د - صالح المازقي - تونس
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 12238
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
تقديــــــم
كثير من الناس لا يعرف سمك السلمون ولا يعرفون طباعه التي تميّزه عن باقي المخلوقات، في المجتمعات التي يتواجد فيها هذا الصنف من الأسماك حتى وإن كانت مفتوحة على البحار الدافئة. يتميز هذا السلمون بخصائص عديدة، نذكر منها على وجه الحصر: 1/ لون لحمه المائل إلى البرتقالي المشوب بحمرة، تشدّ اللأبصار. 2/ طعمه المتميز الذي يعتبره خبراء الطهي مزيجا من الفواكه والغلال، مما أكسبه الشهرة وجعل منه طبقا فاخرا لا مكان له على موائد الفقراء. أما الميزتان الثالثة والرابعة التين تتفرد بها هذه السمكة عن باقي الأسماك والكائنات، فتتعلقان بما جبلت عليه من شراسة وعناد في فترة التكاثر، يدفعانها للسباحة ضدّ أعتى التيارات المائية. في تلك الفترة تدخل أسماك السلمون في سلوك مناقض للطبيعة والفطرة، فتنطلق في هجرة عكسية، تتحدّى فيها قوانين الطبيعة، بالسباحة ضدّ التيار ومصارعة الصعاب، محاولة اختراق انحدار الشلالات المائية في عناد يفوق درجة الحماقة، يؤدي بغالبتها إلى الهلاك. أما القلّة قليلة الناجية، فهي التي تقع عليها مهمة التكاثر وتجديد الصنف.
أردت من خلال هذا التّقديم الموجز، أن أضع القارئ منذ البداية في سياق منهج التحليل السوسيو-بسيكو-سياسي المقارن في أكثر من وجه، لنفهم جميعا الآليات المحركة للصراعات السياسية والاجتماعية، ممثلة في تعثّر الثورة وانتكاس الديمقراطية في كل من مصر وتونس.
عَرَضَ (**) السلمون Le syndrome du saumon
يعتبر سلوك هذه السمكة غريبا ومنافيا شكلا وموضوعا للغريزة والفطرة، إلا إذا كان ااستثناء يؤكد القاعدة. يعدّ مثل السلوك بين الناس شاذا ومرضيا، مؤديا رأسا إلى التّهلكة؛ ومن يتوخى هذا المسلك من المسلمين واختار أن يصاب تلقائيا بهذه العلّة، يقع في معصية واضحة ومباشرة مع أمر الله تعالى في قوله: "ولا تلقوا بأيديكم الى التهلكة"(1). إلا أنّ فصيلا من البشر عموما والعرب خصوصا، اختاروا طوعا آفة العناد المُهْلِكِ المتجّلي في ظاهرة السباحة ضدّ التّيار، تماما كما تفعل سمكة السلمون إلى أن يقضي عليها إصرارها الجامح.
هذا السلوك الذي أطلق عليه (عَرَضَ السلمون Le syndrome du saumon)، أصاب حكّام العرب قبل ولا تزال عدواه متفشية في الحكّام الجدد بعد الثورات، حيث تتلاحق الأحداث في مسار من التّعقيد المجاني المنبئ بالويل والثّبور.
مواطن العرض
بداية من مصر ومنذ اللحظة التي أصدر فيها الرئيس محمد مرسي الإعلان الدستوري في ظل الشرعية الدستورية، تحرّك بغريزة سمكة السلمون، سابحا ضدّ التيار الشعبي الرّافض لهذا الإعلان في رحلة غير مضمونة العواقب، قد تؤدي به وبجماعته وبحزبه إلى تهلكة محقّقة، بعنوان شرعية ثورية انتهت لحظة انتخابه رئيسا للجمهورية وأدائه اليمين الدستورية أمام المحكمة الدستورية. رغم كل هذا، يصرّ جلالته في عنت وعناد على التّمسك بما لا يقبل به الشعب، متحلّلا من عهوده ووعوده الانتخابية. لقد أفلحت جماعة الإخوان المسلمين، الماسكة بزمام الأمور في مصر من خلال رئيس الجمهورية الرّاجع إلى المرشد العام بالنّظر، في إخراج المعارضة التقليدية، الصامتة عن صمتها وتخلّيها عن (الكنبة) لتتكتل، تلقائيا مع كل أطياف المعارضة من مثقفين وسياسيين ونقابيين... ممن خذلتهم السلطة بشقيها الظاهر والخفي.
في تونس وفي نفس التوقيت، تتصاعد وتيرة المواجهة بين السلطة (المنتخبة) ممثلة في الحكومة المؤقتة وسكان ولاية (محافظة) سليانة، موطن قبيلة أولاد عيّار الذين يطالبون برحيل الوالي (المحافظ)، ممثل السلطة المركزية في الجهة، بعد اتهامه بالعجز والفشل في تحقيق مطالبهم بالتنمية والتّشغيل التي حرموا منها لعقود طويلة. لم تَرُقْ المطالبات الشعبية لحكومة النّهضة التي سلك رئيسها، نفس سلوك سمكة السلمون الذي اتبعه الرئيس المصري. لم أجد تفسيرا مقنعا لموقف السيد حمادي الجبالي ويناصب العداء في تعميم معيب (على الهواء مباشرة)، الثورة والثوار في تونس بقوله: "لا وجود لكلمة dégage في تونس بعد اليوم" لقد أصيب "فخامته" بداء العناد والغطرسة فبدا عرض السلمون واضحا في تطاوله على أحرار تونس وقواها السياسية على مختلف توجهاتها السياسية.
لم يفكر السيد الجبالي لحظة في دماء أبناء الثورة ولم ينتبه إلى أنّ كلمة dégage قد دخلت التاريخ الإنساني، آخذة تحت إبطها ربائب الثورات العربية ومواليها من الذين لم يلقوا فيها حجرا واحدا ولم تدمع لهم عين بتأثير الغازات المسيلة للدموع؛ فكانوا على أرائكهم يتابعون الأحداث ويشاهدون الدماء تسيل وكأنهم أمام فلم هوليوود، تزهق فيه الأرواح على الركح وليس على أرض الواقع.
شباب سليانة في تونس وإخوانهم في ميدان التّحرير وفي كل ميادين مصر يواجهون سمك السلمون في أوج شراسته التي يعوّج من حدّتها فكّه الأسفل وهو يصارع التّيار ويحاول عبثا القفز عكس مياه الشلالات حتى لو كانت شلالات نياغارا.
كما خرج المصريون الأحرار في كل ميادين البلاد، ترد أخبار التحاق ثوار سيدي بوزيد بإخوانهم أحرار أولاد عيّار في سليانة ليتوجّهوا كرجل واحد إلى ساحة الحكومة بالقصبة في العاصمة، وفاء لعهد كان الجميع قد قطعوه على أنفسهم وسجلوه على جدران الوزارة الأولى منذ اليوم الأول للثورة " وإن عدّتم عدنا" لتصحيح مثار الثورة كلّما دعتهم الحاجة إلى ذلك.
ردود الفعل المرضية
لعل في توازي الأحداث الدّامية اتي تجري هنا في تونس وهناك في مصر، درسا استنتجه الثوار الذين تغافلوا عن حقهم في تقرير المصير وتفريطهم بكل سذاجة مكاسبهم نتيجة غفلتهم المفرطة عن ثورتهم. إنّ ما يجري في كلا البلدين لدليل عن صحوة متأخرة لللا وعي الثوري الذي أحسن الظّن بمن اعتبرهم أمناء على ديمقراطية، ناشئة، انحرفت منذ الخطوة الأولى على درب الحرية التي قالت فيها صناديق الانتخاب كلمتها بإفساح طريق السلطة أمام التّيارات الدّينية التي ما إن حكمت حتى شنت حربا على كل القوى الديمقراطية بيمينها ويسارها.
من الواضح أن المسار التّصحيحي للثورة قد بدأ فعلا، كما كنّا قد تنبأنا به من قبل الانحراف الذي نبهنا منه في كتابتنا المتعددة؛ وقد حصرنا أسباب الانحراف في المنافقين والمرجفين وبارونات السياسية المنحدرين من منظومة حكم الاستبداد المخلوع إضافة إلى الغفلة التي حولت مجتمعة "الحلم الثوري" إلى "كابوس وردي"، بفضل ممارسات غير مسؤولة لحكّام النّهضة في تونس والإخوان المسلمين في مصر.
لقد أقدم الجميع دون خجل على خيانة من ائتمنوهم على مصائرهم وارتدّوا عن مبادئ الثورة، خبز، حرية، كرامة وعدالة اجتماعية؛ فالتفوا في جرأة متناهية على الجماهير المفعمة أرواحهم بثورة على الظلم والاستبلاه. لقد انحاز الحكّام الجدد في تونس ومصر على حدّ السواء لأهل الولاء والوفاء من الأهل والأسرة والعشيرة والنّسب والمصاهرة على حساب أهل الخبرة والكفاءة.
النّزعة الفئوية لدى حكّام ما بعد الثورة
في تونس كما في مصر، رفعت كلا الحكومتين النّزعة الفئوية الضيّقة فوق المصلحة الوطنية العريضة، فكانت تلك الخطوة الأولى، أما الخطوة الخاطئة الثانية فتمثلت في الخلط بين الذّاتي والموضوعي في تسيير الشأن العام التي ستؤدي (إن لم تتوقف منذ الآن) إلى دمج الدولة بالحزب الحاكم ليتولّد عنها لاحقا الزعيم الأوحد. من الواضح أنّ الحكّام الجدد يعوزهم الخيال والتّجديد والخلق والإبداع في المجال السياسي والتعامل مع خصومهم و/أو معارضيهم، فهم على أثر أسلافهم الطغاة خطوة بخطوة متعلّلين بعدم وجود عصا سحرية لتقويم الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية وكأنّ منهجية إصلاح الخطأ بالخطأ السابقة لم تندثر. ولو أضفنا إلى ما تقدّم، الخطوة الخاطئة الثالثة ممثلة في تمسك الإسلاميين بأسلوب العمل السرّي الذي يتّضح في ازدواجية خطابهم حتى وهم في السلطة وبين أيديهم كل آليات صناعة القرار الذي يتم بناؤه في الخفى، في نفس الوقت الذي يوحون فيه علنا بمسايرة الرأي العام.
هنا وهناك وللأسف، تخضع السلطة التّنفيذية لإرادة مكاتب الإرشاد، باعتبارها صاحبة السيادة، المنّزهة والمعصومة من الخطأ. هذا ما يستقرأ من المعيش السياسي والاجتماعي والاقتصادي للشعبين التونسي والمصري ويستدل عليه الباحث ممارسات الحكم على أرض الواقع. هذه الشعوب المغتصبة اغتصابا مزدوجا. يغتصبها التاريخ والتكنولوجية من ناحية ولا تجد أمامها سوى التّفاعل السلبي مع كليهما تحت غطاء العولمة المزعومة بعيدا عن الفعل المؤثر في الحضارة الإنسانية؛ ومن ناحية ثانية يغتصبها حكّامها القدم والجدد، بعنتهم وهيمنتهم واستعلائهم على تصورات الجماهير. حالة من الاستيلاب الجماعي الشامل الذي أحكمت دوائره قوى خارجية، في مقدمتها الصهيونية العالمية مدعومة بالإمبريالية المتغايرة، تساعدها قوى داخلية تراوح بين الرجعية والفاشية التي لا تراعي فينا إلاًّ ولا ذمّة.
إنّ الشعبين التونسي والمصري الذين وحدتهما بالأمس كراهية الطغمة المخلوعة، تفرقها ويقسّمها اليوم حبهما للوطن. مفارقة عجيبة لم تشهد البشرية لها مثيلا، تفزع الباحث وتزعج الأكاديمي حين يصبح الحب عامل فرقة وتتحول الكراهية إلى عامل وحدة. لقد بات من الواضح أنّ الشعوب العربية موعودة بعدم الاستقرار المعيق لتنميتها والمثبّط لتقدّمها، لتغرق في التّبعية والتّخلف إلى الأذنين. كل المؤشرات الرّاهنة تؤكد هذه الحقيقة، لتكره هذه الشعوب على الأخذ بالحضارة الغربية وأساليب تنميتها، بحلوها ومرها وخيرها وشرّها. ليس من التّجني إن قلنا أنّ الإسلاميين الحاكمين الذين أتت بهم ديمقراطية غبية، يسعون لغلق ابواب الجنّة ويفتحون على أنفسهم قبل غيرهم أبواب الجحيم الذي سيدخلونه إن عاجلا أو آجلا، إن لم يعالجوا أنفسهم من داء سمك السلمون بغبائه المقيت وعناده المميت؛ وهم يعلمون علم اليقين أنّ من فتح لهم باب السلطة قادر في أي لحظة من غلقه بعد إبعادهم بالديمقراطية وصناديق الانتخاب مهما تفنّنوا في خلق أساليب الرّشوة السياسية.
الخاتمــــة
قريبا ستتعرّى الحقيقة ولن تلبث القوى الخارجية أن تتأكد من فشل حلفائهم الإسلاميين في إدارة بلدانهم بعد أن أعطوهم تأشيرة الخروج من الظلمات إلى النور وأعطوهم فرصة التّحكم في شعوب ضاقت ذرعا بكل أشكال الظلم والدكتاتورية الخشنة واللّينة. قد تستمر بقايا الاستبداد عبر ما أصطلح عليه بالفترة الانتقالية التي قد لا تكون لها نهاية، إذا عادت الشعوب إلى أسلوب التواكل على الدولة (الوطنية) التي تستمد قوتها من غباء الشعوب نفسها ولم تنطلق بالتوازي مع ثورة قد تتحوّل إلى كوميديا دانتية(*) سمجة، هالية من كل مجاز وعبرة.
حلقة مفرغة من التّيه الحضاري والخواء العلمي والثقافي، غاب عنه العقل منذ ما لا يقّل عن اثنى عشر قرنا خلت. قبل أن اختم أوّد أن أسأل الأخوة في مصر، رئيسا، حكومة وشعبا، من الذي بنى مصر؟ تلقيت الإجابة على لسان الفنان علي الحجّار وهو يردّد إجابة الأسطورة الشعبية، أنّ الذي بنى مصر كان في الأصل حلواني، فكانت مصر حلوة الحلوين. أرجو أن تُصحح الأسطورة لأنّ ما يحدث في مصر اليوم يؤكد، أنّ الذي بنى مصر كان في الأصل إخواني وليس حلواني.
-----------
*) سمك السلمون واسمه بالفرنسية " Le saumon " من الأسماك المهاجرة، يقضي جزءا من حياته في البحر ولا يضع بيوضه إلا في النهر حيث تخضّب وتتحول لى شراغيف تعيش في النهر إلى سنّ البلوغ، لتغادره إلى مياه المحيط ثانية. الأسماك القليلة التي تشيخ وتشعر باقتراب تهاجر، هجرة معاكسة باتجاه مصب النهر الذي نقفت فيه دون غيره لتموت على ضفافه.
**) عرض جمع أعراض وهو العلامة الدالة على إصابة الشخص بمرض ما.
1) البقرة الآية 195
* ) نسبة إلى أليغييري دانتي، شاعر ايطالي من فلورنسا, أعظم أعماله: الكوميديا الإلهية، ولد بفلورنس في1 يونيو 1265 - وتوفي برافينا في 14 سبتمبر 1321
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: