فوزي مسعود - تونس
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 11033
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
ما انفكت الثورة التونسية تسجل التفرد في العديد من الجوانب، من ذلك طبيعة طيف الجهات المضادة للثورة، إذ أبان الحراك بتونس عن جوانب تخص أطرافا تواجدت في خضم التحولات وبالتحديد تلك التي طالما مثلت أدوات تكريس حالة الإعاقة التي شلت بلادنا طيلة عقود، وهي أطراف وإن بدا أنها متباينة ظاهريا فإنها تتحد موضوعيا في رفض مآلات الثورة التي تقول بوجوب اقتلاع كل عوامل إنتاج وإدامة حالة التبعية الثقافية والفكرية، وعوامل استغلال التونسي، وتسطيح أبعاده لبعد مادي يتيم يقع من خلاله التحكم في الفرد وتوجيهه.
عوامل تعطيل الثورة تستمد قوتها من تشعب الأطراف الخائفة من تقدم مسار التاريخ نحو الأفق الرحب، ثم من تنوع منطلقاتهم، وهذه إحدى تفردات الثورة التونسية.
فالذين يتحركون في مسار الثورة المضادة ينضوون في طيف واسع يبدأ من اليمين حيث مرتزقة الدين كالمفتي وعموم أئمة المساجد الذين طالما مثلوا أدوات نظامي بورقيبة وبن علي في تشريع الواقع من خلال التلاعب بنصوص الإسلام، وينتهي إلى أقصى اليسار حيث محترفو العبث خارج التاريخ وهواة تصريف فائض الطائقة في ما تيسر من اللغو كرفع رايات ستالين ولينين.
وبين الطرفين يتواجد كمّ كبير من عصابات التوجيه الفكري الذين مثلوا أدوات الأنظمة السابقة في عمليات الاقتلاع والإلحاق الثقافي، ثم يوجد كذلك مبدعو طقوس غسيل المخ الجماعي من الذين تحكموا في المنظومة الإعلامية التي عملت بسطوة وبإبداع كبيرين على تكريس الواقع من خلال مكر الليل والنهار المتصل، ويليهم لوبيات الفساد المالي والاقتصادي.
كل هؤلاء انبروا في رد فعل منفعل منفلت أحيانا ومحكم أحيانا أخرى، بعد خسارتهم في الانتخابات واستشعار رفض التونسيين لهم، ردود فعل متوترة جاوزت المدى حد الانتقال لمراحل متقدمة من العمل المادي الذي يعمل على إدخال البلاد في حالة الفوضى، ولسان حالهم يقول عليّ وعلى أعدائي.
وقسم هؤلاء الخائبون الفاشلون الأدوار، وهو في مساعيهم الرافضة لاختيار التونسيين الممثلة في الانتخابات، لا يزيدون إلا أن يؤكدوا على حقيقة أنهم لازالوا كما عهدوا مجرد عوائق ضد مصالح التونسيين، وإنهم بما يفعلون إنما مثلهم مثل من يريد وقف سير القطار المسرع، وهم في ارتباكهم ونعيقهم المتصل أبدا إنما مثلهم مثل الغربان حينما تستشعر دنو أجلها وإقبال الصبح بعد إدبار الليل، نعيق الغربان الخائبة المشفقة من النور والعمران وهي التي طالما استئنست بالظلام والخراب، الغربان الخائبة المرتجفة من العفة والنظافة والألق وهي التي طالما ارتزقت من السحت والعفن وجيف الكلاب.
إذا كان مفهوما أن يكون رؤوس هذه الأطراف هم عموما سقط متاع المجتمع وأراذلهم، فإنه لايفهم كيف يقع التغرير بالبعض من عموم الناس حد الانضمام إليهم في تنظيماتهم التي تشبه كل شيء لا ان تكون تنظيمات حزبية، لا يفهم كيف يسمح البعض لنفسه مثلا داخل النقابات أن يكون حطب معارك يقودها هؤلاء بعدما عجزوا على المواجهة بالمجتمع، علما أن النقابات تعد من ضمن الملاذات الأخيرة المتبقية لهؤلاء، وذلك لاعتبار تاريخي موضوعي حيث أنفرد هؤلاء بتلك المؤسسات بعدما خلا لهم الجو إبان عقود تسلط الأنظمة المتعاقبة على التونسيين وتحالفهم هم معها في تلك المواجهات، فانفردوا بالأمر ليبيضوا ويعششوا هناك ويكتسبوا القوة التي يستعملونها اليوم لقيادة أخر معاركهم واستهلاك آخر خراطيشهم، مستغلين براءة البعض ممن لازال على قدر معتبر من السذاجة بحيث يصدق شعارات هؤلاء في الدفاع عن المحرومين كما يزعمون.
على المنخدعين بمزاعم الذين يريدون إحراق البلاد أن يعرف أنه إذا كان الغراب دليل قوم، مرّ بهم على جيف الكلاب، مثلما يقول البيت الشعري المعبّر، فهؤلاء المناكيد لايمكن أن يرى منهم خير أبدا، فهم لم يعرفوا ابتداء مصالح أنفسهم، فأولى أن يعجزوا على أن يكونوا قدوات لغيرهم.
ثم إن هؤلاء وخاصة منهم الذين يعيشون خارج التاريخ ممن يتسمى بمسميات اليسار، ماعرفهم الناس إلا طفيليات لايكادون يعرفون للنشاط المنتج طريقا، ولولا القطاع العمومي الذي تواجدوا فيه بكثرة حين تحالفهم مع الأنظمة السابقة وعششوا فيه وكونوا لوبيات داخله يستظل بها عموم المنتمين لليسار، لكان هؤلاء رافدا مهما على جحافل المتسولين، لأنه يكاد من المستحيل أن تجد يساريا طفوليا يقدر على أن يكون عاملا منتجا في القطاع الخاص. هؤلاء قوم ابتليت بهم مجتمعاتهم، أناس لايعرفون إلا اللغو وتمضية الوقت في البطولات الوهمية، وهم لايكتفون بذلك بل إنهم يريدون جر الناس قصرا لمستواهم المنحدر حيث يقبعون هانئين في الوهم.
ومن المفارقات أن وجوه الشؤم هؤلاء رغم أنهم أشد الناس إسرافا في استهلاك مصطلح النضال، فإن أغلبهم لا يكاد يعرف للنضال طريقا إلا أن يكون النضال في حانات العاصمة، حيث لهم جولات بين تلك الحانات الشعبية ومراحيضها، وهي على الأرجح الأماكن الأشد حميمية لدى مناضلي جماعات اليسار.
على أن بعضهم يجاوز ذلك لصيغ نضالية حداثية أخرى حيث جسد الرفيقات مشاعا عاما، وحيث المرأة لدى هؤلاء الشراذم لا يوجد أرخص منها بما في ذلك الداعرات، وهذا ما يفسر تكاثر الذباب داخل قطعان اليسار.
بقي القول أني وإن كنت غير متأكد أن عموم جماعات اليسار يملكون فضيلة أو شيئا مما يرفع من شأن الفرد، فإني متأكد أن هؤلاء يملكون قدرا كبيرا من الحظ أن جعلهم تحت حكم حركة سياسية تنتمي لفصيلة الرخويات.
حركة تستمد مفاهيمها من ثقافة الخيبات والهزائم، ثقافة تستمرئ الذل والخنوع وترى أن ذلك قوة، وتستلذ الضرب والتعدي عليها وترى أن ذلك صبرا تجازى عليه لدى رب العالمين كما تزعم، ثقافة ترى أن العبرة بالنيات وليس بالنتائج، ثقافة تحبذ الرخاوة ولاتعترف بالشدة، ثقافة تفضل التسيب ولاتعترف بالصرامة، ثقافة تعمل على إرضاء كل الأطراف إلا الذين ينتمون لنفس الصف، ثقافة تعمل على إرضاء الغرب والعلمانيين واليساريين ولكنها تنسى إرضاء المسلمين الملتزمين أبناء صفها، وهي الثقافة التي كان من نتائجها عقود من المراوحة في نفس المكان وآلاف من المعذبين والشهداء والأسر المفككة حينما قادت في تونس ومصر، حركات مشبعة بمثل هذه الثقافة المنهزمة أمام الواقع، المواجهات مع الحكام المتسلطين.
إذن على فلول اليسار أن يفرحوا أنهم بمثل حالهم الآن، لأنه لو كان الوضع غير الوضع لما كان لهاته الكائنات مكان داخل تونس، فهؤلاء سيكونون في أفضل الحالات في السجون وفي المحاكم هذا إن وجدوا أصلا، فضلا على أن يكونوا على ماهم عليه الآن من منعة وجرأة على التونسيين، إذ يقطعون عليهم مسار ثورتهم، ويعملون على إعاقتها.
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: