أنس الشابي - تونس
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 8467
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
وقع بين أيدينا مشروع قانون العدالة الانتقالية المتكوّن من حوالي 77 فصلا والمزمع اعتماده في قادم الأيّام، وبالنظر فيما احتواه من مصطلحات ومفاهيم وتواريخ وضعت في غير مواضعها ارتأينا أن نبدي الرأي فيه، نقول ومنه تعالى العون والمدد، يقوم هذا النص المشروع على عدد من المصطلحات والمفاتيح التي يساعد درسها على كشف المستور وفضح المغلقات ممّا استهدف واضع المشروع إخفاءه تحت سيل من الألفاظ والصياغات التي لا تنتطح حولها عنزتان إن أخذت كل واحدة على حِدة من ذلك:
العدالة الانتقاليّة
وذلك بإيهام القارئ بأنها من أسمى الوسائل التي ابتكرها الإنسان لتحقيق العدالة تحت ستار المصالحة والمكاشفة وغيرهما من المسمّيات المحبّبة إلى الأنفس كما جاء في الفصل الأوّل، والحال أن ما سمّي "العدالة الانتقاليّة" ليست إلا شكلا من أشكال الانحراف عن العدالة، فردّ الحقوق إلى أصحابها وإيقاع العقوبة على المخالفين ليس في حاجة إلى مساءلة أو مصالحة بل هو في حاجة إلى حسن تطبيق القانون واحترام ضوابطه وآلياته، في هذا الإطار الذي ينحرف بالمصطلحات عن معانيها يقع الاستشهاد بمثالي جنوب إفريقيا والمغرب للدلالة على ضرورة اعتماد "العدالة الانتقاليّة" للنجاح في تكريس منظومة حقوق الإنسان عبر المساءلة والمصالحة، غير أن المتأمّل في التجربتين يلحظ بجلاء أن ما سمّي "العدالة الانتقاليّة" إنما قصد بها أساسا المحافظة على البناء الاجتماعي من التذرّر وحماية الدولة من انهيار بعض أجهزتها وتوضيح ذلك:
ففي الحالة الأولى التي تخصّ دولة جنوب إفريقيا نلحظ أن البلاد تتكوّن من عنصرين البيض والسود، وقد عانت البلاد من التفرقة العنصريّة القائمة على أساس اللون لعقود طويلة الأمر الذي خزّن الأحقاد والضغائن غير أن حكمة الشيوخ وصفاء النفس والسموّ الأخلاقي دفعت جميعها الزعيم نلسون مانديلا إلى اتباع نهج يعترف فيه العنصريّون من البيض بما ارتكبوا من جرائم في حقّ الأغلبيّة السوداء وفي نفس الوقت يعفو الذين أضيروا من التمييز العنصري عن الذين عذّبوهم وآذوهم ويسقطون أيّ حق تجاههم، والقصد ممّا ذكر يستهدف حماية المجتمع من أن تعود إليه التفرقة العنصريّة التي أساسها اللون مستقبلا تحت ستار الثأر التاريخي ليمنع بذلك السود من استعمال هذه الحجّة وتمكّن الأجيال الجديدة من البيض في جنوب إفريقيا من العيش في وطن لا يعرفون غيره وإن كانت أصولهم تعود إلى مستوطنين قدموا من الدول الاستعمارية.
أمّا الحالة الثانية وهي حالة المغرب حيث انتهج المغفور له الحسن الثاني في آخر أيّامه نهجا استهدف تشريك القوى السياسيّة في إدارة شؤون البلاد إلاّ أنّ القدر لم يمهله فتسلم المسؤوليّة ملك البلاد الحالي الذي عمل على التسريع من وتيرة الإصلاحات السياسيّة التي من بين أهدافها المحافظة على أجهزة الدولة خصوصا منها المؤسسات الأمنية وذلك بإزالة ما لحقها من اتهامات بانتهاك حقوق الإنسان كشفتها بتفصيل كامل مذكرات السجناء، كل ذلك عن طريق "المصالحة" التي تعني أساسا التعويض المجزي للمتضررين فتتحقّق بذلك استمراريّة الدولة بأجهزتها وأدواتها بعد غلق ملفّ حقوق الإنسان وهو ملفّ من أعقد الملفّات التي كان من الممكن أن تؤثر سلبا على الخطّ العام للسياسة التي ينتهجها الملك محمد السادس. ففي هاتين الحالتين التي يتمّ الاستشهاد بهما نلحظ أن الهدف لا علاقة له بالعدالة بل هو هدف سياسي وفق ما شرحنا أعلاه.
المصالحة الوطنيّة
وهي كلمة محبّبة إلى الأنفس لأن مجرّد ذكرها يوحي بالاطمئنان، فهل في بلادنا ما يدعو إلى رفع هذا الشعار؟ وهل وصلت الخلافات في أيّ مرحلة من مراحل تاريخنا الحديث والمعاصر إلى الحدود التي هدّدت فيها الوحدة الوطنيّة بالتفتّت والتشرذم؟ ثمّ هل يجوز إطلاق المسمّيات على غير معانيها؟، فالمصالحة الوطنيّة تحيل إلى الخلافات التي تستهدف وحدة الوطن وتقوم على أساس ديني أو قومي شوفيني أو عرقي... وقد حمى الله هذا الوطن إذ لم تنشأ فيه أيّ دعوة سياسيّة على أيّ من الأسس المذكورة التي تتهدّد الوطن في وحدته أمّا الخلافات التي تنشأ بين الفرقاء السياسيين وإن احتدّت في بعض الأحيان فإنها آيلة إلى زوال لأنها تنشأ ضمن الإطار الحضاري والثقافي الذي يحتضن الأمّة وهو إطار أثبتت التجربة التاريخيّة أنه يحتمل وجود التنوّع، لهذا السبب بالذات نعتبر أن إدراج "المصالحة" التي يكون محتواها ومضمونها وجود الوطن ذاته ووحدته هو إدراج مجانب للصواب واستعمال للمصطلح في غير محلّه وتلبيس على خلق الله.
جانفي 1955
جاء في الفصل 18 ما يلي :"يغطي عمل الهيئة الفترة الممتدّة من الأوّل من شهر جانفي سنة 1955 إلى حين صدور هذا القانون" وللمرء أن يتساءل عن المبرّرات التي استند إليها واضع المشروع بتحديد التاريخ بغرّة جانفي 1955؟ وهل يحمل هذا التاريخ موقفا مضمرا من دولة الاستقلال؟ ولماذا يحرّض أبناء الوطن على بعضهم البعض بإحياء الضغائن؟ ولمن يتوجّه واضع المشروع بتحريضه المبطن لتقديم القضايا والنوازل؟.
مثّلت سنة 1955 تاريخا مفصليّا في الحركة الوطنيّة حيث أمضيت وثيقة الاستقلال لتظهر بعدها الخلافات داخل الحزب الدستوري ويؤول الأمر إلى ظهور الأمانة العامّة أو ما اصطلح على تسميته بالتيار اليوسفي الذي انتهى أمره باغتيال صالح بن يوسف في المهجر سنة 1961. في هذه الأيّام ولأسباب سياسويّة محضة قصيرة النظر وضيّقة الأفق يلجأ البعض إلى ليّ عنق الحقائق وتزوير التواريخ وتشويه المواقف والخلط بين الأحداث ليصبح بذلك صالح بن يوسف داعية للعروبة والإسلام، وقد وصل السفه بقناة الجزيرة في برنامج لها عن المرحوم أن ادّعت أنه كان وراء إقناع عبد الناصر بالدعوة إلى العروبة والحال أن صالح بن يوسف لم يكن يختلف عن بورقيبة في أيّ شيء فمناهج تعليمهم واحدة ورؤاهم السياسيّة متشابهة، تقول الأستاذة عروسية التركي في خاتمة أطروحتها عن اليوسفيّة ص436:"وهكذا نصل إلى أنّ صالح بن يوسف وبورقيبة وجهان لعملة واحدة الحزب الحرّ الدستوري التونسي الجديد"، والثابت تاريخيا أن العروبة والإسلام أمران طارئان لدى المرحوم ولم يظهر اهتمامه بهما إلا بعد بروز خلافه مع بورقيبة في إطار التفتيش عن الأنصار، ووفق ما روى لي الوالد رحمه الله (1920/1997) وقد كان زيتونيا ناشطا أن صالح بن يوسف نكّل بالزيتونيين تنكيلا ما بعده تنكيل لمّا تولّى وزارة العدليّة في حكومة شنيق وهو أمر يتفق حوله كل من عاش تلك المرحلة أو عرفها عن قرب. لم يُعرف لصالح بن يوسف خارج ما يقتضي سياق العمل السياسي في حركة وطنيّة أيّ اعتزاز بانتمائه إلى العروبة أو الإسلام فقد مثّل هو وبورقيبة خطوة إلى الوراء في إطار الانتماء الحضاري إن قورنا بالشيخ الثعالبي. هذا الخلاف استبيحت فيه كلّالوسائل التي من بينها ارتماء صالح بن يوسف في أحضان الزيتونيين رغم أنّه كان من ألدّ خصومهم والأشدّ عداوة لهم من بين زعماء الحزب الدستوري الجديد، سنة 1996 وهو على فراش المرض نقلت الدكتورة عروسية التركي في ص114 من أطروحتها عن الجلولي فارس بأن بن يوسف:"يحتقر الدين الإسلامي ويستهتر بقيمه". لم يكن الخلاف بين بورقيبة وابن يوسف إلاّ خلافا حول الحكم ولمن سيؤول وهو المعنى الذي ذكره شيخ المناضلين سي علي بن سالم في حديث له في جريدة المغرب بتاريخ 3 جانفي 2013، والثابت تاريخيا أن النرجسيّة الشخصيّة تلعب دورا خفيّا في الانحراف بالمواقف السياسيّة وتغيير التحالفات والانقلاب من الموقع إلى نقيضه، يروي سليمان بن سليمان في مذكراته ص230 أن شهر العسل الذي عرفته العلاقة بين صالح بن يوسف والشيخ الفاضل ابن عاشور إثر تعيينه عضوا في الديوان السياسي للحزب الدستوري الجديد انتهى بسرعة لينقلب الاعجاب إلى كراهيّةلِما كان عليه الشيخ من شعبيّة وكاريزما لم يتحملها صالح بن يوسف، فهل يعيد التاريخ نفسه اليوم حيث يلجأ البعض تحت وقع الخصومة السياسيّة والنرجسيّة المقيتة إلى التلاعب بالرموز بوهم الربح وفاتهم أن حقائق التاريخ عصيّة.
اليوم وقد انتقل جلّ الذين عاشوا الأحداث اليوسفيّة إلى رحمة ربّهم ولم يبق منهم إلاّ الجيل الثاني الذي ندعو له بطول العمر فما الذي يرجو واضع المشروع من إحالة هذا الموضوع من مبحث يتناوله المؤرخون إلى نازلة غاب عنها الفاعلون والشهود وحضر الأبناء لينهشوا لحم بعضهم البعض.
من المناصفة إلى التثليث
جاء في الفصل 20 ما يلي:"تتركب الهيئة من خمسة عشر عضوا على أن لا تقل نسبة أي من الجنسين عن الثلث..." الأمر الذي يعني أن الثلث الثالث من أعضاء الهيئة غير محدّد الجنس، فإن ابتدعت هيئة ابن عاشور فضيحة العصر التي هي التناصف فإن واضع مشروع "العدالة الانتقالية" زاد في الطين بلّة بأن طلع علينا بجنس ثالث لا هو بالذكر ولا هو بالأنثى.
والسؤال الذي يقضّ المضاجع بعد أحداث 14 جانفي ترى ما الذي حدث للنخبة التونسيّة حتى تصل إلى هذا الدرك المتهاوي الذي من بين مظاهره إقصاء الكفاءات والإعلاء من الجنس أو ابتداع مصطلحات لا أصل لها في اللغة ولا دلالة لها في الواقع كالحوكمة الرشيدة أو وضع دستور من بين ما جاء فيه أن :"الصحة حق لكلّ إنسان" (الفصل 31) و:"لكل إنسان الحق في الماء" (الفصل 34) أو رواج لفظ التعويض ومشتقاته في مختلف المناشير والمراسيم فقد بلغ عددها في صفحتين فقط من هذا المشروع 20 مرّة فسبحان الله ولا حول ولا قوّة إلاّ به.
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: