فتحي الزغل - تونس
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 6049
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
يُجمِع المتتبّعون للشّأن السّياسيّ في البلاد التّونسية أنّ الانتخابات الأخيرة - و الّتي يصفونها بالنّزيهة - قد أفرزت ثالوثا حاكما، بدأ يعاني أمَرّينِ من أوّل يوم لاستلام مهامّه، لعل أوّلها أنتج ثانيها. و أقصد تلك الحملة الشّرسة و الشّعواء المفتقر أغلب مظاهرها للمنطق، و التي بدأها طيفٌ من المعارضة الخاسرة في الانتخابات، و كذلكَ التّململ و قلّة الخبرة و التّردّد الذي طبع حكم هذا الثّالوث، و الذي جعلَه لقمة سائغة في مناسبات عديدة، في فكّ حادّ ينتظر الفرص كلّ لحظة... فلا يُفَوّتُها. في مشهد تواطئٍ صارخ مع الإعلام و قوى الثّورة المضادّة .
و مع أنّي مقتنع بأنّ الثّالوث الحاكم أو "التّرويكا" ما كان ليُقابَل بتلك الشّراسة و العداء من اتّحاد حركات سياسية هي متناقضة أصلا ضدّه و ضدّ عمله، لو لم يكن عماد تشكيله الإسلاميُّون الفائزون بأكبر نسبة من الأصوات في انتخابات المجلس الوطني التّأسيسيّ، فإنّي لا أنزّهُه من الأخـــــطاء التي أراها جسيمة تفتقرُ إلى التّفكير الاستراتيجي السّياسي الحزبي و الوطني.
فعدم سنّ قانونٍ لتحصين الثّورة من القوى البُورقيبيّة و النوفمبريّة و التّجمّعيّة في أوّل أيّام عمـــــــــــل المجلس التّأسيسي و الحكومة، و تأجيله الشّهر تلو الشّهر إلى أكثر من سنة من تولّي هذه المؤسّسات الشّرعيّة أمور البلاد، هو لعمري أكبر خطأ سياسيٍّ ثوريٍّ ارتكبه هؤلاء، سوف لن يكون تدارُكُه سهلا هذه الأيّام و ما بعدها، بالنّظر إلى اشتداد عُودِ تلك القوى في الحياة السّياسية و الإعلامية و الاجتماعية الرّاهنة، بالنّظر لما يتمتّعون به من تنظيم شخصيٍّ يقوم على معرفة كلِّ شخصٍ لدائرة الأشخاص الّتي كان يعمل معها قبل قيام الثورة سواءٌ في المجال الإداري الحسّاس أو في المجال الحزبي المنظّم، و مراكز القوة و مواطن الضعف فيها... وضعٌ أشبه بحزب منظّم دون أن يكون مُعلنًا قانُونا، تنتقل فيه المعلومة و التّعليمة انتقال النّارِ في الهشيم.
أمّا الخطأ الاستراتيجيّ السّياسيّ الثّاني في مقياس الأخطاء الكبيرة الجسيمة، و الذي أعتبره طُعمًا لم ينفكَّ المناوِؤون للترويكا يقدّمونه لها كلّ يومٍ وكلّ ساعة، فهو المناداة بفشلها في حكم البلاد، ومن ثمّة انتزاع اعترافٍ منها بهذه النّتيجة حتّي يصبغوا شرعيّة لهم أمام الشّعب، لفرض رؤيتهم و طريقتهم في تشكيل حكومة أخرى تحت أيّ مُسمَّى آخر يكونون هم فيها أو من يقترحُونه لها، فيضمَنوا هنالك موطئ قدم في الإدارة العليا، يعلمون هم - قبل غيرهم - أنها لن تؤول لهم لعقود.
و المناوؤون للترويكا عامّةً و للمشروع الإسلامي خاصّة، هم الذين سمّيتهم في مقالات سابقة بمربّع الفوضى. وهم أساسا من المدركين لفقدانهم السلطة و المزايا، في حال ما استتبّ الأمن في البلاد، و استتبّ الأمر لمن فــــــــــــاز في الانتخابات. و أقصد أعوان النّظام السّابق من تجمّعيّين و أزلام مصالح وصوليّة. و من المنتسبين للإعلام بكلّ أجهزته و مجالاته من حربائيّين كان شعارهم في ما قبل الثّورة "مات الملك عاش الملك". و من المنتسبين لنسبٍ متدنّيَةٍ في اقتراعات الشّعب الأخيرة، و الذين كان يقينهم بأنّهم الحكّام بعدها كبيرا عظيمًا، كان ظاهرا في تصريحاتهم ومنابرهم قبل إجرائها. و أخيرا من المنتسبين للتّيّار اليساريّ الرّاديكاليّ و للتّيّار الليّبيراليّ من الذين خَبِرَ الناسُ ممارستَهم الدّيمقراطيةَ عبر التّاريخ. سواءٌ في دولٍ بعيدة كالدّول الشّيوعية المقبورةِ، أو في الدّول العربية القريبة - تاريخا و جغرافيا - كمصر و العراق و سوريا و ليبــــــيا و غيرها من الدول التي حكمها لعقودٍ يساريّون فاشلون أو ليبيراليّون مُرتمون في أحضان الحداثة الغربيّة، فلم يُثمر حُكمُهم عندهم و عندنا سوى القتل و السجون و الظلم و الاغتيالات و الفقر و التخلّف عن ركب الأمم المتقدّمة.
و لم يدرك القائمون على أمر البلاد منذ الانتخابات إلى اليوم، أنّ أضلاع هذا المربّع كانت تنتظم يوما فيوم، رغم الاختلافات الجوهرية الإيديولوجية بين مكوّنيه. و إلاّ فما تفسير تحالف ما يُسمّون مناضلين مخضرمين أيّام المخلوع، مع حزب سياسيّ بعثه قائده العائد من التاريخ الوسيط ليجمع شتات المُخبِرين أيَّام المخلوع؟ و ما تفسير تحالف ما يُسمّى بالاشتراكيين الدّيمقراطيين و هم يساريّو الميول و التّوجّه، مع من عُرف بتطبيقه الرّأسمالية الشّرسة و الامبريالية التّابعة، في أيّام حكمه التي امتدّت على ستيّن سنة سابقة؟
فكان إذن ذاك الانتظام قائما على توزيع أدوارٍ نبّهتُ إليه منذ أيّامِه الأولى، إلاّ أنّ صَمَمَ الجماعة الحاكمة و المجلس التّأسيسي هو الذي منعهم أن يفقهوه. و هو في حدّ ذاته خطأ لا يقلّ أهمّيّة عن أخطائهم الأخرى، و تلك حكاية تالية سيأتي دورها. توزيعٌ يقوم على أن تُوجَّه أربعُ سِهامٍ أو قنابلَ أو شباكٍ في كلّ ساعةٍ نحو التّرويكا عموما و الإسلاميّين خصوصا، يقوم كلّ ضلع من أضلاع ذاك المربّع، بإطلاق سهم فقط من تلك السهام الأربعة.
فسهم التّجمّعيّين و الأزلام في تنظيمهم، و تتالي تصريحاتهم التي لا تفوّت الفرصــــــــة عن عمليات مقارنة بيــن الرّخاء و العزّ - كما يُسوّقون للبسطاء - الذي كان ينعم به الشّعب قبل الثورة - أي في عهدهم - في مجال المعيشة اليوميّة، و الحالة التي يعيشها التّونسيون اليوم من انخرام أمنيٍّ و غلاء معيشة.
أمّا سهم الخاسرين في الانتخابات فهو هجومٌ يوميٌّ بتصريـــــحات ناريّة و لو غير منطقيّة، تستهــــــــدف كل الإجراءات و الحركات و التّصرفات الصّادرة عن الأغلبــــيّة. تبحث فيها عن زلّـــــة و لو كانت نحويّة، لتُقام عليها النّدوات و الموائد المستديرة تُعيد فيها مضغ علكةٍ كانت مضغَتها سابقا. متتبّعة طرُقًا يغلب عليها الكذب و المبالغة و قلّة الرّأي ، إلّا أنّهم يعتمدون في ذلك على أن الكذبَ يمكن أن يناقش كحقيقةٍ إذا ما أعيد مرّات و مرّات... و مرّات.
أمّا السّهم الأخير في هذه السّهام التي يلحظها المراقب دون عناءٍ، و لم يردّ عليها الفعلُ أيٌّ من مكوّنات التّرويكا الحاكمة منذ قيامها، فهو سهم الإعلام. و أقصد بالإعلام مجموعة الأجهزة و العناوين الصحفيّة و الفضائيّات و الإعلاميّون الذين اصطفّوا عن قصدٍ ظاهرٍ منذ تولّي الجماعة الحكم في خانة عداءٍ واضحٍ للمشروع الإسلامي الفائز في الانتخابات. مثل اصطفافهم السابق للثورة مع الديكتاتورية. اصطفافٌ يظهر في فرض ضيوفٍ على الناس ممّن ينتمون إلى الأضلاع الثلاثة السابقةِ كلّ يومٍ و في كلّ ندوةٍ و في كلّ برنامجٍ و في كلّ خبرٍ، من الأخبار التي يكونون قد صاغوه بطريقة توحي التّهمة للجماعــــــــــة و مشروعهم و لو بدون تصريحٍ. حتّى أن المتتبّع البسيط يلحظ حضور اسم واحد في برامج عديدة في نفس الوقت. فرضٌ لا يتناسب مع برامج تلك الأسماء السياسيّة و حجمهم الطبيعي الذي حكَمَهُ الشّعب في آخر سبر رسمي في أكتوبر 2011 . فرضٌ أضحى فيه الصّحفيُّ أو منشّطُ الحصّة الإعلاميّة خصمًا سياسيًّا لممثّل الترويكا الذي يُــــأتَى به ديكورا في زُمرة من الخصومِ، و ذلك حتى لا يقال أنّهم ينهشون في غائبٍ.
و لطالما حذّرنا و نبّهنا من خطورة انسياق جماعة التّرويكا نحو تلك السّهام بحضورهم في ندوات أولائك، و موائدهم المستديرة و برامجهم الخبيثة. و لطالما نادينا بأنّ مقاطعتهم إعلاميّا إلى أن يأتي اليوم الذي يوجد فيه إعلامٌ نزيه حرّ، هو الحلّ الأمثل لوضعهم ذاك، حتّى لا يبتلعوا طعمًا و قع إعدادهُ لهم في اجتماعات سرّيّة كان بعضها في عواصم أجنبيّة. حتّى إذا ابتلعوه أصابهم مغصٌ فيه نارٌ فاحترقوا... ينشغلون به فتقف المركبة فيصبح التّسديد نحوها أسهل من لو كانت... تسيرُ.
و السيّدُ رئيس الحكومة أكبر دليلٍ على نظريّتي هذه... فكلُّ المُؤشٍّرات تُؤَكِّدُ على أنّه قد ابتلع الطّعمَ و انتهى. و إلاّ فكيف يُفسّرُ مُراقبٌ بعيدٌ مثلي انقلابه على حزبه و أصحاب فكره و اتجاهه نحو إقرارٍ بفشل حكومة تراّسَّها منذ ولادتها؟ و تقول كلّ الأرقام بأنّها لم تكن لتحقّق أكثر ممّا حقّقته في ظلّ جوّ الاحتقان الذي أوجدته تلك السّهام التي بيّنتُها سابقا.
فالرّجلُ بدأوه بمحاولات عديدة تُسوّقُ فشله و فشل المجموعة التي يرأسها منذ أيّامهم الأولى. فأخذ هو و من معه منشغلين بالدّفاع على كلّ شاردةٍ و واردةٍ يأتون بها، يُفسّرون دوافعها و يرجون إقناع هؤلاء برأيه و برأيهم... و بقوا على تلك الشّاكلةِ لأشهرٍ عديدة تناهز السّنة... يركضون وراء سراب الإقناع... حتّى إذا وصلوه، وجدوهُ حَرًّا لاسعًا...و هو عين الطّعم...
...الذي حتّى إذا ابتلعوه، بدأوا يُجارونهم في أنّهم فاشلون، و أنّهم في بحث عن حلّ يُخرجهم من فشلهم ذاك مشتركون. الحلّ الذي كان جاهزا وقتها من المعارضة ينتظرهم في المحطّة الموعودة سابقا، و أقصدُ تشريكَهم في الحكم تحت مسمّيات برّاقة كالتّوافق و تحييد وزارات السّيادة و ما إلى ذلك من الشّعارات الرّنّانة. درجة مطالبتهم بمناصب و إجراءات لم يخترها الشعبُ يوم قدّموها إليه و رفضها. و هو ما يُعتبرُ بالفعل عين الانقلاب على الشّرعيّة. الشّرعيّةُ التي أوجدوا لها هي الأخرى تعاريف مختلفة عديدة في اللغة العربيّة... فصاروا يُنادون بشرعيّة انتخابيّة و أخرى توافقيّة و ثالثة انجازيّة و رابعة لا يعلمها منهم إلاّ الله و الشيطان. و كلّ ذلك – لعمري – لعبٌ بالألفاظ أوجد حقيقةً زائفة، انتظروا حتى يلفظها جماعة التّرويكا بألسنتهم، لينسبوها إليهم، فتكون اعترافا منهم بفشلهم، و بوجاهة حلّهم للأزمة المفتعلة كما يقولون، ليَنتهوا بافتكاك السّلطة منهم عبر التّسلّل إليها من الشّبّاك. و رئيس الحكومة أمامهم و أمامي بفعل الطّعم... يضحكُ و يضحكُ و ... يضحكُ.
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: