعية وتدهور الحالة الاقتصادية للأسر العربية التي تعيش غالبيتها تحت خط الفقر.
من الغريب أن الفتاة العربية، الجامعية، لم تستشعر إلى الآن الخطر الدّاهم عليها باسم الدين، سواء كانت محجّبة أو منقّبة أو سافرة. فإن هي انتمت إلى الصنفين الأولين فستكون (لا محالة) عرضة للاستغلال الجنسي من قبل (إخوانها الذّكور) الذين يجاهدون الكفرة والفجرة من بني جنسهم داخل الوطن الواحد. في مثل هذه الحالة يكون دور الأخت في (الجهاد الحديث)، تقديم المتعة لأخيها الجهادي، المطارد من طرف الطواغيط؛ فلن يسعفه الظرف المكاني والزماني من الزواج الحلال وتكوين أسرة. إنه في عجلة من أمره وفي أمس الحاجة للتنفيس عن كبته، فيتم إعداد الأخوات نفسانية ل زيجات سريعة (Fast mariage) المجرمة قانونا والممنوعة عرفا وعليها خلاف شرعي، نذكر منها زواج المتعة والمسيار والعرفي وغيرها كثير... فيسقطن في الرذيلة ويأتين بكبيرة (الزّنا الحلال).
أما السافرات فهن في حكم السبايا في ظل الجهادية الحديثة، لتوازي حكم السبي مع أحكام المرتدّين والمارقين والسّفهاء والكفّار، فيقتل أبناؤهم وتستحي نساؤهم وتسبى بناتهم. ونظرا لتمسك السافرات بحرياتهن وقوّة شخصياتهن المستنيرة علما وإيمانا، فإنّ شرفهن سيستباح وعرضهن سيهدر، كسرا لشهامتهن وتركيعا لشموخهن وهدما لاستقلاليتهن ... الخ. ففي كلا الحالتين ستدفع الفتاة والمرأة العربية غاليا جدّا فاتورة المتطاولين على شرع الله الذين نصّبوا أنفسهم للفتوى العامة والخاصة، محدثين فوضى فكرية عارمة وفتنة اجتماعية ساحقة.
على الجانب الآخر من مجتمعات الربيع العربي، يقف شباب من الذّكور الذين ركنوا إلى السّمع والطاعة، وقد كفروا بنعمة الله عليهم، فتخلّوا عن عقولهم لصالح عقول كفتهم عناء التّفكير، لتقدّم لهم أفكارا لا يعلمون درجة تقيّدها بتعاليم الدين الحنيف ولا مدى استجابتها للمنطق السليم ولا تماشيها مع الذوق الرفيع. شباب يدّعي الاقتداء بالسّلف الصالح، أمر محبذّ وسلوك حميد، شريطة أن يكون الاقتداء عقلاني، ولكن... تغيب العقلانية عن تيارات تنفي العقل وتناصب أهله العداء. على مدّعي السلفية أن ينتبهوا إلى أنهم بعيدين شكلا ومضمونا عن سلوك مثلهم العليا (رضوان اله عليه أجمعين).
أما من حيث الشكل فقد خالف الخلف السلف في نظافة الملبس وعفّة اللسان وحسن البيان. سلف أخيار ورجال أبرار تعبق ريحهم طيبا وعطرا، تكاد كتب التاريخ تفوح بشذى طيبهم وطيبتهم. ولم يذكر المؤرخون أنهم احتذوا أحذية رياضية، عفنة، آسنة، تزكم أنفاس المصلين في المساجد إلى حدّ بالغثيان...
ومن حيث المضمون فقد انغمس السوبر- مسلمون في معصية الجهل رافضين التّنور بنور الله الذي عمّ السموات والأرض، فاقتدى به الصالحون الأولون فكانوا منارات علم أضاءوا دجى ليل البشرية البهيم، حتى نسب لرسول الله صلى الله عليه وسلم قوله: "أصحابي كالنجـــوم بأيهم اقتديتم اهتديتم"(2)، فهل اقتديتم بعلمهم وطهرهم وعفّتهم وصدقهم وإنسانيتهم.
لا يتطلب الوقوف على جهل هؤلاء بالتاريخ والشريعة جهدا كبير لدحض آرائهم المتكلسة وفضح نزعاتهم الاستبدادية وكشف فتاواهم التبريرية/التواكلية، الكاشفة لعمى بصائرهم.. يبدو أنّ التّطورات الكونية الشاملة لا تعنيهم في شيء؛ وأنّ المخاطر الرّاهنة التي تتهدّد الأمة غائبة عن فكرهم المحدود، فظلوا في ضلالتهم وقصورهم يعمهون. ذلك لأنّ العلوم تتطور وتنسخ النظريات بعضها بعضا وهم في سبات الدّببة، لم ينتبهوا إلى تجاوز الفكر الإنساني النّظرة الطبيعية للمرأة وأسقط النّظرية البيولوجية في التفسير السوسيو- ثقافي لمكانتها ودور في الشريعة والمجتمع الحديث، في الوقت الذي لا يزال البعض من شبابنا يجتر جوانب من ثقافة ذكورية طوتها الأيام وتناستها الأمم.
تفوّقت نظرية الجندر على كل النظريات التي سبقتها بموضوعيتها وبراغماتيتها لتحقيق التّوازن الاجتماعي والسياسي داخل المجتمعات البشرية، باعتمادها وإقرارها لمبدأ تبادل المكنات والأدوار الاجتماعية بين الذّكور والإناث ضمن سياق تاريخي بني على المساواة والحرية والكرامة الإنسانية، كي يزيل العوائق الاجتماعية ويذلّل الفوارق الثقافية دون اخلال بالثوابت الطبيعية والعقدية.
نكتفي بهذا القدر من شرح مفهوم الشومقراطية الذي تشرنق من مجال التّنظير وخرج إلى ميدان التّطبيق، من خلال مقاييس إجرائية، يدركه علماء الاجتماع في تمظهراتها العملية، المتجلية في تخلّي المرأة العربية عن مكاسبها من ناحية وتمسك بعض شباب المسلمين برموز هم أنبل وأشرف وأطهر وأنقى وأرقى من وطأت أقدامهم الأرض بعد نبيّنا محمد عليه الصلاة والسلام.
لقد رفض السّلف الصالح الرداءة في كل أشكالها ونبذوا التّردي العام بفضل حسّهم المرهف وشغفهم للمعرفة الدنيوية وحبهم للاجتهاد في الدين. فلو أنّهم يعيشون بيننا الآن لكانوا أحرص الناس على نهل العلم الصحيح والارتواء من عيون المعرفة المتطورة، ولأبدعوا وابتكروا وجدّدوا أساليب العيش الكريم ليرتقوا بالإنسانية جمعاء. هذا ما فعلوه حقا وصدقا، فسادوا الكون وكانوا خير من استخلف الله من عباده في أرضه.
تلك بعض الأمثلة التي أفرزتها شومقراطية الإسلامويين هنا وهناك، فكان ضرّها أكثر من نفعها والأمثلة عن وضاعة المنهج الإخوان والنّهضاوي في الدّين والسياسة والاجتماع والاقتصاد والثقافة ليمضي بالأمة إلى الخلف ويلقي بها في الدّرك الأسفل من التّخلف الحضاري والآتي لا قدّر الله أسوء. فاعتبروا يا أولي الألباب.
-------
1) النساء الآية 34
2) حديث ضعيف، السند قوي المعنى. الإمام أحمد.
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: