قيس المثلوثي - تونس
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 6959
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
الحدث في تونس هذه الايام هو تأسيس حركة نداء تونس برئاسة السيد الباجي قائد السبسي رئيس الحكومة السابق ، والتي أثار وجودها الفعلي ما لم يثره انشاء اي حزب منذ الثورة ، وأسال من الحبر ما لم يثره اي حدث في تونس بعد الثورة طبعا .
ربما وجب الاعتراف بالذكاء السياسي لمؤسسي حركة نداء تونس ذلك انهم لم يقيدوا انفسهم بايديولوجيا معيّنة يمكن أن تكون عائقا امام الراغبين في الالتحاق بها – فالمشروع في نسخته الاصلية كان بالأساس رغبة في تأسيس كيان
يمكن ان يجمع مواطنين وتيارات سياسية وأحزابا ومنظمات وجمعيات كما هو معمول به في عديد بلدان العالم وخاصة بريطانيا وجنوب افريقيا ، لكن وبما ان قانون الاحزاب التونسي لا يسمح بذلك في الوقت الراهن فقد تم الاتفاق على تأسيس حزب مع الاخذ بعين الاعتبار كونه منطلقا لبناء جبهة سياسية واسعة تضم كل القوى الديمقراطية التقدمية التي تؤمن بالفكر الاصلاحي وتؤمن بتونس الحديثة ونمطها المجتمعي المنفتح دون عوائق ايديولوجية او فكرية وبدون اقصاء لأي طرف إلاّ من تعلقت بحقه تتبعات قضائية ، فالقضاء هو الفيصل والضمانة الوحيدة و الحقيقية لإرساء العدالة .
هذا العامل فسح المجال واسعا أمام شرائح من المجتمع التونسي الى تأييد الحركة والتعبير عن مساندتها والرغبة في الانخراط في مشروعها المجتمعي الذي هو في واقع الامر انخراط في الحفاظ على النمط التونسي للحركة الاصلاحية من خير الدين الى الزعيم بورقيبة .
اذا يمكن القول ان نداء تونس هي من الناحية الاجتماعية او المجتمعية دعوة للحفاظ على المكتسبات و الوقوف سدا منيعا ضد محاولات الجر الى الوراء وإرساء نمط مجتمعي هجين يجتمع فيه الايراني والأفغاني والقطري والسعودي الوهابي ..نمط مركب من اجزاء قد قد لا تستطيع الالتقاء ولن تضمن النجاح خصوصا في ظل الرفض الواسع والواضح من الاغلبية الحقيقية للشعب التونسي وليس الاغلبية الانتخابية التي يتشدق بها البعض . فمجتمعنا منذ الاستقلال ارتضى نموذجا حداثيا متطورا ومسايرا لركب التقدم ، و متجذرا في هويته العربية الاسلامية ، مع الاخذ بعين الاعتبار كل الحضارات المتعاقبة على تونس والتي ارتسمت على سنوات تاريخها الثلاثة ألاف .
فالمجتمع التونسي إذا ليسا منبتّا عن خلفياته الحضارية والدينية والثقافية بل تكونت لديه مما مر عليه من تجارب شخصية تونسية متميزة كل التميز عن غيرها - كانت نتاجا لارتواء حضاري وثقافي وفكري - ارتأى بما له من ذكاء وبديهة قولبتها في إطار هوية تونسية عربية اسلامية دون تطرف ودون مزايدات ودون اتجار باسم الله وآيات كتابه الكريم . فتونس لم تكن يوما مرتعا للمتطرفين او بلدا ينخره الارهاب باسم الدين وكل المحاولات في هذا المجال باءت بفشل ذريع .
كانت هذه تونس دوما .. بلد كلّ الملل وكلّ النحل ..بلدا آمنا يتآخى فيه الجميع .
كانت هذه تونس منذ الفتح الاسلامي ..كانت هذه تونس المرابطية والموحدية والفاطمية والصنهاجية والحفصية والحسينية..وكانت هذه تونس الاستقلال ..
ولأنها كانت كذلك فستبقى كذلك قطعا زمن تونس الثورة..فالثورة قامت على مسائل اجتماعية واقتصادية وسياسية وليس مطالبة بفرض نموذج مجتمعي جديد .
لماذا إذا نداء تونس ؟
إنطلقت الثورة وكان التغيير الحقيقي نحو الديمقراطية أو كذلك تمنينا وحلمنا . لكنّ من قاموا بالثورة تصوّروا أن مهمتهم انتهت بسقوط جدار قرطاج الذي يفصل بين تونس الاستبداد وتونس الحرية ، فلازموا منازلهم . لازم شباب الثورة منازلهم مطمئنّين مقتنعين بأن الثورة من مهام الشعوب اما الحكم فهو للساسة ، وأظنهم بل اني متأكد انهم ندموا لانسحابهم تاركين ثمرة ثورتهم لغيرهم ، فعالم السياسة واسع قدر ضيقه ، ضيق قدر اتساعه ..فهو قد يكون عالم قيم وأخلاق او عالم مصالح وانتهازية ، وذلك مرتبط بالضرورة بالمعايير الشخصية فلا موضوعية مطلقة في السياسة ولا تعريف موحد ولا مفهوم واحد .
اتى ساسة من غير شباب ثورة الحرية والكرامة .. ومن حقهم ان يأتوا لا جدال في ذلك ..وصعدوا الى الحكم ولا نقاش في شرعية وصولهم على نسبيتها..لكن وصولهم كان على اساس برنامج مليء بالإغراءات والطموحات والوعود الى درجة انهم كسبوا به قلوب الالاف من التونسيين ..وكسبوا ألافا اخرين بالمال السياسي واستغلال الاوضاع الاجتماعية المتردية لبعض الفئات ولا احد يستطيع انكار ذلك وإن حاول .
اتوا ووصلوا الى الحكم لكن ماذا بعد ؟ لم يعد هدفهم التنمية وتطوير المؤشرات الاقتصادية والتشغيل وإرساء العدالة الاجتماعية ورفع مستويات المعيشة والقضاء على الفساد المستشري في البلاد بقدر ما اصبح تأسيس الخلافة الاسلامية - بعد الاشارات الربانية الموجهة الى الخليفة السادس - ، وتغيير الاستراتيجيات السياسية والتقاليد الدبلوماسية وموازين علاقات تونس الدولية في توجه فاضح الى الشرق الخليجي عوضا عن الغرب الاوروبي – والفرنسي خصوصا - ...اصبح هدفهم تغيير النموذج المجتمعي الذي اتفق كل التونسيين على المحافظة عليه بنماذج اخرى ومحاولة فرضها بالقوة اللامباشرة عبر الذراع السلفي ..
هنا أحسّ بعض السياسيّين بخطر المشروع التهديمي المستورد من الجحور... أحسّ المثقفون والفنانون بخطر فقدان حريات الابداع والتعبير بدواع الحفاظ على المقدسات التي لم تمس أصلا ، أحسّ رجال القانون ان كل المنظومة القانونية التونسية مستهدفة في مقتل ، أحسّ الجامعيون ورجال التعليم والتربية بمخططات تجهيل الشعب بإرساء منظومة تعليم دينية.. وهنا أحسّ المواطن التونسي العادي انه سيفقد كرامته وحرياته وكل مكتسباته ، فقط هو سيحافظ على حرية التنفس – ان سمح له بذلك طبعا - ... أحسّت المرأة التونسية انها ستعود الى عصور الاستعباد واللاكرامة عصور الاماء والجواري وما ملكت ايمانهم...هنا أحسّ الجميع ان تونس في خطر ...فكان لزاما تعديل الاوتار وتفادي الانهيار المجتمعي والسياسي وبالتالي سقوط دولة الاستقلال في منحدر الرجعية والفوضى ...
وهكذا ، ومن رحم الخطر ولدت مبادرة نداء الوطن ، نداء تونس ..لم تكن المبادرة اعلان حرب لكنهم رأوها كذلك ، لم تكن موجهة ضد اي طرف لكنهم شعروا بأنها تستهدفهم..لم تكن احادية اللون بل موجهة الى كل التونسيين لكنهم رأوا فيها محاولة لاسترداد مواقع مفقودة...ولا اظن كل هذا فهما خاطئا بقدر ماهو حرب استباقية ضد عدو محتمل رغم ان نداء تونس من المفروض ان تكون منافسا وليس عدوا - لكن هل يفهم من لم يتعود بالديمقراطية الفرق بين المنافسة المشروعة والعداء اللامبرر ؟
كان ظهورالحركة سعيا الى ضمان تحقيق اهداف الثورة التونسية كما اطلقها شبابها ..التشغيل ، الحرية ، الكرامة ، سقوط دولة الاستبداد ، مقاومة الفساد ، ضمان نمو اقتصادي يتماشى مع قدرات البلاد ، الحفاظ على قدرة المواطن الشرائية وتدعيمها ...لكن اين كل هذا ؟ لم يكن من اهداف الثورة المطالبة باستيراد الوهابية ولا تغيير طرق العيش وفقدان البوصلة المجتمعية..طالبت الثورة باستكمال البناء الديمقراطي وإرساء الحريات الاساسية وتطوير نسب النمو والتوزيع العادل للتنمية والثروة..ومراجعة مناهج التعليم...
نداء تونس كانت ايضا دعوة للمجلس التأسيسي وللأحزاب التي تحت قبة قصر باردو الى احترام تعهداتها السياسية - ذات الالزامية الاخلاقية - بعدم تجاوز اجل السنة لكتابة الدستور والتي هي في الاصل الوظيفة الاساسية للمجلس - وأتحدث عما يجب ان يكون ليس عما هو كائن ذلك ان التأسيسي حاد عن وظيفته الأصلية ليصبح مجلسا تشريعيا بامتياز -...
نداء تونس اضافة الى كل هذا ارادت ان تكون - في صورة نجاحها وستنجح بإذن الله وبفضل ارادة التونسيين وتكاتفهم وكذلك بفضل ذكائهم وفطنتهم - الضامن للتوازن على الساحة التونسية ، وهذا التوازن ضروري لضمان التداول السلمي على السلطة كمقوم اساسي وشرط جوهري للبناء الديمقراطي...فلا فرق بين الحزب الواحد والحزب المهيمن في خلق الاستبداد ، فتونس الثورة لا تريد ديمقراطية شكلية بل ديمقراطية حقيقية مبنية على توازن قطبي ، وليس ايجاد هذا التوازن مدعاة الى ما يقوله العديد من الملاحظين - غير الموضوعيين - من ان نداء تونس اججت حرب الاستقطاب بين الاسلامي والحداثي العلماني ، فالحركة على حدث وجودها تستقطب المتحرر و المتدين ، النخبوي والمواطن العادي ، الرجل والمرأة ، الاطار والعامل ، اليساري والوسطي والدستوري والمستقل ..هي جماهيرية لا ايديولوجية كما أراد لها مؤسّسوها أن تكون ...
فالهدف من تأسيس حركة نداء تونس اذا ، هو اصلاح المشهد السياسي الذ يتسم بعدم التوازن وعدم قدرة المعارضة على لم شملها في نفس الاطار بسبب صراع الزعامات الذي لم تستطع تجاوزه.. هي حركة ستجمع كل الطاقات والكفاءات التونسية بدون استثناء خدمة لتونس وشعبها..
نداء تونس هي حلم كل تونسي في ايجاد المخرج من النفق المظلم الذي تردت فيه تونس اليوم نتيجة هيمنة طرف سياسي واحد على مفاصل الدولة وما يمكن ان يتسبب فيه ذلك من تضييق للحريات ، وتراجع للتجربة الديمقراطية وعودة الدكتاتورية بشكل جديد..دكتاتورية دينية تعوض الدكتاتورية الفردية وهو لامحالة ضرب للثورة وأهدافها في مقتل..
نداء تونس في الاخير هي نداء للأحرار لنبني معا تونس الجديدة... لنحلم معا بواقع افضل ومستقبل مشرق .
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: