د - صالح المازقي - تونس
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 8301
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
تابعنا في الليلة الفاصلة بين 24 و 25 جانفي الماضي على "قناة حنبعل" برنامج " فضاء حر" حوار بين الأستاذين "فوزي جراد" منشطا، وضيفه الدكتور "منذر بالحاج علي"، أستاذ القانون العام بالجامعة التونسية، كان حوار الواقعية والصراحة، اللتين التزم بهما الضيف، رافض التموقع داخل المنظومة الفضفاضة للتفاؤل والتشاؤم، وهذا من ميزات الباحث والأكاديمي الموضوعي.
"اسمع الكلام إلّي يبكيك وما تسمعش الكلام إلّي اضحكك" هكذا تحدث الأجداد، فقالوا حكما وقدموا النّصح للأحفاد "إنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ"(1). من هذه الزاوية قدّم الأستاذ القانون العام قراءته وشرحه لسياسة الحكومة المؤقتة التي تدير حياة العباد والبلاد. قراءة لا أملك إلا أن أيدها، لأني كنت قد قدمتها في مقالات متعددة وبأساليب متنوعة بتنوع المناسبات التي تناولتها بالدرس. الفرق بين ما قاله الأستاذ الجليل بل العظيم وبين ما كتبناه، يكمن في أمرين: أولا أنه كان على الهواء مباشرة، يخاطب مشاهدين كثر في نفس الوقت. ثانيا أنه كان واضحا العبارات، دقيق المفاهيم، جريئا في أقواله، ملتزما بالموضوعية العلمية، متجردا عن الذّاتية المؤدية إلى الاتهام أو الثّلب أو السباب... لقد قال الرجل قول الحق" وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ "(2)، فكان صادقا مع نفسه ومع بلده ومع ربّه.
ما أحوج الحاكم في كل زمان ومكان إلى مثل صوت الحق هذا وأن يسمع وينصت ويعي النّصح الجلي الذي لا يحتمل التأويل ولا الاجتهاد في استنتاج المقصود من بين السطور. كان الأستاذ يتكلم "على مباشرة على الهواء"، فكان المشاهد "على الخط مباشرة مع جوارحه وأعماق نفسه". لم تكن حماسة خطابه وانفعاله " المنهجي " إلا صدى صادقا لحبه لتونس وغيرته على مستقبل أبنائها وبناتها.
اتخذ الأستاذ من الاستنتاج الاستقرائي منهج تحليله للوضع السياسي التونسي. "الاستقراء" لغة من قرأ الأمر أي تتبعه ونظر في حاله. "الاستقراء" أيضا من قرأتُ الشيء بمعنى جمعته و ضممت بعضه إلى بعض ليرى توافقه واختلافه، و كلا الأمرين يعني التّتبع لمعرفة أحوال شيء ما. أما الاستقراء كمصطلح فلسفي، يفيد عند المنطقيين الحكم على الكلّي بما يوجد في جزئياته الكثيرة. والاستقراء عند الإمام الغزالي تتصفح جزئيات كثيرة داخلة تحت معنى كلّي، حتى إذا وجدت حكما في تلك الجزئيات حكم على ذلك الكلّي به. أما الدكتور عبد الرحمن بدوي فيرى فيه تعميم من حالات جزئية تتصف بصفة مشتركة.
انطلق الأستاذ من مؤشرات بسيطة وضمّ بعضها إلى بعض خلال فترة زمنية، هي فترة الاختبار أو التجريب، ليخلص إلى حكم واضح وصريح، أوقع المنشط في حرج فطلب منه تأكيد ما قاله، عسى أن يتراجع أو يصحّح أو... وكأن الدّهشة أصابت الأستاذ فوزي جراد الذي كان عالي الحرفية، متمسكا بالحيادية مع ضيفه، موضوعيا في أسئلته وتدخلاته، فشعرت وكأنه قد استحضر في ذهنه، بقايا أيام القمع ونسي أنها قد ولّت.
انتهى الأستاذ إلى خلاصة مفادها أن الحكومة المؤقتة غير مبوأة للحكم وأنها لا تصلح لقيادة البلاد. نتيجة واضحة لا غبار عليها، توصل إليها الأستاذ من خلال المؤشرات السالبة التي تميّز بها العمل الحكومي منذ تسعين يوما. وقد تمسك بهذه المدّة التي حاول المنشط تقليصها إلى الثلث باعتبار أنّ العمل التّنفيذي الفعلي للحكومة لم يبدأ إلا بعد المصادقة عليها في (23/12/2011) من المجلس التأسيسي وأداء اليمين لاحقا؛ وعلّل الأستاذ تمسكه بأن الحكومة قد تمّ تشكيلها (في خطوطها العريضة) من قَبْلِ انعقاد الجلسة الأولى للمجلس التأسيسي (22/11/2011). هذا عنصر من مجموعة عناصر وصفتها من قبل بــ: "الانحراف المبيّت"(3).
في هذا المجال أثار الدكتور نقطة على قدر كبير من الأهمية والخطورة، تتعلق بشرعية الحكومة التي انبثقت عن مجلس تأسيسي منتخب، وهو التفاف فاضح على الانتخابات، ما كان أن يتمخض على تشكيل حكومة ولا عن انتخاب رئيس للدولة وهو كتبت عنه قائلا:" استشعر المواطن تكتيكات سياسوية مبكرة، تحاول بواسطتها الأحزاب القفز على المرحلة الانتقالية ودمجها « افتراضيا » في مخيلة النّاخب وإعداده نفسانيا لمَ بعد المجلس التأسيسي. لقد تحققت الرؤية وتحول الافتراضي إلى واقع معيش، حين أفرز المجلس التأسيسي إتلافا حاكما، تمخض عن تعيين رئيس للجمهورية وحكومة مؤقتين وصفا بالمنتخبين في ظل انسحاب من أسمو أنفسهم بأحزاب المعارضة، فوقع في الـــ لا شرعية التي لم يفلت منها إلا رئيس المجلس الذي جاء انتخابه متطابقا مع أصول اللعبة السياسية."(4)
تندرج هذه النقطة في القاعدة الشرعية القائلة " بأنّ ما بني على باطل فهو باطل" الشيء الذي نجد فيه تفسيرا موضوعيا للتّردد البائن في العمل الحكومي اليوم، الذي دفع بالأستاذ بأن يحملها مسؤولية الانفلات الأمني الذي لم تتحرك بقرارات صارمة في التّصدي إليه؛ وضرب لذلك مثال تعاملها مع أحداث جامعة منوبة الذي شرحناه في مقال بعنوان: الجامعة التونسية توشك أن تلتهب(5). وتساءل الأستاذ عن حكومة تشكلت منذ تسعين يوما ولم تجسد برنامجا (يفترض أنه موجود بوجودها الافتراضي) واكتفى بالإشارة إلى أنّها حكومة بدون برنامج سياسي، وأنا أكرّر ما قلته حول برنامج الحكومة " يبدو أن اللعبة السياسية لم تتغير، عدى وجوه اللاعبين الذين دخلوا [في غفلة من الثوار] إلى أرضية الملعب القديم/الجديد، ليتنافسوا (في تحالف وتراض) على تعويض ما فات... " (6)، إلى هذا العامل يُعْزِي الأستاذ الكبير فشل الحكومة المؤقتة في التعامل مع كل الأوضاع في البلاد.
قام الأستاذ "منذر" بتحليل تردّد الحكومة الحالية في ردع الخارجين عن القانون في مدينة "سجنان" وأشار إلى أن ضعف الحكومة لا يعني بأي حال، ضعف الدولة التونسية، التي وإن بدأت كذلك فهي دولة، عروقها ضاربة في التاريخ وفي النفوس وكأنّي بالرجل يقرأ صفحات من كتابي "الثورة والدولة"(7). كان موقف ضيف الحلقة شديد الحماس في الدّفاع عن الدولة التونسية التي لا يعنيها اهتزاز السلطة أو فسادها في شيء.
كما تساءل الأستاذ الكبير عن سبب تشكيلة حكومية مؤلفة من 40 وزير وكاتب دولة على رأسهم رئيس حكومة في ظرف ثوري، زادته الأزمة الاقتصادية والمالية والبطالة وتهميش الجهات تعقيدا وكان من الأنسب أن تكون حكومة أزمة لا يتجاوز عدد وزرائها خمسة عشر وزيرا؟ لقد أنكر الباحث على الحكومة هذا العدد الضخم، ونحن نشاطره هذا الموقف العلمي، النّابع من صدق التحليل، المبني على منهجية سليمة قائمة على الدقّة في التحليل الموضوعي. ونحن لا نقيّم الأستاذ (معاذ الله) بل نساند موقفه الذي قمنا من قبل بتشريحه خباياه، مبرزين سلبياته على الداخل والخارج(*).
كما قدم الأستاذ حزمة من الحلول الإجرائية، القوية والفاعلة، من شأنها أن تطمئن المجتمع على مستقبل ثورتهم. اقترح المتحدث بما لا يدعو إلى الشك عن إمكانية فرض انتداب عاطل واحد من قبل كل المشِغِّلين التونسيين في القطاعين العمومي والخاص؛ وقدّم رقم 150 ألف انتداب في لحظة واحدة. إنّها خطوة عملية، سهلت الانجاز، ممكنة التّحقيق، تصيب عصفورين بحجر واحد. إنّه السهل الممتنع الذي يجب أن تبادر الحكومة بالاستئناس به والاستعانة بأصحابه وتشريكهم في تحمل مسؤولية وطنية، ما دامت المعارضة قد اكتفت بالنّقد الذي يلامس الانتقاد.
إن ما ينقص أعضاء الحكومة الجدد، هي الثّقة بالنّفس، وكمثال على ما أقوله، انكفاء السيد وزير التنمية الجهوية الأستاذ الغربي، الذي كان في ندوة تلفزية على الهواء مباشرة وقد بدا مسيطرا تماما على ملف التّنمية بكل جزئياته (رغم قصر مدّة توليه وزارة التّنمية)، تحدوه روح وطنية وإحساس بمأساة الجهات. تولدت أمام الوزير فرصة (لن تتكرر وللأسف لم ينقض عليها)، وهو يحاور وينصت باهتمام بالغ لممثل اللجنة الجهوية للتنمية بولاية تطاوين، الذي لخص أعمال اللجنة في خمسة برامج ذات أولوية ملحة للنّهوض بالجهة. تمنيت على الوزير أن يكون في تلك اللحظة الفاصلة، حرّا في اتخاذ القرار واستكمال العمل الحكومي، بإعلانه (على المباشر) أن وزارته ستحوّل للجهة على الحساب، جزءا من الاعتمادات المالية المخصصة لها (على حدّ قوله). فلولا هذا التّردد في المبادرة (وكأني به وزيرا في العهد البائد)، لكان للوزير شأن في تغيير نظرة التونسيين للحكومة وأدخلها مجال تفعيل المصداقية... الخ إلا أنّ ذلك لم يحدث.
لقد أبدع الدكتور "منذر بالحاج علي" في تحليله للوضع العام التونسي، في جرأة العالم الواثق من منهجه ومن علمه. ما أشدّ حاجة تونس حكومة وشعبا لأمثاله، القادرين على التحليل وتقديم الحلول وهذا مهم، أما الأهم فهو قول الحق وتقديم النّصح لسلطة، مبتدئة، تتلمس طريق الحكم في ظرف تاريخي استثنائي جدّا.
تحية إكبار وإجلال لهذا الزميل الذي أحببته في الله أولا وفي الوطن، تونس ثانيا وفي غيرته على سلامة ونقاء مستقبل أجيالنا القادمة، الذي لم أتشرف بمعرفته شخصيا؛ وأتمنى على الجهات الرسمية أن تصغي له وأن تقرأ لأمثاله من الأكاديميين الذين تزخر بهم بلادنا من الذين لا غاية لهم إلا خروج تونس من أزمة شاملة، قد تزداد تعقيدا وتأزما إذا انفرد الحاكم برأيه " فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ"(8).
------------
1) سورة ق الآية 37
2) سورة الأحزاب الآية 53
3) صالح المازقي، مقال بعنوان: الانحراف المبيّت، جريدة الصحافة 15/01/2012
4) المصدر السابق
5) موقع بواتي 1/12/2011
6) صالح المازقي، مقال بعنوان: البطالة المقنّعة في تونس تطال الوزراء، جريدة الصحافة 01/01/2012
7) الثورة والدولة عن الدار المتوسطية للنشر ديسمبر 2011
*) راجع المقال المشار إليه أعلاه.
8) سورة النحل الآية 43 وسورة الأنبياء الآية 7
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: