د - صالح المازقي - تونس
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 8473
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
اخترت اليوم أن أتناول مسألة الثقافة والتراث في تونس قبل وبعد الثورة، بشكل بسيط، بعيدا عن التحليل الأكاديمي المثقل بالتّنظير، لا عجز بل من أجل أن تكون الفكرة أقرب إلى العقل وأنفذ إلى النّفس. ما دفعني إلى كتابة هذا المقال هو ذلك القاسم المشترك بيننا نحن "التوانسة" جميعا، إنّه حبّنا لتونس والدّفاع عن أصالتها وحماية هويتها التونسية، العربية، الإسلامية،؛ وليسمح لي الساهرون على الشأن الثقافي الرسمي في البلاد عن جرأة التّعبير وصراحة الفكرة وعذري في ذلك محاولة تفعيل الجانب الذي لا يزال ساكنا في الثورة... لأن في اعتقادي ثورة بلا ثقافة كجسد بلا رأس.
لقد وهب التاريخ ووضع بين يدي السّاهرين على هذا الشأن في تونس، فرصة فتح المقبرة الثقافية الجماعية التي دفن فيها النّظام البائد كل المبدعين التونسيين، من موسيقيين ومسرحيين رسّامين وكتّاب...الخ وواراهم التّراب كي يلّفهم النسيان، إلى جانب عادات وتقاليد هُمِّشَتْ وحُقِّرَتْ وآثار سرقت ونهبت. مهمة جسيمة في زمن هيمنت فيه الثقافة الغربية على كل ثقافات العالم، فتجذّرت عبر السّنين في لاوعي المجتمعات التّابعة، حتى أصابها الصَّغَارُ الذي نلاحظه في سلوكيات فردية وجماعية متنافرة، زادها تقلص الأطر المرجعية تشرذما.
لقد تغلغل نمط العيش الغربي بكل مكوناته في تصوراتنا الاجتماعية، التي تغذت عن مبادئه حتى التّخمة ونهلت من منابعه حتى الثّمالة؛ فغاب عنها الوعي وارتضت تحقير الأنا مقابل إعلاء الآخر. لقد استغل الغرب الشخصية المهتزة للتونسي، فمارس عليها سياسة الإكراه النّاعم لطمس (ولو بنسب متفاوتة) معالم ثقافة وتراث ضاربين في التاريخ، فتخلينا طوعا عن كل أولائك الذين أفنوا حياتهم في إثبات وجود قومياتنا وتثبيت هوياتنا من خلال إبداعاتهم الفنية والأدبية. لقد عملت الدولة الوطنية جاهدة في هذا السياق فاتخذت من التّشويش على الذاكرة الجماعية عقيدة ومن محو الرموز الوطنية من ذاكرة الأجيال منهاجا.
من البديهي أن الأمم لا تتقدم إلا إذا كان أصلها ثابت في الأرض، أرض الأصالة والهوية الواضحة وجذورها ضاربة في أعماق التاريخ من ناحية، ثم انفتحت بمقدار وتفاعلت بندّية مع ثقافات الآخرين من ناحية أخرى. ومن فضل الله علينا أننا في تونس نمتع بهذه الثنائية، فلنا من الأصالة دعامات متينة وثابتة، لا تنتظر إلا إزالة أكوام التّراب التي دفنتها تحتها سياسة تأليه الفرد وتحقير الجماعة. وليس من قبيل النّرجسية إن قلنا أننا شعب شديد التّثاقف، تأثيرا وتأثرا، قادر على المحافظة على ذاته، يطرد المستعمر ويقتبس من إيجابيات ثقافته وعلومه ما يرتضيه. الانفتاح والتفاعل أمران ضروريان ولازمان، إلا أنهما (برأيي) يبقى غير كافيين، ما لم نجد طريقة لإعادة التّوازن والتوازي بين الــ (نحن) والـــ (هم)، خاصة وأنّ (نحن) تشكو من علل كثيرة، تتطلب العلاج السريع غير المتسّرع، العقلاني غير المرتجل، للتخلص من الشعور بالنّقص أمام الغير.
ممّا لا شكّ فيه نّ هناك تراتبية بين الوزارات تصنفها إلى صنفين رئيسيين، وزارات "سيادية" ووزارات "لا سيادية" وللأسف الشديد، تندرج وزارة الثقافة خطأ في الصنف الثاني وهو تصنيف مجحف ينمّ على جهل عميق تفشى وانتشر بين الأقوام المتخلفة، فبنوا الحواجز بين إدارة الثقافة التي تسند عادة لمؤسسة حكومية وبين صناعة الثقافة التي تبقى حكرا على المبدعين.
لو قبلنا جدلا بأن مهمة وزارة الثقافة الرئيسية هي مؤسسة رسمية لإدارة الثقافة وإن كنت أرفض من حيث المبدأ هذا الرأي، لأننا عشنا في تونس طيلة ستة عقود فشل مأسسة الثقافة وشاهدنا ما انجر عنها من تدجين المثقفين وتسخير طاقاتهم الإبداعية في خدمة الديكتاتورية من ناحية والزجّ بالوزارة في تكريس سياسة تجفيف المنابع وتميّيع الناشئة من ناحية أخرى. لقد تورطت وزارة الثقافة منذ الاستقلال، في تصحّر المجتمع التونسي، فتحوّلت (أي وزارة الثقافة) إلى جرّافة هدم وردم بدلا عن رافعة بناء وتقدّم. فلو سلمنا (على مضض) بانحراف المؤسسة الثقافية الرسمية عن دورها في التنشئة الجماعية والمحافظة على تراث الأمة، فإني أرى أن الوقت قد حان لكي تراجع الدولة التونسية بعد الثورة سياسية البلاد الثقافية وترسم الوزارة إستراتيجياتها، مبادرة بالقطع مع ثقافة الاستبداد والفساد والإفساد أولا؛ وتأليه الحاكم (عادلا كان أو جائرا) ثانيا والعمل ثالثا على إحياء أعلام المجتمع ورموزه، لتصحيح مكانتهم في النّفوس على كل الأصعدة الوطنية والجهوية والعربية والعالمية.
من أوكد المهام التي تنتظر بهذه الوزارة "السيادية" هو القضاء على تصحر الحياة الفكرية التي أصابت البلاد والعباد، حتى تعود لتونس خضرتها ونضارتها، بتلميع أسماء علاها الصدأ وإعادة الاعتبار لأعلام الوطن (الأحياء منهم والأموات) والرّفع من شأنهم وجعلهم قدوة للمجتمع، يتنافس الكبير والصغير في بلوغ مرتبتهم السامية. وزارة الثقافة مدعوة أكثر من أي وقت مضى، أن تساعد التونسي على رفع رأسه إلى الأعلى وينظر إلى المستقبل بأعين الإنسان الحرّ احتذاء برموز وطنية (ولِمَ لا عربية وإسلامية)، تساعده في بناء شخصية فردية وقاعدية متكاملتان، منسجمتان مع حاضرهما، مستنيرتان بماضيهما.
لقد دفعتني الثورة التونسية لمراجعة عديد النظريات الغربية ومفاهيمها بالنّقد وفي مقدمتها النّظرية الماركسية التي جعلت من الاقتصاد والعمل بالساعد بنية تحتية ومن الثقافة والعمل بالفكر بنية فوقية. في مثل ظرفنا الرّاهن، يصحّ لنا (وقد أكون مخطئا)، أن نقلب المفهومين ونجعل "في تونس" من البنية التحتية، حاضنة العمل الثقافي بجميع أصنافه ومكوّناته، لنقيم ونبني عليها صرح البنية الفوقية. قد يكون في هذا الرأي شيئا من التّرف الفكري، الذي أعدّه ضروريا لإعادة صياغة المخيال التونسي الجماعي والفردي، لتقريب الشّقة بين أجيال متشضّية الرؤى، متوترة الأعصاب، متنافرة الأفكار ومتصارعة الأهواء.
في ظل الحرية والالتزام، أشعر بشيء من خيبة الأمل وأنا أتابع الشأن الوطني، أَنَّى يتمّ التركيز بكثافة على الصراعات الحزبية والتجاذبات السياسية، إلى جانب البحث المحموم على حلول اقتصادية لأزمة باتت أزلية، نتيجة تراكم الأخطاء التنموية على الأخطاء، عمّقها وقوع الثقافة في فخ السياسية الماكرة تعقيدا. لقد أصبحت الفرصة سانحة لتقول الثقافة على الملء كلمتها في التنمية الشاملة، وتفتك دورها في الفعل التاريخي بتبنّي وتأطير الفعل الثوري الذي انتصر على كل أشكال الخطاب. يتوجب على الثقافة التونسية أن تحمل للعالم نسيم ربيع ثورتها وشذى عطرها العبق، وهذا لن يتسنّى إلا بالخروج من سجنها الإيديولوجي وكسرها طوق التبعية الذي ضربه من حولها الاستبداد الداخلي والهيمنة الخارجية في ذات الوقت.
اليوم ينسل المجتمع التونسي من الأجداث، كذلك حال الأمة العربية، بعيون أبهرها نور الحرية، وضع لا يجب أن يطول زمنه، حتى لا نفقد الرؤية والقدرة على ضبط الوجهة الصحيحة التي تتطلب تضافر جهودنا في تحديدها؛ إلى الآن لا تزال الصحوة الشعبية منقوصة ما لم تتدّخل الثقافة وتفعّل آلية الحرية الفكرية وتدعو الجميع لقطع الخطوة الأولى على درب الديمقراطية في بعدها العملي.
تشكل وزارة الثقافة أهم مدرج للإقلاع الجماعي نحو التّقدم وإثبات الذّات، هذه الذّات التي تمتلك كل مقومات التّغيير بدأ من تاريخها الذي هو في حاجة لصياغة عادلة ومنصفة وصولا إلى حاضرها الذي لا يزال يحتاج إلى الرّعاية والتوجيه، للانطلاق في مستقبل يقوم على الكرامة والاستقلال.
ستبقى ثورتنا مشلولة إن تجاهلها المثقف، مصرا في تعاليه على رجل الشارع الذي تفوّق عليه بكل المقاييس في قلب الموازين والمفاهيم. الآن وفي هذه اللحظة التاريخية الفاصلة، يتحتّم على وزارة الثقافة والمحافظة على التّراث أن تلقي بثقلها في إعادة بناء الشخصية القاعدية التونسية في حيادية تامة، فتعمل في استقلالية على ردأ الصّدع بين المجتمع وثقافته من ناحية وردم الهوة بين المثقِف والجماهير التي بادلته الاستعلاء بالاستغناء.
إنّ الجمع بين طرفي المعادلة الثقافية أمر ملح وسبله متنوعة أهمها رفع الحصار السياسي على المثقف، كسر مقص الرّقيب على الإنتاج الثقافي مهما كان مأتاه، ما لم يخل بالحياء العام أو يخدش وجدان الشعب أو يسيء لقيمه ومعتقداته ويدعو للانحراف على ضوابطه. الثورة تبحث عن قيادة حكيمة وفي اعتقادي أن الوزارة ستتوصل إلى دعم نمط القيادة الجماعية الذي ابتكره ثوار تونس وتكّرس بالتالي هذا الإبداع الثوري الفريد.
طرق عديدة بإمكان "مؤسسة" الثقافة أن تتخذها لتدعم الحلم التونسي دون وصاية، لأنه لا وصاية على الحلم ولا رقابة. وهنا أتساءل دون تفلسف ولا تنظير، من أدخل "التوانسة" إلى التاريخ الحديث في الرابع عشر من جانفي إحدى عشر ألفين، حلم الواقع أم واقع الحلم؟ أ لم يسقط الحلم أقوى الدكتاتوريات العربية وأطاح بأكثرها قمعا ودموية وقطع رؤوس كل الأفاعي السامة في البلاد من غير زعامة ولا خطاب؟
لقد صادر الظلمة والطغاة حياة الشعوب ولكنهم عجزوا كما عجزت آلات بطشهم عن مصادرة أحلامها، فانتصرت بقوة الحلم وعزيمة الحالمين، إنها الحقيقة التي أذهلت الشرق فاستنسخها وأدهشت الغرب فانكب على دراستها. لقد أيقن الجميع أن الشعوب مهما قهرت لن تهزم ومهما قمعت لن تخضع ومهما قُتِّلَتْ لن تقتل ولن تموت مادامت قادرة على أن تحلم. لقد أسقط الحلم المدّنس (النّظام) بكل أوجهه الكارثية وحافظ على المقدّس (الدولة) بكل محاسنه وعيوبه، لا ينتظر إلاّ حاضنة ثقافية شاملة، ترعاه وتحميه وتنميه.
حلم الشعوب لا يحتمل الكذب ولا يمكنه إلا أن يكون صادقا وأمينا في تحقيق آمالها، فثقافتنا اليوم مدعوة إلى إرساء قيم الصدق والأمانة فَتُنَشِّئَ الأجيال القادمة عليها وتُؤَهَلَّهَا لدخول منافسة الثقافات الكونية وهي واثقة من نفسها، قادرة ومقتدرة على انتزاع مكانتها بين الأمم والاضطلاع بدورها في مسيرة الإبداع الإنساني ورفع تحدّي صراع الحضارات دون أن تهزم وتموت فتقبر ويلفها لنسيان.
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: