د - صالح المازقي - تونس
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 7956
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
زوبعة في فنجان، هكذا بدت لي عاصفة الاحتجاجات الكلامية التي ساهمت في تمزيق ما تبقى سليما من شراع الزورق السياسي والحزبي والإعلامي التونسي وقسمت المثقفين (المنقسمين أصلا) إلى أسرتين فكريتين. جاء الانقسام على إثر القرار المشترك الذي اتخذته رئاستا الجمهورية من ناحية ورئاسة الحكومة من ناحية ثانية. عند هذه النقطة وقبل أن أواصل الحديث، ينبغي أن أنوّه بهذا الانسجام في الرؤيا بين إيديولوجيتين متنافرتين بالأساس وكانت مصدر تخوّف من تصدّع محتمل.
القرار المشترك الأول موضوع البحث، تعلق بـطرد السفير السوري من البلاد التونسية، وبغض النّظر عن صحته من خطئه، يبقى القرار ثوريا حتى النّخاع؛ صدر عن بلد كان له الفضل في العصف بطغاة العالم العربي الذين انفردوا لأكثر من ستة عقود بقرارات الانبطاح التي عمّقت من تبعية دولهم وشعوبهم لقوى أجنبية لم تتوانى لحظة في تمريغها في أوحال ذّل الاستعمار الحديث شعوبا وحكومات.
لأول مرّة في عالمنا العربي، يقف بلد وأي بلد، بلد ثورة الكرامة، موقفا حرّا ومشرّفا، متناغما مع روح السياق التاريخي الجديد. كما صدّرت تونس الثورة إلى كافة قارات العالم علاوة عن الشعوب العربية التي أضعفها قهر حكامها وقزّمها الإقصاء وحقّرها في عيون القاصي والدّاني، ها هي اليوم تصدع بقرار سيادي رفع الحرج عن صدور خنقها الصمت وضاقت أنفاسها وكأنما تَصَّعَدُ في السماء.
وأكتب اليوم لأقول بصراحة تامة وبوضوح لا لبس فيه، أنّ قرار الحكومة التونسية المتعلق بطرد ممثل النّظام البعثي السوري هو قرار سيادي، أصاب كبد الواقع والحقيقة، أثبتت السويعات القليلة التي تلته صوابه... منذ أن أطاحت الثورة التونسية برأس الفساد وحاشية الإفساد وأنا أكتب مستبشرا بدبيب التّغيرات السياسية في جسد الأمة وعودة الروح إلى شعوب دخلت حقّا منعرج الفعل التاريخي. لقد أثبتت الدولة التونسية في ثوبها الجديد، أنّها في مستوى مسؤولية القطع فعلا مع عهد التّنديد والكلام الأجوف الذي وضع حكومات ما قبل الثورة في خانة "هنا معاكم لا تنسونا".
في نفس اللحظة التي وقع فيها خبر السفير السوري من تونس كالصاعقة على "فاكسات" وكالات الأنباء القومية والأجنبية، حتى وضع الجميع على أعينهم نظارات خشبية، منسجمة مع خطابهم الخشبي، الذي أتى متناقضا مع مواقفهم المندّدة (في احتشام) بالقتل الجماعي الذي يمارسه النّظام السوري على الشعب السوري، الشقيق، الأعزل. هجمة شرسة شنّها كل من في نفسه شيء من مرارة النّكسة السياسية نتيجة السقوط المدّوي لأحزاب اليمين واليسار في الانتخابات التأسيسي في 23/10/2011 على حكومة تتلمس طريق التّحرر من عبودية نصف قرن من التقوقع والتّبعية.
للمعارضة السياسية في الديمقراطيات قواعدها، كما للحكم قواعده أيضا، وتبقى الموضوعية المعبر الرئيسي للحمة الوطنية، فالمعارضة في جوهرها هي مقوّمة الحاكم وضميره الجماعي، المستتر ونفسه اللّوامة التي تكبح جموحه، باعتبار المعارضة والحكم وجهان لعملة واحدة. لنا أن نسأل كل معارضي قرار الحكومة (وهي غير معصومة من الخطأ)، أين وجه الخطأ في مثل هذا القرار، الذي أرى في تقديري المتواضع أنّه جاء متأخرا؟ كما أتوجّه لهم جميعا بالسؤال عن موقفهم من رئيس وحكومة يبيدان شعب طالب سلميا بحقه في الإنعتاق والحرية وممارسة الديمقراطية؟ ماذا لو كانوا هم في موقع السلطة التي تخولهم اتخاذ القرار؟
بودّي أن أذكر فئة المعارضين بانتقاداتهم اللّاذعة التي وجهوها لحكومة السيد الباجي قائد السبسي، حين تأخرت في الاعتراف بالمجلس الوطني الليبي، أيام كانت مدفعية وراجمات ستالين، تدّك قرى ومدن جارتنا ليبيا وتقتل الأبرياء من نساء وأطفال وشيوخ، بل ذهبت الأقلام والتصريحات إلى اتهام ذات الحكومة بالتّقاعس والتّراخي في حسم موقفها، قبل فوات الأوان.
من موقعي كأكاديمي ما تردّدت لحظة في التوجّه بالنقد لكل من تولّى السلطة بعد 14/01/2011 ونشرت مواقفي من كل مجريات الأحداث في الشأن التونسي على صفحات الجرائد المكتوبة والإلكترونية في ذات الوقت. مواقف عبرت عنها من خلال تحاليل علمية، ملتزمة بالموضوعية والحيادية، من زاوية قراءتي للعمل الحكومي قبل الانتخابات ومن بعدها إلى الآن. لقد توخت الحكومة التونسية الصراحة والجرأة، بعيدا عن المراوغة السياسية والخطاب الضبابي الذي لا يكاد يفهمه حتى كاتبه. كما ضربت مثلا في التعبير الحرّ عن رأيها في الشأن العربي والدولي على السواء وتحمّل مسؤوليتها أمام شعبها.
في هذا الصدد أشير إلى القرار التونسي قد استجاب لأبجديات السياسة التي هي فنّ اتخاذ القرار الجامع بين الحسم والحزم والروية، من شأنه أن يؤلف بين الفرقاء السياسيين في بلادنا، الذين تتلهف آذان التوانسة لسماع آرائهم على الهواء وتتعطش أعينهم لقراءة كتابتهم ومتابعة حواراتهم لا أن يفرق بينهم.
القرار ليس باليسير ولا بالهيّن، ودون الدخول في جزئيات تداعياته الجانبية، بما يُفْقِدُ الجماهير تركيزها ويفسد عليها فرصة فهم الغاية من اتخاذه ويحجب عنها عمقه الإنساني والثوري، على المثقفين والسياسيين رغم اختلافاتهم الفكرية والمنهجية، أن يقاربوا بين وجهات نظرهم لرّص الصفوف وراء سلطة (منتخبة)، خاصة وأن طبيعة القرار يلامس الإعلان عن الحرب التي لا مناص منها لو كنّا على الحدود السورية. القرار خطير وجريء لا يحتمل صبّ المزيد من الزّيت على النار حتى لو كان خاطئا.
قد لا يتجاوز هذا القرار في جوهره دائرة أضعف الإيمان، نظرا للمسافات الجغرافية الفاصلة بين تونس سوريا؛ وإلا لمَ تردّدنا لحظة وفي مقدمتنا (معارضي القرار) في تقديم العون المادي والمعنوي لأشقائنا السوريين، كما هو شأننا دائما وأبدا، بتلقائية وغيرة على إخواننا حيثما كانوا، سجلها تاريخنا الاجتماعي والسياسي بكل فخر. ما بالعهد بالقدم، لم يتأخر الشعب التونسي، رغم أحواله المادية المتردّية، في مساندة الأشقاء الليبيين في محنتهم، فتقاسم معهم الخبز والماء والدواء وهذه ليست منّة نمنّها عليهم. كيف يمكن لذاكرتنا الجماعية أن تنسى ونحن نحيي ذكرى أحداث ساقية سيدي يوسف (8/2/1958)؟
وإنّي لأعجب من تصريحات بعض المثقفين الذين نسبوا قرار طرد السفير السوري من البلاد التونسية لإرادة خليجية بتوصيات أمريكية فمن حيث لم يشعر أصحاب هذا الرأي، وضعوا العربة أمام الحصان وقد غاب عنهم أنّ الثورة التونسية هي ثورة الفعل على خطاب السياسي وخطاب المثقف في نفس الوقت؛ وبالتالي وجّهوا إهانة للثورة ولشهدائها ولجرحاها وأهاليهم ولكل الشعب التونسي... ما ضرّ لو أنهم تروّوا وقدّموا قراءة أكثر جدّية لموقف ثوري بامتياز؟
القرار التونسي يندرج في باب الواجب الذي يقرّه الدين وتحتمه الأعراف وتفرضه الأخلاق علينا وعلى غيرنا من الشعوب الحرّة، إضافة إلى كل ما تقدم، أعاد هذا القرار، للدبلوماسية التونسية المجمّدة حراكها ونضارتها، بعد طول غياب؛ كما مكّنها من وضع قدم راسخة في دنيا الكبار وأدخلها عالم السياسة المستقلة وأعاد لها ولنا جميعا جزءا من سيادة مفقودة. لقد بدأ الحراك الدبلوماسي منذ احتضنت أرضنا الطيّبة تونس، اجتماع المجلس الوطني السوري ومنحه شعبها الدّعم الأدبي والمساندة السياسية في المحافل الدولية، فأين المشكلة؟
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: