الرد على المغالطات: مزاعم النمط المجتمعي والمكاسب التونسية
فوزي مسعود - تونس
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 10786
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
في خضم التدافع الاجتماعي والسياسي والفكري الحاصل حاليا بتونس، تستند بعض الأطراف لما يسمى المكاسب التونسية والنمط المجتمعي الذي زرعت أسسه منذ الاستقلال، وتقول هذه الأطراف أن ما تراكم من إنجازات بحكم الواقع خلال عقود يجب ان يكون ليس فقط فوق النقد وإنما يجب أن يتخذ مرجعا فكريا للانطلاق منه للحكم على صوابية أي إنجاز مستحدث في بعده الفكري والعقدي.
فيما سيأتي سأبين التهافت العلمي وبالتالي القيمي لهذا الرأي، ومن هناك فساد الكلام المشتق منه الذي يدندن حول قدسية الانجازات الحداثية والنمط المجتمعي الذي فرض على التونسيين في غفلة منهم في بدايات الاستقلال من طرف سياسيين مشبوهين بدعم من فرنسا، علما أن النقاش سيكون علميا بحتا وتحديدا منطقيا.
الفعل نسبة للمولّد:
إذا أخذنا فعلا ما ونظرنا لخلفيته الفكرية حينما تكون مستندة للواقع، فإن الواقع الذي هو الخلفية أي المرجعية لتقييمه، فإنه ذاته لا يكون إلا من خلال أراء الأفراد المكونين لذلك الواقع، ولما كان هؤلاء الأفراد هم أنفسهم إنما يستمدون أفكارهم من خلال ذلك الواقع كان معنى ذلك استحالة تكوّن الرأي لأن هذا يؤدي لما يسمى منطقيا الدّور أو الدوران، وعليه فإنه يجب لفض هذه الاستحالة التحكم في الإشكال بإيجاد نقطة نضخ من خلالها الأفكار، بطريق تبني رأي احدهم أو بعقيدة أو دين، ومن هنا ثبت استحالة وجود أفكار من الواقع، وإنما توجد أفكار وقع ضخها وإلزام الواقع بها ترجع نسبتها لأفراد وُضعوا أو وضعوا أنفسهم كمراجع فكرية، وهو ما حصل بتونس، حيث وقع التحكم في مسار الأفكار في زمن ما وهو بداية الاستقلال من طرف جهة معينة وهي الجماعة الموالية لفرنسا بزرع أفكار معينة ومن ثم تنمية تلك المبادئ في حقل المفاهيم العامة المشكّلة للرأي العام بحيث صارت مع الزمن مرجعا للتونسيين ولكن من دون اختيار منهم وإنما هو فرض وإلزام قهري.
الفعل نسبة للزمن:
تقييم قيمة زمن نشوء أيّ فعل نسبة لمحور / بُعد الزمن إما أن يكون صحيحا أو لا، بمعنى مثلا قيمة الصدق هل تبقى دائما صحيحة أم أنها تتغير مثلا انطلاقا من سنة 1990.
إن كان التقييم نسبة للزمن صحيحا فإننا إذا أخذا وقتين مختلفين على محور الزمن، فإن تعيين صدق احد الوقتين على حساب الآخر يوجب توفر مرجح / علة مولدة، ولو وجد مرجح لكان معنى ذلك أن لحظة نشوء القيمة متغيرة حسب الزمن وهذا لا يجوز لأن الأمر يتعلق بلحظة إيجاد وهي لا يمكن ان تتغير في مداها الكمي ولا القيمي، فكان معنى ذلك أن نشوء الفعل نسبة للزمن لا يحمل من معنى إضافي لقيمة الفعل.
وينجر عن ذلك أن تقييم الفعل إنما ينظر فيه لقيمته المضافة للواقع نسبة لإطار حكم وليس لزمن إيجاده، وبطل بالتالي أي معنى للقول الذي يستند لقيمة الإنجازات موضوع النقاش (المكاسب الحداثية) لكونها أوجدت في زمن معين وليكن في حالتنا بعيد الاستقلال.
وفي الحصيلة فإن القول أن المكاسب والنمط المجتمعي موضوعنا له قيمة لا لسبب إلا لنشوئه في فترة معينة بالتحديد لا يحمل أي معنى وهو كلام فاسد، وبالتالي فإنه يجوز إعادة النظر في تلك الإنجازات إذا كان يعتبر في قيمتها تكونها في زمن ما.
قيمة الفعل:
الفعل حينما ينزل في الزمن أي الواقع فإنه يتغير قيمة، والقيمة تقاس على عدة محاور أو أبعاد ومنها المحور الفيزيائي، ولكن هناك أفعال لها محور إضافي يعنى بقياس القيمة المرجعية المحددة للصوابية الفكرية والعقدية، فمثلا العملية الجنسية لها بعد الكم الجسدي الفيزيائي ولكن لها بعد آخر يعنى بصوابية العملية كأن تكون حراما او حلالا او مباحا.
والأفعال موضوع الاختلاف التي أوجدت منذ الاستقلال لا يوجد سبب أي مرجح منطقي يجعلها تتخذ أفعالا مرجعية حصريا، لا لفاعلها الذي هو بشر كسائر البشر ولا لزمن وجودها لأن زمن إيجاد الفعل لا يعطي قيمة مضافة لذلك الفعل.
ولما كانت تلك الأفعال موجودة بحكم الواقع المفروض، فإن الحكم بمدى قبولها يقاس نسبة لمحور الصوابية الفكرية والعقدية وهي في حالتنا بتونس العقيدة الإسلامية وضوابطها.
ولو افترضنا جدلا أن زمن الإيجاد يعطي قيمة مضافة للفعل فإنه يصبح منطقيا لا مانع من وجود أفعال أخرى تلغي تلك الموجودة حاليا مادامت كلها تحتكم لأولوية الزمن، ومن هنا فإن حتى هذا الافتراض يعطي مشروعية إعادة النظر في ماهو موجود منذ بدايات الاستقلال.
ونخلص بالتالي أن القول بالمكاسب المتراكمة وبالنمط المجتمعي كلام فاسد منطقيا و أن ما وقع ببلادنا طيلة عقود هو مجرد تحكم وفرض من خارج السياق، وأن ذلك التحكم من الخارج لا يعطي الصوابية لتلك الأفعال، وإنما يعاد النظر في قيمة تلك الأفعال من خلال عرضها على محور الصوابية العقدية.
المصادرة على المطلوب:
إذا أخذنا مجموعة من البشر نسبة لفعل ما، فإنهم إما أن يكونوا متفقين حول صوابية الفعل أو لا، وإن لم يكونوا متفقين فإن إلزام طرف للطرف الآخر بذلك الفعل إما أن يكون باتفاق بينهما آو لا، أما الاحتمال الأول فباطل لأنه يتعارض مع الافتراض ويبقى الاحتمال الثاني وهو إلزام طرف لطرف آخر بفعل هو غير مقتنع به وهذا لا يجوز.
ثم إن أصل هذا الإلزام باطل لأنه تفضيل طرف على حساب آخر من دون مرجح وهذا لايجوز منطقيا، وهذه العملية تسمى المصادرة على المطلوب وهي محالة منطقيا.
وعليه فإلزام بعض التونسيين للبعض الآخر بقبول أشياء يرفضونها، بزعم أنها مكاسب، هو كلام من قبيل المصادرة على المطلوب، يجب أن يكون فعلا فاسدا وغير مقبول، وبطل بالتالي ما ينادي به البعض من ضرورة القبول بالمنجزات الحداثية مادامت غير مقبولة ومرفوضة من شق آخر.
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: