لم ترق للأسف نقابة قوات التدخل مرة أخري إلي مستوي هذه الثورة، ولم تدرك للأسف سماحة هذا الشعب ونبله، تناست قوات التدخل بسرعة ماضيها المضرج بدماء الشهداء وآهات الجرحى. ففي مثل هذه الأيام من السنة الفارطة كانت هذه القوات تخوض حربا بالوكالة للمخلوع في سيدي بوزيد والرقاب وتالة وكامل تونس لقمع ثورة التونسيين،وكانت متفانية في تطبيق الأوامر والتعليمات، وهي كما يعلم القاصي والداني، تعليمات للقتل والقمع وهتك الأعراض،دون رحمة ولا شفقة.استماتت طيلة شهر كامل في الدفاع عن رئيس،ولن تكل ولن تملّ،حتى فوجئت بالمخلوع يهرب عن طريق وكالات الأنباء.
هاهنا، تبدل الخطاب وتغيّرت اللغة حين انتصرت الثورة، فكان الحديث عن المصالحة ونسيان الماضي، ماض كانت فيه قوات التدخل والداخلية سيفا مسلولا علي الشرفاء والمناضلين والبسطاء، وتعالت الأصوات من داخل المؤسسة الأمنية المطالبة ببناء علاقة جديدة بينها وبين الشعب، وتبقي مسيرة قوات الأمن أمام مقر الداخلية الرافعة لشعارات التطهير من العلامات المشجعة لبناء أسس قوات امن جمهورية تخدم مصلحة الشعب والبلاد فقط.
لكن هذه الشعارات اصطدمت بواقع أخر،بدت فيه الشعارات المرفوعة بعيدة عن واقع،تميّز بغياب المؤسسة الأمنية غير المبرر، وانسحابها المفاجئ من الشارع، ودخولها في مطالب قطاعية، لم تخرج عن الزيادة في الأجور ورفض المساس بالمؤسسة الأمنية العتيدة. وهاهنا بدت صورة فرحات الراجحي المحاصر في مكتبه في الوزارة،علامة استفهام كبري حول مايدور في هذه المؤسسة وإرادة الإصلاح الحقيقية فيها.
وبقينا طيلة تلك الفترة،نستمع لحكايات عجيبة عن شهداء قوات الأمن أثناء الثورة،ونري قصص اقتحام مقر المحكمة في سوسة لإخراج زميل،ووقفات احتجاجية ضد المساس بمؤسسة الداخلية من خارجها. ولم يكن الملاحظ بقادر علي تبين مايحصل وأبعاده بسبب التعتيم علي المعلومة. لم نفهم سر خروج الناطق الرسمي للداخلية،وحقيقة اتهامه لبعض النقابات بخدمة مصالح ضيقة ؟ ولم ندرك سبب حنق الباجي قائد السيبسي عن نقابة الداخلية واتهام البعض منهم بأوصاف جارحة ؟.
الآن، وبعد تشكل حكومة شرعية صعدت بإنتخبات نزيهة شهد العالم كله بذلك، نعجز عن فهم غضب نقابة قوات التدخل وقرينتها من إقالة مسؤول متهم في ملف قتل الشهداء، هل بلغ التعصب الأعمى للسك الوظيفي هذا المبلغ ؟ لماذا تريد البعض من هذه النقابات تحريك جراح بليغة لم تندمل إلي الآن ؟ هل بلغ الاستهتار بالثورة وشهداءها في ذكري نزيف دمائهم الأول هذا الحدّ؟.
لم يكتب فيلسوف الهرمييونطيقا الأبرز بول ريكور كتابه “ضد النسيان” عبثا، فالرجل أدرك قيمة القصص والسرد في إدراك الزمن واستعادته، ومشكلتنا في تونس أننّا لم نسرد قصص الثورة، ولم نحتفل بيومياتها، ولم نلتفت إلي خطورة عدم تدوين بطولات الشهداء وتفاصيل الغدر بهم باسم التعليمات، ذاك هو خطأ نا الذي منح للبعض من هذه النقابات أن تدافع عن القتلة وليس عن المظلومين المغدورين برصاص أبناء سلكها، تناست قيّم الأخلاق والحق وانتصرت لقيّم الوظيفة وحسابات القطاع الضيقة في ذكري الثورة الأولي.
تلك هي مأساة بعض نقابات الداخلية، مازالت تحنّ للتعليمات في زمن الحرية التي منحها لهم الشهداء بدمائهم التي أوغل فيها البعض من أبناء سلكهم قنصا وقتلا. وهي للأسف لم تدرك حقيقة الثورة ومساراتها، بقيت أسيرة حسابات ضيقة، ولم ترتق في زمن ملتحف بالرمزية مازالت ذاكرته طريّة بحكايات الثوار والشهداء، إلي مستوي الاحتفال الأول بثورتنا.
وقفت عبثا، حانقة متوعدة، بالويل وبالانسحاب من الشارع، نقابة عجزت أن ترسل إشارة رمزية في زمن رمزي. كنّا نوّد أن نحتفل معا بإقالة أحد المتهمين، وننشد معا أهازيج الثورة، ولكن عبثا نحلم، عزاؤنا أن قسما كبيرا من أعوان الداخلية انضم اليوم أمام مقر ها رافعين شعارات ” لأحد فوق المحاسبة ”،ملتحمين بالمتظاهرين المساندين لقرارات وزير الداخلية.
وتبقي في الأثناء نقابة قوات التدخل،تحلق خارج التاريخ والجغرافيا، لم يبق لها إلا التهديد بالانسحاب من زمن رمزي يبدو انّه حسم فيها مع شرفاء الداخلية. إنّه زمن الولاء للثورة والوطن وليس للسلك والتعليمات والقيادات. ألم نقل سلفا إنّه الاصطفاف الخاسر.
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: