د - المنجي الكعبي - تونس
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 7858
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
إليه وصية أبي زكريا بما وصّى به ابنه في الدولة الحفصية، لما يقدّمه بين يديه لنُجْح أعماله في تشكيل الحكومة التونسية. فما أشبه الأقوام بالأقوام والسياسي بالسياسي لمن أراد الاتباع إذا أعجزه الابداع أو وجد الابداع في الاتباع، فتوفّق اليه.
وهذه الوصية قدّم لها ابن خلدون بقوله: «كان الأمير أبو زكريا (- 647هـ/ 1249 م) قد عقَد لابنه أبي يحيى عهده، وكتب إليه بالوصية التي تداولها الناس من كلامه ونصها:
اعلمْ سَدّدك الله، وأرشدك وهداك لما يُرضيه، وأسعدك وجعلك محمود السيرة مأمون السريرة.
إنّ أوّل ما يجب على مَن اسْترعاه الله في خلْقه وجعله مسؤولاً عن رعيّته في جَلِّ أمْرهم ودَقِّه أن يُقدِّم رضَى الله عز وجل في كل أمر يحاوله، وأن يَكِل أمْرَه وحوْله وقوّته لله، ويكون عمله وسعيه وذبّه عن المسلمين وحرْبه وجهاده للمؤمنين بعد التوكل عليه والبراءة من الحول والقوة إليه.
ومتى فاجأك أمرٌ مقلقٌ أو ورَد عليك نبأ مرهِق فرَيِّضْ لبّك، وسكِّن جأشك، وارْعَ عواقب أمرٍ تأتيه وحاوِلْه قبل أن تَرِد عليه وتغْشِيَه، ولا تُقْدِم إقدام الجاهل ولا تُـحْجم إحجام الأخْرق المتكاسل.
واعلمْ أن الأمر إذا ضاق مجاله وقَصَّر عن مقاومته رجالُه فمُتاحُه الصبرُ والحَزامة والأخذُ مع عقلاء الجيش ورؤسائهم وذوي التجارب من نُبهائهم، ثم الإقدامّ عليه والتوكل على الله فيما لديه، والإحسان لكبير جيشك وصغيره، الكثير على قدْره والصغير على قدره، ولا تُلحِق الحقيرَ بالكبير فتُجَرِّي الحقيرَ على نفسك وتُغْلِطه في نفسه وتُفسِد نية الكبير وتُؤثره عليك فيكونَ إحسانُك إليه مفسدة في كلا الوجهين ويَضِيع إحسانك وتُشتِّت نفوسَ من معك،
واتّخذْ كبيرهم أباً وصغيرهم ابناً، واخفضْ لهم جناح الذلّ من الرحمة وشاورهم في الأمر، فإذا عزَمْت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين، واتّخذْ نفسَك صغيرة وذاتك حقيرة، وحقِّر أمورك ولا تستمع أقوال الغالطين المغلّطين بأنك أعظم الناس قدراً وأكثرهم بذلاً وأحسنهم سيرة وأجملهم صبراً فذاك غرور وبهتان وزور.
واعلمْ مَن تواضع لله رفَعه الله، وعليك بتفقد أحوال رعيتك والبحث عن عمّالهم، والسؤال عن سِيَر قضاتهم فيهم ولا تنم عن مصالحهم، ولا تسامحْ أحداً فيهم، ومهما دُعِيت لكشف مُلِمّة فاكشفْها عنهم، ولا تُراع فيهم كبيراً ولا صغيراً إذا عدَل عن الحق ولا تُراع في فاجر ولا متصرّف إلاًّ ولا ذمّة، ولا تقتصر على شخص واحد في رفع مسائل الرعية والمتظلّمين ولا تقف عند مراده في أحوالهم.
واتخذ لنفسك ثِقاة صادقين مصدَّقين لهم في جانب الله أوفر نصيب، وفي مسائل خلقه إليك أسرع مجيب، وليكن سؤالك لهم أفذاذ، فأنك متى اقتصرت على شخص واحد في نقله ونصحه حمَله الهوى على الميل، ودعته الحَمِيّة إلى تجنب الحق وترك قول الصدق، وإذا رفَع إليك أحدٌ مظلمة وأنت على طريق فادْعه إليك وسلْه حتى يوضح قصّتَه لك، وجاوبْه جواب مشفق مصغ إلى قوله مُصيخ إلى نازلته ونقْله، ففي إصاختك له وحُنوّك عليه أكبر تأنيس، وللسياسة والرئاسة في نفوس الخاصة والعامة والجمهور أعظم تأسيس.
وأعلم أن دماء المسلمين وأموالهم حرامٌ على كل مؤمن بالله واليوم الآخر إلاّ في حق أوجبه الكتاب والسنة وعضَدْته أقاويل الشرعية والحجة، أو في مُفْسد عائث في طرقات المسلمين وأموالهم، جارٍ على غَيّه في فساد صلاتهم وأحوالهم، فليس إلاّ السيف فإن أثره عَفاءٌ ووقْعه لداء الأدمغة الفاسدة دواءٌ، ولا تُقِل عثرةَ حسود على النِّعم عاجزٍ عن السعي فإن إقالته تَحمِله على القول، والقولُ يَحمله على الفعل، ووَبالُ عمله عائدٌ عليك فاحسمْ داءه قبل انتشاره وتداركْ أمره قبل إظهاره، واجعل الموت نُصب عينيك، ولا تَغترّ بالدنيا وإن كانت في يديك. لا تنقلب إلى ربك إلا بما قدّمتَه من عمل صالح ومَتْجرٍ في مرضاته رابح.
واعلمْ أن الإيثار أربح المكاسب وأنجح المطالب، والقناعة مال لا ينفد، وقد قال بعض المفسّرين في قوله عزّ من قائل: {وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ} إنّه النبأ الحسن في الدنيا على ما خُلّد فيها من الأعمال المشكورة والفَعَلات الصالحة المذكورة، فليكفك من دنياك ثوبٌ تلبسه وفرَس تذبّ به عن عباده.
وأرجو بك متى جعلت وصيتي هذه نصب عينيك لم تَعْدم من ربك فتحاً يُيسّره على يديك وتأييداً ملازماً لا يَبْرح عنك إلاّ إليك بمَنّ الله وحوْله وطوْله، والله يجعلك ممن سمع فوعى، ولبّى داعي الرشد إذ دعا إنه على كل شيء قدير وبالإجابة جدير ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم وحسبنا الله ونعم الوكيل».
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: