فتحـي قاره بيبـان - تونس
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 6788
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
تُـعرف الشعوب برجالها وقادتها المخلصين الأكفاء الذين خدموا الأوطان وغيـروا الواقع نحو الأفضل. وقديما قال الفضيل بن عياض: «لو أن لي دعوة مستجابة ما جعلتها إلا في إمام، فصلاح الإمام صلاح البلاد والعباد». ولا شك أن صلاح البلاد والعباد يكون أسرع في التحقق وأقل تكلفة في الإنجاز عندما يكون القادة بأنفسهم عاملين من أجله مسارعين إليه قبل أن تستحـثهم عليه شعوبهم أو تنتفض عليهم.
إنّ اختيار القادة عبر آليتي الأحزاب والانتخابات المعتمد في النظام الديمقراطي ثبت قصوره وعدم كفايته في ضمان وصول القادة المناسبين للحكم. وقد أثبتت تجارب الشعوب أن الانتخابات التي تقوم على أساس الانتماء الحزبي يمكن أن تأتي بالمستبدين وعديمي الكفاءة إلى سدّة الحكم. وما ظهور نظام الحكم الرشيد في الغرب في السنوات الأخيرة سوى من أجل تدارك النقائص الموجودة في آليات النظام الديمقراطي. يقول ألكسيس كاريل في كتابه "الإنسان ذلك المجهول": «إن الديمقراطية تتهاوى الآن تحت ضربات تجارب الشعوب، ومن ثمّ فإنه ليس من الضروري التمسك بزيفها».
تكويــن الكفــاءات
إن الكفاءات التي تعتمد عليها الدولة في تسيير شؤون البلاد ومواطنيها في مختلف مراكز السلطات الثلاث التشريعية والتنفيذية والقضائية يجب أن تكون أولا وقبل كل شيء مؤهلة لتلك المراكز مهما كانت طريقة تعيينها؛ فسواء تعلق الأمر بأعضاء مجلس الشعب أو رئيس الدولة أو الوزراء أو الولاة أو القضاة فإن أهليتهم وكفاءتهم لشغل تلك المناصب يجب أن تكون الشرط الأول والأساسي الذي لا يمكن تجاوزه.
وإذا كان أعوان السلطة القضائية في الدولة لا يعينون في مناصبهم إلا بعد إتمام دراستهم في الحقوق وفي المعهد الأعلى للقضاء وبعد نجاحهم في كل الامتحانات والتربصات التي يمرون بها، فلماذا لا يعمل بنفس الطريقة في تعيين أعوان السلطة التشريعية والسلطة التنفيذية خاصة من يشغل منهم المناصب العليا؟
إن الحصول على منصب لممارسة السلطة العمومية - أو ما يعرف في الفقه الإسلامي بالولاية العامة - بمختلف مستوياته وتخصصاته هو عمل ككل الأعمال التي يمارسها الإنسان. وهذا العمل يندرج ضمن التقسيم الاجتماعي للعمل والذي لا يتحقق إلا عبر تخصص كل فرد بعمل معين واحد. وهذا التخصص في العمل يؤدي بصاحبه بمرور الزمن إلى المهارة والإتقان والإبداع في عمله.
وإذا تطبّع الإنسان بالعمل الذي تعلمه وتخصّص فيه ومارسه لفترة من الزمن فإنه يندر أن يجيد بعده عملا آخر. يقول ابن خلدون في مقدمته: «قلّ أن تجد صاحب صناعة يحكمها ثمّ يحكم من بعدها أخرى ويكون فيهما معا على رتبة واحدة من الإجادة».
وفي الحديث الشريف الذي أخرجه البخاري عن أبي هريرة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا ضُـيعت الأمانة فانتظر الساعة، قال: كيف إضاعتها يا رسول الله، قال: إذا أسند الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة». إنّ هذا الحديث يقدم لنا منهجا علميا هاما في التصرف والتسيير، فهو يثبت بأن لكل عمل أهله لا يمكن أن يقوم به غيرهم، وذلك في كل شأن من شؤون الحياة وخاصة ما يتعلق منها بإدارة شؤون المجتمع. فإذا قام بالعمل من ليس له بأهل أي من لا تتوفر فيه المؤهلات والقدرات اللازمة فإن ذلك من أكبر المفاسد ومن علامات اقتراب الساعة.
ونجد في القرآن الكريم أن مهام الحكم التي أوكلها الله لرسله كانت مقترنة بتأهيلهم لها وتمكينهم من الأدوات الضرورية لأدائها بكل اقتدار. فيوسف عليه السلام لم يؤته الله الحكم إلا مقترنا بالقدرة الجسدية والمعرفة العلمية: «وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آَتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ» (يوسف 22)، وكذلك مع موسى عليه السلام: «وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آَتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ» (القصص 14).
إنّ الشعوب الواعية اليقظة تدرك قيمة حصولها على كفاءات وقادة مخلصين ومقتدرين فلا تترك ذلك للحظ والأوهام. والسبيل الوحيد لحصولها على هؤلاء القادة هو أن تعمل على إعدادهم وتكوينهم من بين أبنائها المتميزين. ويتحقق هذا عبر وضع سياسة واستراتيجية وطنية بعيدة المدى تتولاها وتشرف عليها مؤسسة عمومية تُحدث للغرض ويعمل فيها أفضل الخبراء خاصة في مجال التصرف في الموارد البشرية. وهذه المؤسسة تقوم بإنجاز الدراسات ووضع المخططات والمشاريع والبرامج التي تضمن توفر الكفاءات العليا التي تحسن إدارة شؤون الدولة، كما تضمن تحديد معايير الكفاءة لكل منصب ومؤشراتها التي تدل عليها ومعايير التفاضل بين الكفاءات.
انتخــاب الكفــاءات
إن منزلة ساسة الأمة وقادتها من مجموعها كمنزلة العقل من جسم الإنسان، فكما أن الرجل بعقله فكذلك الأمة بقادتها وساستها. وقديما قيل أن صلاح الأمة بصلاح حكامها وصلاح حكامها بصلاح علمائها. ويستوجب هذا أنّ شروط وآليات اختيار الكفاءات للحكم من بين المرشحين تختلف عن تلك التي يقع إتباعها في غيرها من عمليات الاختيار بين مرشحين لعمل آخر.
وهنالك شرطان يجب أن يتوفرا في الشخص الذي يعين في منصب الحكم:
الشرط الأول: أن يكون الشخص أهلا لذلك المنصب أي تتوفر فيه الكفاءة المطلوبة والتي تتكون من عنصرين اثنين عبّـر عنهما القرآن الكريم بالقوة والأمانة: «إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ » (القصص 26). فالقـوّة تتمثل في التكوين العلمي والقدرة الجسدية والعملية على الأداء، وتخضع معاييرها والمؤشرات الدالة عليها لاجتهاد المختصين لأنها تختلف باختلاف الأزمان والمناصب. والأمانة تتمثل في صلاح تديّن الشخص وأن يكون مأمونا في الرضا والغضب تاركا لما يشينه من الأقوال والأفعال. وعندما طلب يوسف عليه السلام من ملك مصر أن يجعله على خزائن الأرض لم تكن حجته في ذلك أنه نبي الله ورسوله بل كانت حجته توفّر عنصري الكفاءة فيه: «قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ» (يوسف 55).
ويجب أن يُقـدّم الأصلح والأكفأ على غيره في كل منصب من مناصب الحكم. يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من ولي من أمر المسلمين شيئاً، فولى رجلاً وهو يجد من هو أصلح للمسلمين منه فقد خان الله ورسوله والمؤمنين» (أخرجه الحاكم).
الشرط الثاني: أن ينال قبول الشعب ورضاه لأن الشعب هو صاحب السلطة، ولأن كل من يعيّـن في منصب من مناصب الحكم فهو أجير عند الشعب وخادم له. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ثلاثة لا يقبل الله لهم صلاة: إمام قوم وهم له كارهون، وامرأة باتت وزوجها عليها غضبان، وأخوان متصارمان» (أخرجه ابن حبان). وقد بيّـن العلماء أن كراهية الإمام كي تكون معتبرة يجب أن تكون لأسباب موضوعية كظلمه وسوء خلقه.
أما انتخاب من يتولون المناصب الحكومية من بين المرشحين لها فيتم بواسطة آليتين متواليتين:
الآلية الأولى: تتمثل في عملية التأكد من توفر معايير الكفاءة المضبوطة سلفا بالنسبة لكل منصب في المرشحين، فهي عملية اختيار أوّلي تتم بشفافية وتؤدي إلى إعداد قائمة في المرشحين المقبولين وترتيبهم تفاضليا. وهذه العملية كان يقوم بها ما يعرف بأهل العقد والحل أو أهل الاختيار ويمكن في عصرنا الحالي أن تقوم بها الهيئات الدستورية والمختصون المعنيون بهذا الأمر.
أما الآلية الثانية: فيتم من خلالها الاختيار النهائي من بين المرشحين الذين توفرت فيهم الكفاءة المطلوبة ويقوم بها صاحب السلطة أي الشعب. وهذه الآلية كانت تسمى البيعة ونسميها في شكلها الحديث بالانتخابات التي يختار من خلالها الشعب الكفاءات للحكم من بين مرشحين تتوفر فيهم الشروط الموضوعية لتولي الحكم.