كريم السليتي - تونس
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 8690 karimbenkarim@yahoo.fr
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
سألت أحد الأصدقاء و قد كنا نتناقش حول مستقبل الوضع في تونس في ظل تكرار جرائم المس بالمقدسات و ازدراء الإسلام علنا بإسم الحرية و الإبداع. فقلت له أنت تتقلب في نعم الله فماذا قدمت للإسلام و كيف ستدافع عنه؟ قال أكتفي بتربية أبنائي و للكعبة رب يحميها.
صديقي هذا هو صورة للكثير من التونسيين بل اني أقول لأغلبية التونسيين الذين اختاروا العزلة و السلبية و الانزواء عن صراع محتدم داخل مجتمعنا. صراع بين الخير و الشر، بين الأخلاق و الانحلال، بين الفضيلة و الرذيلة، بين الإيمان و الإلحاد ، بين الحق و الباطل. المصيبة أن يكون الإنسان مسلما و لا ينصر الحق و لا ينحاز للخير، بل يأخذ مسافة من النقيضين و يقول بأنه محايد أو أنه معتدل أو أنه مستقل. هذا الصراع تديره أقلية معروفة بتطرفها و تشددها و شذوذها الفكري و الاجتماعي وحتى الأخلاقي و السلوكي في مقابل ذلك أغلبية صامتة متفرجة سلبية لا تكاد تحرك ساكنا وكأنها جثة هامدة و كأن القضية لا تعنيها و لا تعني مستقبل أبنائها.
سأبدأ بتقديم الأقلية المتفسخة حضاريا و مرتكزاتها العقائدية و الفكرية و مدى استحواذها على الإعلام ثم أتعرض بعدها لتقديم الأغلبية المتخاذلة عن نصرة دينها ووطنها.
1- المتفسخون حضاريا و عقدة المرأة
هذه الفئة من التونسيين هي نتاج 75 سنة من الاستعمار الثقافي الفرنسي و 50 سنة من حكومات تخدير المجتمع، أصيبوا بصدمة حضارية في أول زيارة لهم إلى باريس، فخلعوا ملابسهم، وتنصلوا من دينهم و هويتهم و ضوابطهم الأخلاقية و الاجتماعية، منهم من أدمن العيش في الحانات و منهم من أدمن المواخير ...وقالوا أي تخلف كنا نعيش فيه. ثم عادوا إلينا (إلى تونس) مبشرين و منذرين. مبشرين بالحداثة و التقدمية والفن و الإبداع و منذرين من الرجعية و الظلامية و التدين و الأخلاق.
فوجئ المجتمع التونسي بأن حداثتهم و تقدميتهم لم تتعلق بالبحث العلمي و لا ببناء اقتصاد متوازن و متنوع و قوي و لا بالقضاء على الفقر و البطالة و الجريمة و لا بإنشاء بنية تحتية متطورة. فهم لا يفقهون هذه الأمور و لا يهتمون بها أصلا، هم لا يعملون و لا ينتجون فقط يجلسون و يتحدثون، يهتمون فقط بالثقافة و ثقافتهم هي موسيقى و مسرح و سينما و رسم و نحت وأدب و..و..و...الرابط المشترك بينها كلها هي جسد المرأة و احتقار الدين و الأخلاق. و اختيارهم للمرأة ليس اعتباطيا بل لأنها عماد الأسرة و المجتمع ، اذا صلحت المرأة صلحت العائلة و يصلح المجتمع و لذلك كان تريكزهم على تحرير المرأة من عفتها بدعوى أن الضوابط الاجتماعية و حتى الأخلاقية لا مبرر لها، بل سموها ضوابط "أخلاقوية".
هناك من أحسن الظن بهم و"بنبل " غايتهم، فالمرأة لم تلق نفس حظوظ الرجل و ظلمت كثيرا خلال الخمسين سنة الأخيرة: تحرش جنسي في وسائل النقل و في العمل، ارتباط لقبها بلقب زوجها بعد الزواج و كأنها شيء تابع له أو أم ذلك تشريف لها، عدم إعداد برامج للتخفيض من نسب العنوسة التي تدمر نفسية المرأة كلما تقدمت في العمر (أتحدث عن المرأة العادية المتوازنة و ليس عن بعض الشاذات)، استغلال جسد المرأة كبضاعة في الإشهارات و في المعارض... والإشكاليات كثير حول المرأة في مجتمعنا. لكن فوجئ ذوي النوايا الحسنة من الذين سايروا هذا التيار التفسخي في البداية، بأن كل هذه المشاكل التي تعترض المرأة و تنقص من إنسانيتها و تمس صميم كرامتها اليومية لا تهّم دعاة تحرير المرأة من "الحداثيين التقدميين" بل أن الموضوع لا يُطرح حتى للنقاش لديهم. من ماذا سيحررونها اذا؟ طالبوا بالمساواة في الميراث و كأن مشاكل المرأة التونسية انتهت و لم يبق سوى الجانب المادي، و كأن المرأة ترث كل يوم. قيل لهم إنكم تظلمون المرأة بطلب المساواة و تجهلون أحكام الدين لأنها ترث في بضع و ثلاثين حالة أكثر من الرجل (راجع ميراث المرأة في الإسلام). ثم بعد ذلك من ماذا ستحررونها؟ قال بعض "التقدميين" لماذا نجبر المرأة على تقاليد الزواج هي حرة في جسدها تفعل به ما تشاء (يقصدون مثل أنثى الحيوان، أكرم الله جميع النساء) لتكون بعد ذلك لقمة سائغة لذوي الغرائز الحيوانية من المتفسخين، و كل ذلك بدعوى حرية المرأة و رفع الظلم عنها.
و لننظر الى نتائج هذا التيار الذي يتبنى النهج الحيواني في حياة الإنسان في المجتمعات التي تتطبق هذه الرؤية، فرنسا مثلا يعيش فيها الملايين من الذين تجاوزوا الأربعين سنة لوحدهم (مع كلابهم أو قططهم ربما) يموتون في شققهم فلا يُعلم بأمرهم الا حين تفوح رائحة جثثهم. المرأة في فرنسا تفقد أهميتها في المجتمع اذا تجاوزت الأربعين فلا يسأل عنها أحد و الكل يريد التخلص منها (حتى أبنائها) لأن مؤسسة الأسرة قد تفككت تماما، وهو يجعل البعض منهن يسافرن للبحث عن السياحة الجنسية علها تخفض حجم مأساتهن الاجتماعية هذا ناهيك عن انتشار الأمراض النفسية و خاصة الاكتئاب نتيجة الوحدة و الإحساس بغياب السند العاطفي و الذي يؤدي إلى الانتحار في كثير من الأحيان. أما في مجتمعاتنا المسلمة و حتى في تلك التي فيها تعدد الزوجات، فالمرأة مكرمة كلما تقدمت في السن كلما زادت قيمتها عند أبنائها و اذا مرضت تجدهم حولها يبحثون لها عن أفضل طبيب و يوفرون لها كل ما تحتاجه و ربما أكثر. ببساطة انه الفرق بين "الحداثة" و "الظلامية".
2- المتفسخون حضاريا وسطوتهم على المال و السياسة و الإعلام
الخطير في الامر أن هؤلاء المتفسخين حضاريا المدعين للحداثة و التقدم بالرغم من أنهم أقلية قليلة في تونس إلا أنهم يسيطرون على جزء من النسيج الاقتصادي والسياسي و الإعلامي و حتى الأمني و الإداري في تونس. هم من يضعون برامج الترويج للشذوذ، يحاولون التأثير على المناهج الدراسية لتلاميذنا في المدارس و المعاهد لتشكيكهم في مقدساتهم و في دينهم، يسعون من خلال عمليات التوجيه الجامعي إلى إبعاد الطالبات عن عائلاتهن، يضعون برامج إعلامية تمجد ثقافة التفسخ و تصور جوهر الهوية على أنه رجعية و ظلامية و تخلف.
هذه الحملة الشعواء جعلت التونسيين و التونسيات تحت ضغط شديد. اذا كنت منحلا أخلاقيا ومنهزما حضاريا فأنت تقدمي حداثي، و اذا كنت تعيش ضمن الضوابط الأخلاقية و الاجتماعية و تقوم بغربلة السلوكيات الغربية لتختار الأفضل فأنت رجعي، أما اذا كنت متمسك بدينك و تفتخر بانتمائك لتونس العربية المسلمة فأنت ظلامي تعيش في عصر مضى عليه أربعة عشر قرنا. و يتناسى المتفسخون انهم يدعون للعيش على نمط الإنسان البدائي منذ عشرات آلاف السنين والذي تحركه غرائزه الحيوانية أكثر من عقله و يغطي فقط نفس الأماكن التي يغطيها "الحداثيات التقدميات" الآن من أجسادهن. لذلك ترى من لهم مناصب اجتماعية هامة يسارعون في الإعلان بأنهم "تقدميون و حداثيون".
دعاة التفسخ و الانحطاط الأخلاقي ينظمون أنفسهم في جمعيات يربطون علاقات مع مؤسسات و منظمات دولية، ينشؤون مواقع أنترنات، ينظمون ملتقيات و اجتماعات، يطبعون قصص و كتبا و أقراص و يوزعونها على عمال المصانع و تلاميذ المدارس و طلبة الجامعات. يكتبون المقالات ينشؤون الجرائد و الإذاعات و التلفزات و لا يتركون أية مساحة إلا و يستغلونها لنشر عقيدتهم البهيمية البدائية، يجتهدون و ينفقون من أموالهم و يخصصون أوقاتهم بل حياتهم (بعضهن رفضن الزواج كي يتفرغن لمحاربة عفة المرأة أو من أجل أن تكون سلعة ترفق صورتها شبه عارية مع الحذاء و الثلاجة والسجائر) من أجل نشر التفسخ وضرب هوية التونسيين وهم يعلمون أنهم لن يحصوا لا على أجر و لا على راحة بال و لا حتى تحقيقا للذات وأقصى ما يتمنونه إطراء من قناة فرنسية أو جريدة غربية.
3- الأغلبية السلبية وسرقة البساط من تحت أقدامها
أما الأغلبية المسلمة فهي تتفرج و لا تكاد تحرك ساكنا، اللهم بعض النقد الخافت هنا أو هناك. فالأغلبية تخشى إن تحركت أو انتقدت أو انتقمت أن تنعت بالسلفية وهي في قاموسهم تهمة لا تحتمل. هل هذه هي إيجابية المسلم التونسي و قوة إرادته؟ ينتقد القنوات التونسية و يدمن مشاهدتها، ينتقد العري و الانحلال الأخلاقي واللفظي و لا يراقب أبناءه و بناته. من منا حدثته نفسه بنصرة وطنه و مجتمعه من التيار المتفسخ الهدام، من منا قام بعُشر ما قامت به جمعيات الأخلاق الحيوانية من نشاط؟
فليسأل كل واحد منا ماذا قدمنا لديننا، لقد ضحى الصحابة و ما بعدهم من المسلمين الصادقين بأموالهم و أنفسهم و أموالهم لننعم نحن اليوم بنعم لا تحصى لعل أهما نعمة الإسلام و التكلم بلغة القرآن. أوجه هذا السؤال للطبيب الذي يتقاضى 40 دينارا عن كل مريض و لا يراعي أوضاع إخوانه من المسلمين في حين أن 20دينار ربما تكفيه، أوجه كلامي للأستاذ الذي يدرس أبناء المسلمين فلا يخلص في تعليمهم و لا يجتهد الى في الدروس الخصوصية، أوجه نقدي لرجل الأعمال الذي لا يخرج زكاة ماله و يأكل أموال عماله وكل ما لديه هو رزق من عند الله، الذي يصرف ملايين الدنانير على مشاريعه و لا يخصص بيتا للصلاة أو جزءا من مشاريعه للدعوة إلى الله، بل ان البعض يمنع منظوريه حتى من الصلاة.
ان أغلب من ماتوا قد توفوا و لم يكملوا قضاء حوائجهم و مصالحهم، فمتى يقرر كل منا أن نخصص لوطننا و لمجتمعنا بعض الجهد حتى ترسخ معالم هويتنا في أذهاننا و أذهان أبنائنا، ننتقد كل يوم تصرفات الناس و تكالبهم و انتهازيهم، ننتقد كثرة انتشار المخدرات و الإجرام، ننتقد العنف اللفظي و المادي، ننتقد الانحلال الأخلاقي و عودة المجتمع لعصور الغرائز الحيوانية. فماذا فعلنا لننشر أخلاق الإسلام و قيمه، و نجعل من ذلك منطلقا لبناء مجتمع متحضر و حديث، كما يحلم به كل إنسان.
الكل يقول سوف يدافع غيري، سوف يتبرع غيري، سوف يبني غيري، أو يقول "للكعبة رب يحميها". في حين أننا مطالبون و مسؤولون عن هذا الوطن و هذه الأرض و هذا المجتمع. لماذا لا يأخذ كل منا حسب جهده و ماله و تفرغه بزمام المبادرة و يقم بأنشطة من أجل دينه و دنياه، لماذا زمام المبادرة دائما بيد دعاة التغريب و الانحلال الأخلاقي. متى سنعي خطورة تقاعسنا عن أداء واجبنا تجاه مجتمعنا. في السابق كانت تعلة بطش النظام و الخوف على لقمة العيش، و اليوم ماهو المبرر للكسل والتخاذل؟ هل دور المسلم التونسي هو فقط أداء الصلاة و تربية أطفاله فقط؟ وحتى تربية الأطفال لن نكون أحرارا فيها، لأنهم سيتلقون مناهج تشككهم في هويتهم و ضوابطهم الأخلاقية و الاجتماعية، حينها لا ينفع السلبيين الندم لأنهم لم يأخذوا بزمام المبادرة.
كريم السليتي
كاتب و محلل سياسي
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة:
12-06-2012 / 10:45:36 محمد