د - صالح المازقي - تونس
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 7745
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
في إطار الذكرى الثانية للثورة التونسية التي أطاحت برأس الدولة فاضطر على الهرب إلى الخارج ليستقر به المطاف في المملكة العربية السعودية في وضع لا يحسد عليه بين العباد... أقامت جمعية البحوث والدراسات لاتحاد المغرب العربي بتونس يوما دراسيا بتاريخ 9 جانفي 2013، لتقيّيم ما يكون قد تحقق خلال هذه الفترة الوجيزة في عمر الشعب التونسي. اختارت الجمعية المنظمة أن يكون الملتقى تحت عنوان: عامان من الثورة التونسية: الحراك والآفاق المحتملة. وقد نالني شرف الانضمام لكوكبة الأساتذة الجامعيين التونسيين، المدعوين الأحياء هذه الذكرى. وفيما يلي نص المداخلة التي قدمتها بهذه المناسبة وقد أدخلت عليه بعض الإضافات حتى يأخذ شكل مقال قابل للنشر.
الإخوة والأخوات، الحضور الكريم، في اللحظة التي تلقيت فها الدعوة من الأستاذ حبيب حسن اللولب: رئيس للمشاركة في هذه الندوة التي أتمنى لها كل النجاح، قفزت إلى ذهني قصيدة المرحوم نزار قباني: قارئة الفنجان التي يقول فيها:
بصرت ونجمت كثيرا
لكني لم أقرأ أبدا فنجانا يشبه فنجانك
بصرت ونجمت كثيرا
لكني لم أعرف أبدا أحزانا تشبه أحزانك
منذ اندلاع الثورة التونسية ومن بعدها الثورة المصرية وأنا أحاول تحليل التّشابه المذهل بين مسار الثورتين والبحث عن أسباب ترديهما من خلال قراءة مقارنة تمثلت في (4 كتب منشورة وأكثر من 35 مقالا منشورا على موقع بوابتي الإلكتروني). واليوم أشعر بكثير من الأسى في الذكرى الثانية للثورة، ولا أعلم إن كنّا سنهنئ أنفسنا بهذه المناسبة التاريخية المجيدة، أم سيواسي بعضنا بعضا في ما حلّ بالبلاد خلال سنتين فقط من (فوضى وحال معطّلة وأخيرا وليس آخرا، طش ورش وتهريس وتعفيس) جرّاء (التّغفيص)، النّاتج عن انحراف الثورة منذ لحظتها الأولى وتابعاتها التي هَمَّشَتْ مَتْنَ الثورة ومَتَّنَتْ هوامشها. فالشفاء للجرحى والمصابين والرحمة للشهداء...
الشكر الجزيل لكل من ساهم في تنظيم هذه التظاهرة الثقافية بالبرمجة والتّنظيم والاحتضان وأتاحوا لنا فرصة تدارس أسباب الحراك المتعثّر للثورة واستشراف آفاقها وإمكانية البحث عن حلول قد تصحّح مسارها التاريخي
لتعود اللّحمة إلى شعب وحدته كراهية الظلم وفرقه (للأسف) تباين الرؤى في حبّ الوطن.
في هذا الإطار العام سأوجز المحاضرة في كلام قد يراه البعض مصيبا وقد يعتبره البعض الآخر مصيبة.
بداية أود العودة إلى منطلقات عصر النّهضة العربية 1820م والإشكالية التي حيّرت من سبقونا ولا تزال تؤرقنا إلى هذه اللحظة التي نجلس فيها الآن متدارسين فشلنا الوراثي الشامل، لماذا تقدّم الآخر وتخلفنا نحن؟ كل حرف خُطَّ في هذا الشأن، منذ المفكرين التّنويريين الأوائل للإجابة على هذا السؤال إلى اليوم، هو بمثابة عقدة تضاف لأزمة مزمنة أصبحت (مثل الفليَّو كل يوم إيزد عقدة)[1]؛ لأنّ كل من اهتم بهذا الموضوع كان (يغني وجناحو يرد عليه)[2] وفي نفسه شيء من تعالٍ وكبْرٍ، شعورا منه بامتلاك الحقيقة المطلقة وغيره مخطئ. فانقسمت الأمة على نفسها إلى فئتين، تتبادلان التّهم بثنائيات مثل: تنويريين وظلاميين، تقدّميين ورجعيين، وطنيين وعملاء، حداثيين وأصوليين، مؤمنين وملاحدة، فريق في الجنة وفريق في النّار...
المشهد الفرقوي لا يزال يطبع حياة المجتمعات العربية بالتفرقة بين الشعوب وجزء من النخب المنحازة لها وبين الحكّام والجزء الآخر من النخب الموالية لها؛ فحال الأمة على حاله والعناد والغرور كما كانا عليه بالأمس، وقد استقر في وجدان كل فرقة (أنها هي الفرقة الناجية) وباقي الخصوم هم الفرق الضالة والمضللة.
بعد مضي 191 عاما أي قرنين من الزمن (1820م إلى سنة 2011م)، ثار الشعب التونسي على حاكمه وأسقطه، فما لبثت ثورته أن امتدت إلى دول عربية أخرى، ثورة علّقت عليها الشعوب كل آمالها لتخرج من الاسترقاق إلى المواطنة، إلا أنّ هذه الجماهير الثائرة/الحالمة فوجئت بنفس المشهد التاريخي وهو يتكرر بكل لعانته واتهاماته وعثراته وعوائقه وصراعاته، بعد أن اندحر الغالب وغلب المندحر، فاختلط العمل السياسي بالتّشفي والشماتة ونزع نحو الانتقام وفاحت منه رائحة الثأر.
واليوم نتساءل عن الأسباب ونبحث عن الحلول. فما أشبه ظلمة الليلة بظلمة البارحة
I – عوائــــــــــق المسار الثوري في تونس
عوائق الثورة التونسية عديدة ومتنوعة ألخصها في ثلاثة عائلات أو محاور رئيسية مرتبطة ببعضها ارتباطا عضويا:
1 – العائق الأول:
انحباس الفكر السياسي العام الذي فاق الانحباس الحراري، الناتج عن ثقب الأوزون الذي أصاب الغلاف الجوّي، فكأنّي بهذا الثّقب قد أصاب في ذات الوقت، أغشية المخ العربي الجمعي (سحايا méninges Les ) قبل وبعد الثورة، فجفّت منابع الموضوعية وتصحرت الرؤى العقلانية وفاضت الذّاتية والأنانية أنهارا، متحصّنة بأهل الولاء وخلاّن الانتماء الذين لم يتذّكروا من تعريفات السياسة إلاّ أنّها فن الخداع والمراوغة وأداة لشَرْعَنَتِ العنف. لقد حوّل الساسة التونسيون الجدد العمل السياسي عن قصد إلى "مصارعة ثيران أو تناطح أكباش" للقضاء على منافسيهم وإقصاء معارضيهم للاستئثار بالسلطة، متجاهلين بذلك الوضع الاقتصادي المتدّني للبلاد، فارتفع بذلك منسوب الإحباط الجماهيري العام، ليفجّر آليا هنا وهناك احتجاجات شعبية قُوبِلَتْ بعنف رسمي مغلّظ. وهذا هو الجزء المرئي من الصراع.
2 – العائق الثانـــي:
أزمة خلق وإبداع عامة شلّت الخيال الثوري، فعجز عن وضع صورة أو ملامح صورة للمجتمع الجديد بآليات مبتكرة، تسبقها رغّبة حقيقية في اجتثاث منظومة الظلام بكل ميكانيزماتها الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والإعلامية والسياسية التي تُلْعَنُ في العَلَنِ وتُمَجَّدُ في السّر وتُنَّفَذَ على أرض الواقع لافتقار وَرَثَةِ السلطة للخيال السياسي وانعدام رؤاهم الاقتصادية وبرامجهم التنموية، فأقّروا المضي قُدُمًا في العمل بمنهج الاستبداد السياسي والتخفي وراء الحوارات العقيمة التي لا تغني المواطنين ولا تسمنهم من جوع، بل لم يتورعوا عن تحقير المجتمع فبادروا إلى تركيع النّخب ولعل في ذهنهم قد استقرت نجاعة سياسة من سبقوهم في الإثم والعدوان والدوس على كرامة الإنسان.
3 – العائق الثالث:
يأتي برأيي لتوج ما ذكرته وما لم أذكره من العوائق التي فوّتت وستظل تفّوت على التونسيين وكذلك المصريين فرصة تحقيق أهداف ثورتهم التي ما انفكت تنأى كحلم بعيد... لقد اسميت هذا العائق في إحدى مقالاتي "عَرَضَ سمك السلمونLe syndrome du saumon" الذي يميّز سلوكياتنا عموما وسلوكيات الحكام العرب خصوصا. وهو أخطر ما يهدد المجتمع والدولة والثورة، سواء تعلق الأمر بتونس أو بمصر فحوّل الجميع إلى محترفي التّأزيم.
يختص سمك السلمون بــ: 1/ السباحة ضدّ التّيار. 2/ العناد المميت. 3/ الاستهانة بقوة سيول النّهر. نفس العَرَضِ المرضي نلاحظه في سلوكيات السياسيين الجدد مجسدا في: 1/ الإصرار على المُضِيِّ ضدّ إرادة الشعوب (السباحة ضدّ التّيار) 2/ التّمسك بالحلّ الأمني وقمع الناس واضطهاد الخصوم (العناد المميت). 3/ الاستخفاف والاستعلاء على كل أطياف المجتمع (الاستهانة بإرادة الشعب) نفس سقطات النّظام السابق تتكرر، فحق على الأسلاف والأخلاف قوله تعالى: "إنّ شر الدواب عند الله الصّم البكم الذين لا يعقلون"(الأنفال 22).
لشرح هذا العرض المتأصل في شخصية حكّام ما بعد الثورة، أسوق بعض الأحداث المتعمدة و/أو المفتعلة التي أقدم عليها من يحكمون تونس اليوم:
أ/ محاولة تركيع الجامعة وإهانة الأساتذة والعمداء ومقاضاتهم من أجل دفاعهم عن هيبة وحرية الجامعة. ب/ محاولة تطويع الإعلام بالهيمنة على بعض مفاصله الرئيسية، بدأ بتعيين رؤساء تحرير بعض الصحف إلى الاعتراض ومقاضاة بعض الصحافيين لمواقفهم الحرة . ج/ محاولة زعزعة القضاء وإدخاله "بيت طاعة السلطة التّنفيذية" وجعله أداة طيعة لتأديب وردع المشاغبين. د/ محاولة خلخلة التّصورات الاجتماعية الدينية والسياسية، بتكفير العامة (الاعتداء على أضرحة الأولياء) وتخوين الخاصة (التّشكيك في مكانة ودور الاتحاد العام التونسي للشغل بين الطبقات الكادحة بالاعتداء على مقرّاته والطعن في وطنيته).
هذا الجزء اللامرئي من الصراع الذي استغل رِخْوَةَ المجتمع التونسي لتختبر السلطة (الشرعية) الجديدة "في خطوة أولى" مدى مقاومة المجتمع المدني وصلابة مؤسساته، بمناوشتها بما يسمح به قانون القوة من عنف (شرعي، منتخب)، عملا بالمثل الشعبي القائل "اضرب القطوسة تخاف العروسة" تمهيدا لسحق العروسة واستعبادها (فغاب عنهم أن الشعب في كل من تونس ومصر ليس عروسة والنّخب الحرّة عندنا وعندهم ليست قطوسة). وضعت هذه الإستراتيجية المريضة لتحقيق هدفا رئيسيا يتمثل أساسا في إسقاط الدولة المدنية ومذهبها (المالكي في تونس والشافعي في مصر) وإقامة دولة دينية على المذهب الوهّابي أو الصفوي أو أي مذهب يدفع أكثر لسلطة متأزمة ماليا واقتصاديا. وإنّي أتساءل فيما يتعلق بالبلاد التونسية، أين فضيلة مفتي الديار التونسية، حامي المالكية وراعي "الوسطية" الذي لم نسمع له رِكْزًا؟ أ لم يستشعر فضيلته بَعْدُ مخاطر هذه الهجمة المذهبية المحدثة للفتنة وزرع بذور التّفرقة بين طبقات الشعب، كما استشعرها (سياسيا) وتصدى إليها الاتحاد العام التونسي للشغل؟
إن التيارات الدينية التي صعدت للحكم سواء كانت حركة النّهضة في تونس أو الإخوان المسلمون في مصر تتبارى وتتنافس من يتمكن الأول في هدم الدولة المدنية العصرية الحديثة والرجوع بالأمة إلى القرون الوسطى، وسيلتهما في ذلك العمل السياسي السّري وعقد الصفقات مع الأعداء في الخفاء، بعيدا عن أنظار الجميع؛ وقد تعمدوا خلق حالة من الضبابية لحجب الرؤية على الجماهير وتعتيمها على الدارسين والمحللين.
إن من شبّ على شيء شاب عليه، فالسرية والمناورة في الظل لا تزالا على أشدّهما كما كانتا بالأمس أو أشّد، فانتبهوا يا أولي الألباب لكن لم يخسر الحرب من خسر معركة...
II – الحلول الممكنة
بعد استعراض ما أحسبها أهم عوائق الثورة التونسية التي تنطبق في مجملها على الثورة المصرية التي أصيب أهلها بالإحباط وخيبة الأمل في ما أقدموا عليه من انتخاب الإسلاميين (وهو ما يتردد على لسان نخبهم وكتاباتهم) شأنهم في ذلك شأننا نحن في تونس، أقدّم بعض الحلول المُتَصَّوَرَة والتي أعتبرها ممكنة التحقيق:
أ / الحلّ الأول
ضرورة الشروع سريعا في انجاز ثورة ثقافية، تصوغ تصورات اجتماعية ثورية وتبني شخصية جماعية جديدة يتوحّد فيها الوعي باللاّوعي الثوري (على رأي البنيويين). لكن اسمعت لو ناديت حيّا... فحلمي الثوري الذي أوقعني في الطوباوية رغم حرصي الشديد على الموضوعية قد خاب بمجرد دراستي للموازنة العامة الدولة التونسية التي انخفضت فيها موازنة وزارة الثقافة لسنة 2013 بنسبة 4.7 في حدّ ذاتها فتدنت إلى 0.63 من الموازنة العامة، الشيء الذي قضى على هذا الحل الذي أوصل بلدان غير بلدنا إلى مصاف الدول المتقدمة وأخرجها من التخلف والتبعية وهو ما حققته الصين في عهد (ماو تسي تونغ).
2/ الحل الثاني
تجنّب خلط المناهج السياسية، فمَنْ اتَّخَذَ بالأمس القريب من الديمقراطية مطية للوصول إلى سدّة الحكم لا يحق له أبدا أن يحكم البلاد بالشورى الضيّقة ( وهو ما يحدث بالتوازي في مصر وفي تونس) حيث يقرر مكتب إرشاد الإخوان ومجلس شورى حركة النّهضة الخطوط الكبرى والصغرى للسياسة الداخلية والخارجية للحكومتين ضعيفتين، ممتثلتين لكذا قرارات، لا تفقه في الاقتصاد ولا في المالية العمومية شيئا. فازدادت الأوضاع الاقتصادية تعقيدا والمالية تأزما، لتهددا استقرار الأوضاع الأمنية والمعيشية للمواطنين.
إنّ التخلص من الديمقراطية السياسية باعتبارها التّداول على السلطة من خلال منافسة البرامج الاقتصادية وسيلتها الانتخابات والصناديق ترجمانها، يمنع الدولة من تحقيق الديمقراطية الاجتماعية وتقليص الفوارق الطبقية بتوزيع عادل لمَ تبقَّى في البلاد من ثروة بين الجهات والأفراد بفضل سياسة تنموية ناجعة وليس بسياسة تنويمية فاجعة من ابتكار التيارات الدينية التي عجزت عن قراءة الواقع الثوري ولم تحترم مشاعر من قدموا أرواحهم في سبيل التحرر والكرامة وكأنّ دماءهم التي أريقت لتروي الحرية قد سكبت في هوّة واد سحيق.
3/ الحل الثالث
بإيجاز شديد ألخص الحل الثالث في ضرورة نبذ مبدأ المغالبة السياسية بين شركاء الثورة والقطع مع منهج وصاية الحاكم على المحكوم الذي لولا الثاني لم حكم الأول. على الحكام الجدد أن يقبلوا بفواعد اللعبة الديمقراطية ويعملوا طوعا (قبل أ ن يكرهوا على الرحيل) على إرساء أسس المشاركة الحزبية على أرضية النّدية السياسية والمساواة الاجتماعية لأنّ تونس لكل التّونسيين وكذلك مصر لكل المصريين؛ ولا فضل للحاكم على المحكوم إلا بخدمة البلاد والنّهوض بالعباد.
ولكننا نجن العرب نعيش في زمن " يستخدم فيه المتقدمون المخ في التّفكير... ونستخدمه نحن في إعداد العجة" ولِيُقَسْ ما لم يقل... هذا رأيي باختصار. في انتظار أن تخفت تدريجيا الحمّى الثورية وتستقر الحياة السياسية في بلدان الثورات العربية وينهض الاقتصاد وتأتي الثورة أُكُلَهَا وتجني الأجيال المقبلة ثمارها ويصبح العربي إنسانا، مواطنا (على وزن مفاعل) حرّا، كريما فاعلا... أتمنى على الله أن نلتقي في الذّكرى الثالثة للثورة ولن تصلنا رسالة من الثورة قادمة من تحت الماء تقول فيها على رأي نزار قباني:
إنّـــــــــي أتـنـفــــــــــــــس تـحـــــــــــــــــــت المــــــــــــــــاء
إنّــــــــي أغـــــــــــــــــرق أغـــــــــــــــــــرق أغـــــــــــرق
على هذا الأمل... لكم منّي كل الشكر والتّقدير والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
-----------
1) مثل شعبي تونسي للدلالة على شدّة تعقيد أي وضع حتى يصبح كنبتة الفليو menthe
2) مثل شعبي تونسي للدلالة على الغرور وعدم الانصات للآخر
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: