د - المنجي الكعبي - تونس
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 7524
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
صعبٌ في برد الحزن أن يجد المرء حرارة الكلمة التي تذهب الى العقول. فأن يسقط طود شامخ أمامك ليصبح كالقشة على قدره ليس بالأمر الهين على الاحتمال.
فالذي كان بالأمس يملأ بالرعب خصومه ويدفع في أنصاره كل طاقة بالفداء، ليس بالقتيل الذي دمه لا يُطلّ كما يقول الشاعر القديم.
ولكن ما الحكمة من الجزع أمام القضاء والقدر؟ لا حكمة، إلا (حكمة) الضلالة والفتنة والعياذ بالله.
والاغتيال السياسي قتل لا محالة وجناية لا محالة من جانب الفعل المادي، ولكنه قتل ذو طبيعة خاصة سياسية، يمكن أن ترد في جميع الأحوال الى الصراع على الحكم.
وقد طبع الله في البشر حب السلطة أو طلب السلطة غريزة، لانتظام الكون على نحو من العبودية للمعبود والربوبية للمربوب والمرؤوسية للرئيس وهكذا.. فكان عليها التنازع من قديم الكون ولا خصيصة لها بالعرب.
فكلنا أصبحنا طالب سلطة بعد الثورة، لأن مسالكها لم تكن متاحة لكل مؤهل لها أو ذي كفاءة لتوليها..
ولم يكن الفقيد بأهوننا في المطالبة بها، بالاستحقاق الذي يراه لنفسه ويراه له حزبه لاقتداره ونضاله وقوة جأشه وبأسه وعناده بالقول والفعل. فصنعت الثورة أمامه نهراً من الحرية لا يردّ جريه، فهرهر وأزبد كأنما يعوّض على كبت الماضي وينفّس عن صدر المغلول. ولكنه كان في كل مرة يتوقف، ولكن لا ليرتد وإنما ليقوى أكثر على تخطي العراقيل ومقارعة الخصوم. وأصبح هاجسه الأقوى ألا تقع فتنة بالقول أو الفعل بسببه ولا بسبب غيره. لأن الثورة كانت أعز عليه من أن تنتهك ويجري تيارها لغير طريقه.. ولم تكن الفتنة حاضرة في ذهنه حضورها في ذهن أحد أكثر منه. لماذا؟ لأنه كان بحكم ذلك كله وبطبيعته الأخوف من وقوعها بيده حتى لا تقع بيد غيره، كالفعل ورده. وكذلك كان الاغتيال السياسي، حاضراً على لسانه، يحذر منه ويعود ليحذر منه كأنما يراه لتوه ماثلاً أمامه.
ووقع المحذور، وتلك بلية ابتلى الله بها عباده في الاسلام وقبله، ربما لتنصلح الحياة بعد ارتطامها بكل منعرج وآخر..
واليوم، بعد بضع وثلاثين شهراً من الثورة تقوم قيامة التونسيين على وقع رصاصات في رأس وقلب شكري بلعيد وهو موثوق الى كرسي سيارته بحزام النجاة - في تقديره - ولكن القدر أرداه بإحدى تلك الرصاصات رحمه الله وأجزل الصبر عليه.. على المصيبة به في كبد الثورة. ويا له من اغتيال، سيبقى جرحاً كأعمق الجروح على جبين الثورة التونسية.. السلمية.
أجل السلمية. وينبغي أن تبقى كذلك كما كان يريدها ويناضل من أجل أن تبقى كذلك الى آخر نفس من أنفاسه بعد ساعات على ظهوره بين أحضاننا على شاشات بيوتنا وكأنه واحد منا.
فما العمل بعده لإحياء ذكراه بيننا؟ هل بالفتنة التي كان يحذر منها أم باقتسام دمه درءاً للفتنة، بذلك الدم العزيز الذي أريق بغير حق، وتذهب المطالبة كالمطالبة بغير حدود الله.
كلا، إن الثورة من حدود الله، لأنها إنما قامت على الظلم. وقديماً قال الإمام علي رضي الله عنه: لا بد للناس من إمارة برة أو فاجرة، فقيل: يا أمير المؤمنين، هذه البرة عرفناها فما بال الفاجرة؟ فقال: تقام بها الحدود وتأمن بها السبل.
فإذا كان دمه أريق للفتنة به بين أنصارها أو بين الخصوم والخصوم داخل الثورة، فلا نجعل دمه يذهب لمن أراد به الفتنة، ونسقط كل مخطط للاقتتال بين أبناء الثورة الواحدة. لأنه هو بالضبط ما كان يخشاه. فلو كانت له رسالة وهو في تأبين غيره بالاغتيال، لما قال غير ما كان يقوله ويردده: «لا تغتالوا بعد اغتيال أحدنا، وكونوا كما لا يريدكم أعداؤكم أقوياء على الألم، أشداء على طلاب الفتنة أن يغلبوا عليكم». فكم من اغتيال سياسي انقلبت نتائجه بناء مرصوصاً في صفوف الأمة، ليخلد دمه كالإسمنت، أو كالعهد الوثيق الذي لا رابط أقوى للأرواح منه، دونه رابط الابدان.
فالثورة أعظم من الاغتيال، فلا تغتالوها بدم الشهيد شكري بلعيد أبداً، بل إحييوها من أجله. وسوف نتعالى الى معنى قوله تعالى: {الفٍتْنَةُ أَشَدُّ مٍنَ الْقَتْلٍ}، لنقول إن الفتنة في الثورة أقوى من الاغتيال. فهل سالت دماء قليلة قبلها أم سوف لا تسيل دماء كثيرة بعدها، ولنقف على قول شوقي:
ففي القتلى لأَجـــــــيالٍ حياةٌ
وفي الأَسْرَى فِدًى لهمُ وعِتْقُ
وللحريةِ الحمــــــــــــراءِ بابٌ
بكلِّ يَدٍ مُضَــــــــــــرَّجَةٍ يُدَقُّ
ولقد أصاب رئيس الحكومة حين وصف الاغتيال السياسي في هذه المرحلة باغتيال الثورة، لتعظم به المطالبة باسم المجتمع ولا ينفرد بها مَن دونه مِن ولي الدم كالقتل الذي يقبل فيه الصلح أو السقوط أو المعارضة.
تونس في 6 فيفري 2013
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: