د - صالح المازقي - تونس
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 8979
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
تجري الرياح بما لا تشتهي الثورة، هكذا بدا لي المشهد العام في تونس. منذ أن تولت حكومة الترويكا إدارة البلاد لفترة مؤقتة والأحداث تتسارع كما خطط لها حزب حركة النّهضة الحاكم بأمره وهو يسابق الزمن. ودون الرجوع المفصل لم جرى ويجري في البلاد خاصة على مستوى السياسي الذي طغى على الحياة العامة وشغل الرأي العام الذي انقسم إلى فسطاطين، متصارعين من أجل السيطرة على دواليب الدولة المركزية؛ والكل في غفلة متعمدة على تدني الوضع الاقتصادي والاجتماعي والثقافي الذي شارف حدود المأساة والذي لن يتأخر كثيرا في يدفع المجتمع إلى ثورة الجياع بعد أن تفاقم معدل التّضخم وتراجعت القدرة الشرائية للمواطنين العاديين حتى أصبحت حياتهم عبأ عليهم.
لقد أصابنا الغثيان من الحسابات الحزبية السخيفة لكتل حزبية تعلم علم اليقين أنّها لا تساوي جناح بعوضة عندنا نحن البسطاء الذين قمنا بثورة من أجل تحسين أوضاعنا المعيشية وضحينا في سبيل أن ينعم التونسي بالكرامة والحرية. لكننا أهملنا ثورتنا وأشحنا بوجوهنا عن الكرامة. وكعادة الشعوب المتواكلة على غيرها (الدولة في الدّاخل والقوى العظمى في الخارج) لم يتابع شباب الرّبيع العربي في تونس ومصر وليبيا واليمن صيرورة التاريخ الذي صنعوه بأياديهم فراحوا يكيلون التّهم لغيرهم ممن ركبوا على الحدث وأصبحوا صنّاع الأحداث بالالتفاف على ثورة هي منهم براء. في الوقت الذي فرّط فيه الثوار هنا وهناك في شرعيتهم الثورية وهي بوابة حكمهم، تحوّلوا جميعا إلى منتحبين، مولولين، نادمين، يلوم بعضهم بعضا، فأقول لهم لا تلوم من كانوا أذكى منكم بل لوموا أنفسهم على غبائكم الذي أوقعكم في الغفلة ثم في الحيرة فأصبحتم بفضله متوسّلين متسوّلين.
لم تكن مجريات الأحداث عفوية بل كان مخططا لها بكل دقّة وعناية داخل معاهد الدراسات الإستراتيجية في أمريكا بالتّعاون مع وكالة الاستخبارات المركزية في تنسيق وتناغم مع حلفائهم الجدد من قيادات الأحزاب الإسلامية التي سمحت لها الثورات العربية بالخروج من السجون وأعادتها إلى بلدانها من وراء البحار بمنحهم العفو التّشريعي العام بموافقة صهيو- أورو – أمريكية، حقيقة تاريخية تؤكدها الزيارات المكوكية إلى الولايات المتحدة الأمريكية التي قال عنها أحد الصحفيين التونسيين "أصبحت واشنطن أقرب إلى رسلهم من بيوتهم" والاجتماعات السرّية، الماراتونية التي جمعت ممثلي التيارات الإسلامية في كل من تونس ومصر وليبيا بالمسؤولين الأمريكان لتقديم التّنازلات والضمانات والتطمينات لأعداء الأمس/حليف اليوم. هكذا تمّ نسج آخر خيوط المؤامرة على الثورات الشعبية في أهم أجزاء العالم العربي، في غياب قيادات وطنية وزعامات قومية قادرة على تنظيم وتوجيه وسدّ ثغرات العمل الثوري...
نظرية المؤامرة
من لا يؤمن بنظرية المؤامرة على أمة غرقت شعبوها في بحر السياسة وشربت من مائه الآسن حتى الثمالة، ولدت لدى حكّامها شعورا زائفا بالانتشاء، وخلقت لدى الشعوب حساسية مفرطة من كل صغيرة وكبيرة تتعلق بصراعات سياسوية ضيّقة الأفق، عديمة الخيال، خالية من الأحلام، نحيله على الآية 120 من سورة البقرة " وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ" التي تؤكد حقا وصدقا وجود مؤامرة، قديمة، أزلية على المسلمين أنّى كانوا. وفي فورة تقلبات ظرفية خلنا أن تكون أولى نتائجها، التّصدي للتآمر، غير أنّ ما حدث غذّاها وبلدّ مشاعرنا وأعمى بصائرنا وشتّت رؤانا وأذهب ريحنا.
تحليل تركيبة المؤامرة
تشتمل المؤامرة على عنصرين رئيسيين، عنصر خارجي ثابت وعنصر داخلي متغيّر. أما العنصر الأول فهو العدو التّقليدي الذي ما فتئ يتغاير، متخذا أشكالا استعمارية متطورة، هدف الأول والأخير إعاقة نهضة الأمة وتقدّمها. ما كان لهذا الهدف أن يتحقق إلا بوجود العنصر الدّاخلي، ممثلا في شرائح متعاقبة على الحكم، ظاهر برامجها رحمة وباطنها عذاب وتعذيب وظلم واستبداد.
والغريب في الأمر أنّنا نساهم ونحن في غيبوبة في تحقيق مؤامرة داخلية بمباركة خارجية هدفها إعادتنا إلى العصور البدائية، هذا ما قاله وصرح به "رامسفيلد" وزير الدفاع الأمريكي في عهد "جورج بوش الابن" رئيس الولايات المتحدة الأمريكية في حملته الصليبية على العراق. ولما كانت التّكلفة باهظة في الأرواح، خرج الأمريكان من المباشر، ليواصلوا تنفيذ مخططهم التّدميري مستعملين منهج الإدارة عن بعد، فساعدونا على خراب بيوتنا بأيدينا عملا بالمثل الشعبي التونسي (إلِّي تضرب يدو ما تجعوش).
دور العامل الخارجي
ليس للعملية التّخريبية حدودا ووسائلها لا متناهية ولعل أبرزها اخراج مارد الإسلام السياسي من قمقمه والسّماح له بالحكم لامتصاص غضب شعوب لاحت في أفقها ثورة عارمة على وضع دولي مجحف، يسعى للخروج من ركوده الاقتصادي الخانق ويعمل على الافلات من أزمته المالية القاتلة. ليس أمام هؤلاء المتأزمين من حلّ سوى التّشويش على ثورات ذاهبة لا محالة نحو كسر قيود تبعيتها المذّلة باسترجاع ثرواتها الطبيعية المنهوبة وإعادة إدماج طاقاتها البشرية المستنزفة والخروج من ضائقة التّخلف الشامل نحو التّقدم المستديم.
دور العامل الدّاخلــــي
تلتقي مصالح الفاعل المتآمر في الدّاخل مع مصالح الفاعل الخارجي في المثل العربي " لا يجوع الذّئب ولا يشتي الرّاعي". إمبريالية متعطّشة لنهب الثروات وحكّام متعطّشون للبطش بشعوبها من أجل البقاء في السلطة والحفاظ على الملك الذي قال فيه ابن خلدون "... الملك منصب شريف ملذوذ يشتمل على جميع الخيرات الدنيوية والشهوات البدنية والملاذ النّفسية، فيقع فيه التّنافس غالبا وقلّ أن يسلّمه صاحبه إلا إذا غلب عليه، فتقع المنازعة وتفضي غلى الحرب والقتال والمغالبة وشيء منها لا يقع لا بالعصبية..."(1 ). ولما كان جلّ الحكّام العرب القدامى منهم والجد،د مفتقدين لعصبية ترفعهم إلى سدّة الحكم، استعانوا واستقووا على خصومهم بالخارج، في تحالفات اتخذت أشكالا متنوعة منها المالي (قروض) والمعنوي (خبرات)، لدعم شرعية هشّة ومتداعية بطبيعتها المترهلّة.
من عجائب هذا الزمان أن يسترضي حكّامنا (الثوريين) الأعداء، طلبا لشرعية و/أو لعصبية واهية لدعم سلطان جاءهم بالصدفة وفي غفلة من أصحابه الشرعيين، ليثبتوا هيمنتهم على دول منهارة وشعوب محتارة. هذا الجزء الظاهر من جبل الجليد، أما ما خفى منه وهو الأخطر والأعظم، تعاون من يدّعون خوف الله مع مخططات الإمبريالية العالمية في التآمر على الذين منحوهم ثقتهم الانتخابية ورفعوا من شأنهم وحكّموهم في مصائرهم عسى أن يحققوا لهم أحلامهم ويجسّدوا لهم طموحاتهم.
يبرهن الصراع على الكراسي والتّعنت في العمل ضدّ رغبة الشعوب الغاضبة، المتمسّكة بثوراتها رغم ما تلاقيه من عنف وقمع أزهق الأرواح وأسال الدماء في صراعها مع السلطة الجديدة ومعاناتها في سبل تصحيح أخطاء ارتكبتها باسم ديمقراطية استباحت دماء شباب، تحوّلوا (بقدرة قادر) إلى أعداء الثورة ومنحرفين و"بلطاجية"في أعين المرجفين، المرتجفين، الخائفين على مكاسب أطلت عليهم برؤوس كأنّها طلع الشياطين، فنسوا الله فأنساهم الله مكارم الأخلاق وغرّته الدنيا فابتلاهم بحبها حتى الوهن. فسحلوا وعذبوا ورموا بالخرطوش والرصاص الحي، ليفتضح غرورهم وينكشف كذبهم وتتعرى تحالفاتهم غير المعلنة وتفصح عن اتفاقيات أبرموها في السّر والكتمان تتلخص في قول التوانسة (اضرب وراسي يسد)(*) ما لم تنقضوا عهودكم وتخلفوا وعودكم، كما فعلتم مع شعوبكم.
قدر الأمــــــة
قدر هذه الأمة أن تلاحقها المؤامرات ما لم يرض عنها اليهود والنصارى ومن والاهم من ذوي الجاه والسلطان الأكبر من أبنائها المتسلطين قديما وحديثا. قد يقبل المرء بتواطؤ أصحاب الإيديولوجيات الغربية من يمين ويسار، لكن ما لا يقبل به العقل السليم أن يتعاون الإسلاميون، الوافدون إلى السلطة حديثا مع أعداء الأمة وأعدائهم. لقد تجلّى خواء الحكّام الجدد في إدارة الشأن العام وافتضحت إدّعاءاتهم الإصلاحية القائمة على مخافة الله وإتباع سنّة رسوله الكريم. لقد تسلّم هؤلاء معاول هدم مكاسب قليلة لأمة انهكها الفقر والجهل والظلم والاسترقاق وغابة عنهم الحكمة وغلبت عليهم الأنانية وروح التّشفي والانتقام.
إنّي لأعجب من قوم يقفون بين يدّي ربهم خمس مرّات في اليوم ويحسبونه غافلا عن أعمالهم ونسوا قوله تعالى: "ولا تحسبن الله غافلا عمّا يعمل الظالمون إنّما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار مهطعين مقنعي رؤوسهم لا يرتد إليهم طرفهم وأفئدتهم هواء"(سورة إبراهيم الآيات 42/43). أفلا يتقون يوما لا ينفع فيها مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.
--------------------
1) ابن خلدون، المقدمة، الباب الثالث من الكتاب الأول، الفصل الأول: في أن الملك والدولة العامة إنّما يحصلان بالقبيل والعصبية. ص: 271 . المقدمة، المجلد 1، الطلعة الثانية عن مكتبة المدرسة ودار الكتاب اللبناني. بيروت 1961.
* ) مثل تونسي بمعنى افعل ما تشاء فأنت في حمايتي، وهو تعهد يلتزم به القوي لدعم المستقوي في مواصلة اعتدائه على الضعيف.
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة:
25-03-2013 / 10:50:38 ماس