مبادرة الإتحاد العام التونسي للشغل كأداة للثورة المضادة
تونسي المشاهدات: 8284
1- انطلقت المبادرة من ملاحظتين : أولا هناك أزمةٌ خانقةٌ تَشُلُّ البلاد، ثانيا هناك انعدام كلي للحوار بين الاطياف السياسية والاجتماعية. من المؤسف القول أنّ الملاحظتين مُجانبتان للصواب. فالقول بأنَّ هناك ازمة خانقة تهويل وتضخيم مُسيّسٌ والمواطن البسيط هو اكثر الناس ملامسة لما تعيشه تونس حاليا من بوادر انفراج وتقدم تدريجي في اكثر من مجال. ويبدو ان الازمة الخانقة الحقيقية هي حالة التشظي واليأس المزمن والبؤس الهيكلي التي تعرفها بعض احزاب المعارضة سواء في تنظيمها الداخلي او في توقعاتها من الانتخابات القادمة. اما انعدام الحوار فكلام بعيد عن الواقع. فماذا يمكن ان نسمي ما يحصل في المجلس التأسيسي سواء في جلساته العامة حيث الحوارات والنقاشات العلنية او في اللجان الخاصة بالتوطئة والتشريعات وغيرها حيث يكون الحوار والتوافق هو آلية صياغة مقترحات النصوص. اما الحوار الاجتماعي فلا يحتاج الى تدليل ويكفي ان نتابع اخبار الاجتماعات الدورية بين الاتحاد والحكومة او بين الوزارات والنقابات العامة لنعرف مدى التقدم الذي احرزه المسار الاجتماعي مع ما يعني ذلك من مكاسب تتحقق لفائدة الاجراء والشغالين.
2- الحديث عن أنَّ بعث مؤتمر وطني جامع هو سفينة النجاة المتبقية الوحيدة للوطن يجعلنا نعتقد ان المجلس الوطني التاسيسي بكل الأطياف الممثلة فيه لم يكن سوى مُزحة وإضاعة للوقت وهو امر ينزع في الحقيقة ولو بطريقة خفية شرعية المجلس التأسيسي نفسه ولولا بعض التحفظ لقلنا بان جوهر المبادرة ليس إلاَّ الغاء دور المجلس التاسيسي كحاضنة وطنية وكمصدر شرعي وحيد لمختلف التشريعات والنصوص القانونية. نذكر قيادة الاتحاد بأنها هي من كانت في صدارة المنادين بذلك المجلس عقب الثورة مباشرة في مسعى استباقي للحيلولة دو اجراء انتخابات رئاسية كما كان ينص على ذلك دستور 1959. وسواء صدقت النوايا او تلبَّست لُبوس التسييس فانَّ كل محاولة من تقليل دور المجلس التاسيسي هي في نهاية الامر سعي الى ادراك ما عجزت عنه بعض الاطراف عبر صناديق الاقتراع.
3- توقيت المبادرة يطرح اكثر من تساؤل مشروع. لماذا لم يطرح الاتحاد مثل هذه المبادرة عندما كانت الهيئة العليا لتحقيق اهداف الثورة على وشك الانهيار التام او عندما عرفت تونس اثناء حكومة السبسي ازمات خانقة حقيقية كادت تنسف السلم الاجتماعي وتدخل البلاد في اتون الحرب الاهلية؟ سؤالنا الثاني للاتحاد وهو مفصلي: لو كانت المعارضة هي التي تحكم عوضا عن الترويكا هل كنتم ستبادرون بطرح هذه المبادرة؟ نُذَكِّر الاتحاد بأنه كانت هناك تجربة سابقة تدفعنا للحكم على حقيقة نواياه. نتذكر عندما كان اليسار يسيطر على هيئة بن عاشور وأصر على مواصلة الجلسات وإصدار مشاريع المراسيم بالرغم من انسحاب الاسلاميين والمؤتمر والمستقلين نتذكر كيف ساند ممثلو الاتحاد استمرار الجلسات مع مقاطعة المنسحبين. حينها لم يبادر الاتحاد الى مؤتمر للتشاور ونزع فتيل الاختلاف.
4- النقطة التي يحاول الاتحاد عدم توضيحها هي من هي الاطراف التي ستحضر المؤتمر في صورة الاتفاق عليه. تحدثت المبادرة عن الاحزاب والجمعيات والمنظمات وهو امر يثير تساؤلات عدة. هل ستتم دعوة نفس الذين حضروا في هيئة بن عاشور؟ هل هو اذن استنساخ لنفس التجربة التي عرفنا كيف كانت تعمل ولفائدة من؟ هل ستتم دعوة الاحزاب التجمعية؟ هل سيحضر ممثلو 120 حزبا؟ هل سيحضر ممثلو 10 آلاف جمعية؟ ثم الحديث عن المنظمات سيدفعنا للتساؤل هل الاتحاد مستعد لدعوة النقابات المنافسة له كاتحاد عمال تونس للسحباني والجامعة العامة للشغل لحبيب قيزة؟ هل سيتم دعوة اتحاد الاعراف ام الهيئات المنشقة عنه؟ نفس الشيء لاتحاد الفلاحين الذي لم يخرج من براثن التجمع المنحل. هل سيتم اعتماد مبدأ الانتقاء ووفق أي آلية او معيار؟ هل الاتحاد هو الجهة الوحيدة المكلفة بدعوة الحاضرين كما كان الامر لعياض بن عاشور؟
5- اكبر ضامن لنجاح اية مبادرة هو حيادية الطرف المتقدم بالمبادرة وهذا امر لا يختلف فيه اثنان.هل الاتحاد محايد فعلا؟ هل علينا نسيان عشرات البيانات النارية التي انهالت على الحكومة تارة وعلى النهضة طورا بالنقد والتجريح والاتهام؟ هل ننسى تخندق الاتحاد في صف المعارضة اليسارية في كل المناسبات التي تأزَّمت فيها الحياة السياسية؟ هل علينا نسيان حملات التشويه والاعتصامات العشوائية والإضرابات غير المبررة والمُسَيَّسة التي يرعاها الاتحاد سرا وجهرا؟ هل علينا التغافل على بيان امضاه المولدي الجندوبي مؤخرا اثناء اشرافه على هيئة ادارية بجندوبة ودعا فيها وزير الداخلية للاستقالة والى تسلم الجيش مقاليد الملف الامني؟ اليس ذلك دعوة مبطنة للانقلاب على الشرعية؟ ثم هل علينا ان نتغافل عن حقيقة كون عشرات قيادات الصف الاول والكوادر الوسطى بالاتحاد شاركوا في انتخابات المجلس التاسيسي على قوائم احزاب معارضة وانهزموا؟
6- لفهم حقيقة أبعاد المبادرة وعلاقاتها بالسعي لتحجيم دور المجلس التاسيسي علينا عدم التغافل عن وجود نوع من الرفض والامتعاض لدى البعض ممن في المركزية النقابية تجاه المجلس التاسيسي تصل حد المواقف المشككة والساخرة من دور المجلس او المُقللة له يتبادلها قياديون نقابيون في الكواليس وفي مجالسهم الخاصة وحتى العلنية احيانا. النقابيون غضبوا اول مرة لأنه لم يؤخذ باقتراحهم المقدم سابقا الى هيئة بن عاشور في فرض كوتا خاصة بالاتحاد قدَّرها بعضهم بـ 50 نائبا. النقابيون غضبوا ثانية لانه لا احد من رموزهم المعروفة استطاع دخول المجلس عبر الانتخابات كما ان انصارهم التقليديين في احزاب اليسار مُنِيت بهزيمة نكراء. النقابيون غضبوا مرة اخرى لان المجلس لم يعط الاولوية لمقترح نص الدستور المقدم من الاتحاد حيث تسلم المجلس عشرات المسودات. النقابيون غضبوا مرات اخرى لانه لم يُلتَفت الى مقترحهم في نص التوطئة الخاص بالدستور كما ان النية لا تتجه ايضا للاعتماد الحرفي لمقترح الاتحاد فيما يخص مشروع الهيئة العليا المستقلة للانتخابات. وأخيرا غضب الاتحاد بعد المصادقة منذ ايام قليلة على القانون الاستثنائي للانتدابات بالوظيفة العمومية ولامَ المجلس واحزابَ الترويكا لعدم تشريكه في وضع المقترحات الخاصة بفصول ذلك القانون وكأنّ مباركة الاتحاد لأيِّ قانون شرطٌ لشرعيته. شعار ان الاتحاد اكبر قوة في البلاد وانه اذا تحدث فعلى الجميع ان يصمت وان يذعن كلام اجوف وللاستهلاك الداخلي فقط. لو كان الاتحاد حقا اكبر قوة في البلاد فلماذا لم يفعل شيئا طوال سنوات الاستبداد والقمع والتعذيب ولماذا لم يغير شيئا في ممارسات النظام الدكتاتوري بل الادهى والأَمَر لماذا تعايش مع المخلوع وتواطأت عديد القيادات فيه ضد مصالح الشغيلة والقوى السياسية المناضلة؟
7- اثناء عرض المبادرة في ندوة صحفية اولى ثم في برامج تلفزية كانت نبرة الاستعلاء بارزة في خطاب السيد حسين العباسي بل وصل في لهجته الى نوع من التهديد حينما قال: سنرى الان مَنْ مِنَ السياسيين اليوم سيرفض هذه المبادرة والرغبة نحو التوافق الوطني. وكأنه يُلَمِّح الى ان النهضة لو رفضت مبادرته فانه سيقوم بحصارها اجتماعيا وسياسيا وإعلاميا وسيتم تصويرها في ثوب الرافض للوفاق والساعي لتوتير الاجواء والانفراد بالرأي والاستبداد. الاتحاد الذي له حساسية شديدة وتشكيك كبير في كل مبادرة لا يتم تشريكه فيها يرفض ان تكون للحكومة نفس تلك الحساسية ونفس ذلك التشكيك لانها لم تُسْتَشر قبل عرض المبادرة أمام الاعلام.
8- المبادرة تعكس في الحقيقة ازدواجية طبيعة الاتحاد الذي يُصنف في القانون على انه منظمة اجتماعية نقابية في حين ان المبادرة سياسية بامتياز. كنا نقبل في السابق بالرسالة السياسية للاتحاد في فترة الاستعمار والنضال الوطني من اجل التحرر او في فترة الاستبداد والدكتاتوري نظرا لغياب قوى معارضة حقيقية. ولكن بعد الثورة وخاصة بعد إرساء الشرعية وقد اصبح لكل تيار سياسي معارض مطلق الحرية في النشاط والتنظم والاحتجاج والتظاهر فانه سيكون من الخطير ان ينحرف الاتحاد عن اهدافه الاصلية والانغماس في العمل السياسي المعلن حينا والمستتر احيانا . بهذا المنطق تصبح مبادرة الاتحاد في حقيقتها وعلى حد تعبير احدهم طوق النجاة لجرحى الانتخابات. للمتحسسين في صفوف رجال الاتحاد من هذه المسالة نفترض عليهم هذه الوضعية: ماذا لو اقترحت الحكومة مبادرة من اجل النظر في التمثيلية النقابية وازالة الخلافات بين الاتحادات العمالية الثلاثة واستدعت كل من الحبيب قيزة وحسين العباسي واسماعيل السحباني. هل كان الاتحاد سيقبل بهذ الدعوة ام انه سيشن حربا ضروسا ضد الحكومة التي يعتبرها اهانته عندما سوت بينه وبين الاتحادات الاخرى. على الاتحاد اذن ان يتفهم كيف يمكن للاتحاد ان يُسَوِّيَ بين حزب حاز على اغلبية الاصوات وبين حزب ليس له ممثل واحد.
9- حقيقةً ما الذي يجعلنا نعتقد ان مبادرة الاتحاد المتمثلة في مجلس وطني للحوار تختلف جوهريا عن تجربة الهيئة العليا لتحقيق اهداف الثورة او عن فكرة المجلس التاسيسي المدني لمحسن مرزوق اوفكرة المجلس الوطني للاحزاب للسياسي التجمعي منذر الحاج علي او افكار اخرى للمصطفى الفيلالي والصادق بلعيد كمجالس الحكماء؟ على الاتحاد ان يتفهم بصفة جدية مخاوف الترويكا التي ستعتبر تسويته بمن هم غير ممثلين اصلا في المجلس الوطني التاسيسي الحالي من قبيل الانقلاب عليها والتقليل من حجمها الذي اعطاه لها صندوق الاقتراع. ثم فكرة التوافق ضبابية ولا تجيبنا على التساؤل المركزي: ماذا لو لم يتحقق التوافق في احدى المسائل؟ هل سنعتمد راي اغلبية الحاضرين في المؤتمر؟ ماذا لو اصرت النهضة مثلا على احدى النقاط التي تضرها، هل عليها ان تتنازل لتظهر في ثوب الحريص على الوفاق؟ في كلمة ، التوافق الوطني هو تنازل الفائزين لترضية الخاسرين وهي بدعة في السياسة وهَبَلٌ لم تعرفه اية ديمقراطية.
10- دون لف او دوران، الغايات الحقيقية لمبادرة الاتحاد هي كالاتي:
- استبقاء مهام كمال الجندوبي على راس الهيئة المستقلة للانتخابات واستبقاء معظم الهيئات الجهوية وتجنب اعتماد قانون جديد يجعل من الترويكا المقرر الرئيسي لاعضاء هيئة الانتخابات بعد عرضها على المجلس التاسيسي. علما وان كل اعضاء الهيئة المركزية السابقة معارضون للترويكا ومعظم اعضاء الهيئات الجهوية ينتمون ايضا للمعارضة مع وجود قيادات نقابية في كل اللجان الجهوية والمركزية التي عملت في اطار انتخابات 23 اكتوبر.
- عدم صدور قانون للانتخابات من المجلس التاسيسي يكون تلبية لرغبات الترويكا. الاتحاد ومعه المعارضة متخوفون من صدور قانون انتخابي يلغي مبدا اكبر البقايا ويعتمد السقف الادنى لدخول المجلس. الاتحاد وحلفاؤه يريدون ان تختص الهيئة المستقلة في اصدار القانون الانتخابي بعد منحها الصفة الدستورية. لو تحقق لهم ذلك فبإمكان تلك الهيئة اسقاط اية قائمة فائزة.
- نزع اختصاص السلطة التنفيذية في تعيين كبار المسؤولين وجعل ذلك الاختصاص محل توافق وتشاور. بمعنى لو سلَّمنا بمنطق الاتحاد فان رئيس الوزراء لا يستطيع تعيين مدير عام الا بالرجوع للاتحاد وللاحزاب وللمنظمات. خلفية هذه الرغبة هو شعور المعارضة والاتحاد بان بقاء امتياز تعيين اصحاب الخطط الوظيفية الكبرى في يد الترويكا سيغري الكثيرين من النخب والطبقة المثقفة ويجعلهم في خندق الحكومة ضد المعارضة.
- نزع اختصاص السلطة التنفيذية الجهوية في تعيين النيابات الخصوصية بالبلديات. بمعنى الاتحاد ومعه المعارضة يريدون إما الابقاء على الهيئات البلدية القائمة قبل الثورة والتجمعية في توجهها او عرقلة أي تغيير اذا لم يكن منسجما مع مصالحهم. الاتحاديون يعتقدون ان وجود فريق بلدي قريب من الترويكا في البلدية قد يجلب لها انصارا جددا من الاهالي خاصة وان البلدية تتعامل يوميا مع المواطنين ناهيك عن الامتيازات التي يمنحها القانون للمجالس البلدية ولرؤسائها.
- نزع اختصاص الانتداب من السلطة التنفيذية وإشراك الاتحاد في ذلك. النقابيون ومعهم المعارضون يعتقدون بان كل المنتدبين الجدد في الوظيفة العمومية سيكونون مَيَّالين سياسيا للسلطة التي انتدبتهم. اشتراك الاتحاد في لجان تقييم المناظرات المهنية والانتداب والترقية سيجعله يبدو كما لو انه هو الذي دافع عن المعطلين واجبر السلطة على انتدابهم.
- الدخول في لجنة تقصي الحقائق حول قضايا الرشوة والفساد وذلك للحيلولة دون تكرر نشر فضائح بعض كبار الاسماء في قيادة الاتحاد وهي فضائح ادت فيما سبق الى حجر السفر لمدة قصيرة على عبد السلام جراد.
- الدخول في المجالس الاستشارية الخاصة بقوات الامن الداخلي حتى يبدو الاتحاد كما لو انه حريص على حقوق رجال الامن ومدافع على حقوقهم المادية والاجتماعية والمعنوية في مواجهة وزير داخلية متعسف. كل تقوية لما يسمى بنقابات الامن-بعضها احدث في مكتب لزهر العكرمي- هو اضعاف لسلطة وزير الداخلية وتدعيم لنزعات التمرد والانفلات الامني.
- الدفع من خلال مقترحات الاتحاد في اتجاه إكساب المؤسسات البنكية استقلالية في التصرف انطلاقا من البنك المركزي ووصولا الى الفروع المصرفية الجهوية. الاتحاد ومعه المعارضون يريدون نزع صلاحيات وزير المالية والوزير الاول. وقس على هذا المثال بقية الادارات والمؤسسات العمومية. تحجيم سلطة الوزراء ليس عن مبدا وانما لان الوزراء من الترويكا. الجميع يريد ألاَّ تظهر اية مكاسب اقتصادية او اجتماعية كما لو انها ثمار لعمل الفريق الوزاري.
في كلمة ، ان مبادرة الاتحاد وخلف الشعارات الوطنية الظاهرة ليست إلا محاولة جديدة لنزع المشروعية الشعبية والانتخابية للترويكا وتقزيم مُمَنهج لسلطة ورمزية المجلس الوطني التاسيسي وتشكيك مريب في كفاءة الفريق الحاكم وإظهاره في مظهر العاجز عن اتخاذ القرارات المصيرية والفاشل في التعبير عن نبض الشعب التونسي ناهيك عن الاستهزاء بنواب الشعب الذين يصبح التساؤل عن جدوى بقائهم في المجلس التاسيسي جديا اذا كان هناك مجلس موازي -مجلس الحوار الوطني "التاسيسي"- هو الذي يقترح مشاريع القوانين!!
---------
وقع تحوير العنوان الأصلي للمقال
محر موقع بوابتي
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: