د - صالح المازقي - تونس
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 8384
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
في مناخ اجتماعي وسياسي غير مستقر، تكثر الإشاعات بين العامة لأسباب مختلفة، تحت مسميات متنوعة، لعل أهمها ما يطلق عليها التّسريبات الإعلامية، التي تصل مسامع الناس من حين لآخر. ومنذ يوم الجمعة 16/12/2011 تناهت إلى مسمع الرأي العام التونسي تسريبات إعلامية، أكدتها بعض المحطات الإذاعية[1] حول القائمة الاسمية للتّشكيلة الحكومية المرتقبة في تونس، التي تضمنت (41 وزيرا وكاتب دولة) على رأسهم السيد الوزير الأول موزعين كالتالي (29 وزيرا و12 كاتب دولة ) إلى جانب (4 وزراء مستشارين على قائمة الانتظار)،. بهذا العدد جاءت أول حكومة ائتلاف أفرزتها التروكيا الحزبية الحاصلة على الأغلبية داخل المجلس الوطني التأسيسي التونسي، منتبجة و"معششة".
بعد أن تأكد الخبر الذي أتى معاكسا لمَ استبشرنا به خيرا، انتخاب أول رئيس تونسي لعهد ما بعد الثورة، كان ذلك رغم بقايا شعور دفين من الرّيبة، قابع في أعماق العقل الجماعي الباطني للتونسيين لعقود من طويلة الزمن. لم تمضي أيام قليلة عن هذا الانتخاب التاريخي الذي شكل في حدّ ذاته حدثا سعيدا وعلامة جادة على انتقال البلاد من عهد الاستبداد والخوف إلى عهد الطمأنينة والديمقراطية.
من حيث لا نشعر أمطرنا وابل من التساؤلات حول هذا العدد المتضخم لوزراء حكومة وريثة نظام حكم تميّز بالفساد، خلّف وراءه تركة سياسية واجتماعية واقتصادية وثقافية مثقلة بالهموم والمشاكل المتنوعة. أبرز تلك الهموم على الإطلاق، خزينة عامة شارفت على الإفلاس، أنهكتها الرشوة وسرقة المال العام. السؤال المحوري والمشروع الذي يطرح نفسه على الدّاني قبل القاصي هو لماذا هذا التّورم الحكومي، ممثلا في عدد ضخم من وزراء وكتّاب دولة وما يتبعهم من جيوش رؤساء الدواوين والمستشرين والمكلفين بمهام... الخ؟ ثم أسئلة فرعية لا تقل أهمية عن السؤال الرئيسي تفرض على الدّارس نفسها تطلب أجوبة، متروية وموضوعية، بعيدا عن الانتقاد المغرض والمعارضة غير المسؤولة، خاصة إذا صدرت عن باحث مستقل، غايته الوحيدة سلامة المجتمع وتأمين روع المواطنين من مستقبل وردي (أكثر من اللازم).
لنا أن نتساءل أولا عن ماهية المهام المنوطة بهذا العدد المتضخم للوزراء؟ ثانيا، هل يسمح الوضع الاقتصادي للبلاد بمثل هذه النفقات الهائلة، والأعناق مشرئبة، في انتظار أولى خطوات تنمية مناطق الظل لإخراج شرائح من إخواننا لم تعرف من الدنيا إلا الفقر والبؤس والتعاسة؟ ثالثا أليس من التناقض أن تخصص ميزانية، داخل الميزانية العامة للدولة وعجلة الاقتصاد معطّلة؟ رابعا هل يعقل أن يتحمل ناتج قومي خام ضعيف ونسبة نمو عام هي عمليا على خط تماس "الصفر بالمائة"[*]، أجورا تقدر بمئات الملايين وشباب الثورة، المنتشر على كامل تراب الجمهورية، يعاني البطالة بكل أصنافها وآلامها الاجتماعية والنفسية...؟
في هذا السياق، لعل الحكومة الجديدة تريد أن ترسل لكل العاطلين ومعهم جميع الشرائح الاجتماعية المحرومة رسالة، مفادها لستم وحدكم، ها هي البطالة المقنّعة تطال الوزراء الذين يقاسمونكم مآسي الظاهرة، يتعاطفون معكم ويشدّون أزركم و(حمل الجماعة ريش)[**].
لمن لا يعرف ما معنى البطالة المقنّعة نقدم أبسط تعريفاتها باعتبارها " وضعية دون الاستخدام الأمثل لقوة العمل "sous-optimisation de l'emploi"، تحجب بطالة هيكلية"[2]. لمزيد الدّقة العلمية، نقول أنّ المصطلح يطلق على فئة من المنتدبين للعمل ليكونوا زائدين عن الحاجة الفعلية للمؤسسة أو الإدارة، يتقاضون أجورا أعلا من أجور أمثالهم (ليس لهم مثيل في هذه الحالة) ولا يؤدون خدمة مقابلة أو موازية لرواتبهم. تشكل هذه الشريحة (الزائدة عن حاجة العمل) نواة البطالة المقنّعة، التي يؤثر وجوها سلبا على ميزانية المؤسسة ويؤثر غيابها إيجابا على إجمالي الإنتاج؛ لعدم تموضع المنتدبين (الزائدين على الحاجة) في مراكز عمل خارج تخصصاتهم العلمية، بعيدة ومخالفة لمؤهلاتهم المهنية.
بفضل التشكيلة الحكومية الأولى للثورة التونسية، أصبح لدينا نحن التوانسة (وزيرا لكل 254066 مواطنا) تونسيا، وهي نتيجة قسمة العدد الجملي للسكان (10.673.800 نسمة)[3] على عدد أعضاء الحكومة (42 وزيرا وكاتب دولة)؛ في حين أن في فرنسا مثلا (65 مليون نسمة)، تفيد الإحصائيات بوجود وزير لكل (1.911.765 مواطن) باعتبار أنّ عدد أعضاء الحكومة الفرنسية لا يتجاوز (33 وزيرا وكاتب دولة على رأسهم وزيرا أولا)[4].
في هذا التّوجه، بحثنا في علوم التنمية السياسية والبشرية وفي مختلف مؤشرات التّقدم عمّا يفيد أنّ علاقة (عدد المواطنين إلى عدد الوزراء) هو من المؤشرات الفارقة بين التقدم والتخلف؛ وللأسف الشديد لم نعثر على مثل هذا المؤشر.. لعله سهو "لا يغتفر" من قبل خبراء الاقتصاد الدوليين، كان الأجدر بأولائك الخبراء إدراج هذا المؤشر ضمن حزمة المؤشرات التنموية؛ حتى لا يقع البعض في الحرج، فلو كان الأمر كذلك لمَ كانت حالنا كذلك؟
أما عن دوافع تعيين وزراء حكومة الثورة فهي برأيي مختلفة ومتنوعة، تتراوح بين المحسوبية والضغوطات الشخصية التي يمارسها هذا أو ذاك على الوزير الأول ومن يتخفى وراءه، مرورا بالتّرضية والمزّية والقرابة. توحي التشكيلة الحكومية الجديدة بميلاد (عصبية إتنو-مالية)[5] في ثوب جديد وتحالفات أكثر تطورا وتعقيدا بين فرقاء لا يجمعهم إلا حبّ الوطن... بطالة وزرائنا المقنعة، لا تسجلها الإحصائيات الرسمية حتى لا تشوّه الأرقام ولا تعرقل مسار العملية السياسية من ناحية وحتى لا تبدو عبئا ماليا يثقل كاهل الدولة بنفقات إضافية غير مبررة من ناحية أخرى...
ترى العلوم الاجتماعية في البطالة المقنّعة، أهم دليل ملموس على تضخم النّزعة الذّاتية في تسيير الشأن العام، تحركه ميكانيزمات خفية، قائمة على الرّوابط الأسرية والقبلية والجهوية والحزبية والإيديولوجية، لتحدّد مع الأيام ملامح طبيعة الحكم في المجتمعات المتخلفة. أما العلوم الاقتصادية فتجعل من الظاهرة أبرز عوامل التّخلف الاقتصادي الذي ما انفكت المؤسسات الدولية المانحة، تعمل على تطهير الاقتصاديات المتأزمة منه. في هذا السياق الإصلاحي، فُرِضَتْ الخوصصة على حكومات بلدان العالم الثالث، للتخلص من مؤسسات وطنية/متعثّرة. فهل ستتدخل تلك المؤسسات لتخليص الحكومة من البطالة المقنّعة؟.
هل سَتَعُدُنَا المؤسسات المانحة، مستقبلا، من بين البلدان المتأزمة والحكومة الجديدة تنفق بسخاء وتبعثر المال العام على الأهل والأصحاب والحلفاء وعلى كل شيء لا يعود بالفائدة والنّفع على المجموعة القومية إلى حدّ التبذير الذي يجعل من أصحابه، إخوان الشياطين "إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا"[6].
لقد سجل التاريخ ثورة التونسيين تحت عنوان ثورة على الفساد والمحسوبية والموالاة وها هي "حليمة تعود إلى عادتها القديمة"[*]، فمنذ ضربة البداية، انطلقنا من حيث انتهت إليه الكرة في التّسلل... لكنّ "الماتش" متواصل والمنافسة على أشدّها لتقاسم الغنائم بين لاعبين جدد .. يبدو أن اللعبة السياسية لم تتغير، عدى وجوه اللاعبين الذين دخلوا " في غفلة من الثوار"[**] إلى أرضية الملعب القديم/الجديد، ليتنافسوا (في تحالف وتراض) على تعويض ما فات... أذّكر كل من تساوره نفسه بتجاهل العهد الغليظ الذي قطعه الثوار على أنفسهم (ولن ينسوه)، بعد أن وثّقوه على جدران الوزارة الأولى أيام اعتصامهم الأول والثاني، حتى أسقطوا حكومة السيد "محمد الغنوشي" في السابع والعشرين من شهر فيفري سنة إحدى عشر وألفين " وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا "[7].
بأي وجه ستقابل حكومة التحالف الثلاثي "800 ألف" عاطل عن العمل ورؤوس أموال محلية ومستثمرين أجانب، انطلت عليهم (حيلة) إفلاس الدولة التونسية؟ لم يبق مجال للثقة في نفوس هؤلاء المستثمرين (المشِّغلين المحتملين) والرّاغبين في مدّ يد المساعدة للثورة التونسية، في الوقت الذي تسجل فيه حكومتها رقما قياسيا في الضخامة والفخامة ودفع أجور 42 وزيرا وكاتب دولة، من أجل إرضاء ونيل رضاء زيد والعطف والتعاطف مع عمرو، فإن حضر التوازن السياسي في تشكيلة الحكومة فقد غاب عنها التّعقل واحترام رغبات الجماهير. تشكيلة حكومية لم تسبقها (عدديا) أية تشكيلة حكومية لا في عهد الرئيس الراحل "الحبيب بورقيبة" ولا في زمن الرئيس المخلوع "زين العابدين بن علي". هل هذا تواصل مع المنطق الثوري وتجسيدا لرغبة الثوار، أم هي قطيعة صريحة مع كليهما " والله ينصر من صبح"؟.
كان أملنا أن تخرج علينا حكومة ائتلاف ووفاق وطني مضيّقة، حكومة تقشف وكبح جماح النفقات العامة "غير الضرورية"، في زمن تعصف فيه أزمة ركود اقتصادي عالمي وأزمة مالية تهدد أقوى الاقتصاديات بالإفلاس. لم تتوقف الأنباء العالمية عن نقل أخبار مؤتمرات ومنتديات يحضرها رؤساء الدول الثمانية (G8)، الأغنى في الكون، بحثا عن حلول تنقذ حكومات من السقوط (وقد سقطت فعلا في اليونان) ودول من الإفلاس (كإسبانيا وإيرلنذا) وتكتلات إقليمية من التحلل (الاتحاد الأوروبي) وتحالفات مالية من التّفكك (منطقة اليورو)، التي شرعت حكوماتها في انتهاج سياسة التّقشف، بما فيها فرنسا وإيطاليا وانجلترا. كل هذا لم يدفع بالمسؤولين الجدد في تونس إلى توخي العقلانية والابتعاد عن العاطفة، في التّعامل مع الشأن العام المتأزم، فيقدموا على تشكيل حكومة ائتلاف ونفاق، ضاربة عرض الحائط بكل تعهداتها، مما قد تعيد الثورة "لا سمح الله" إلى مربعها الأول.
إن الإفلاس الحقيقي ليس إفلاس "كاسة الدولة" وليست الأزمات الحقيقية هي الأزمات السياسية والاقتصادية، بل الإفلاس الحقيقي هو إفلاس النّفوس؛ والأزمات الفعلية هي أزمات الرؤى الصحيحة والقدرة على رسم خطط، ممكنة، تتعامل بالحكمة مع القضايا المصيرية للشعوب. لم يُسْقِطْ جوع الأهالي ولا فقرهم ولا حرمانهم نظام "ابن علي" ولم تكن البطالة محور الثورة التونسية، بل كانت كرامة الشعب هي الثائر الحقيقي على كل مظاهر الفساد؛ في الوقت الذي صادفها ضيق أفق الحاكم وتركيز كل جهده على حماية نفسه وحاشيته ومغانمهم... الحكم والمغنم، ثنائية حذّر منها "ابن خلدون" في مقدمته واعتبرها بداية الظلم، المؤذن بزوال الحكم؛ ومن المؤسف أنّ الثنائية لا تزال تسيطر على منهج العمل السياسي في تونس والذاكرة الجماعية لا تزال تنزف... فهل من مدّكر؟...
التونسي صبور بطبعه... مهادن حتى النّخاع من أجل التأقلم مع وضعه بحلوه ومره... التونسي لمن لا يعرفه، شديد الذّكاء الاجتماعي في سبيل تصريف شأنه وأمثاله الشعبية مثل "سلكها تسلك" و"دز تخطف" تشهد على ذلك. أما اليوم فأصبح حريصا على حقّه في العيش الكريم بعد أن قدّم جسده وروحه ثمنا لاسترجاع كرامة مهدورة؛ ولا أظنه مستعدا للتّنازل عنها، بعد أن رسم بالخطّ العريض وبلون الدّم القاني، عتبة لن يسمح لأقدام كائن من كان أن تدوس عليها.
اتقوا الله يا حكّام تونس الجدد في شعب لم ينعم بالحرية والاستقلال منذ الاستقلال. لا تنحرفوا بــ (الثورة سلبا) بعد أن (انحرفت إيجابا) واجعلوا من أمره تعالى قاعدة حكمكم "إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا "[8]. لقد أصبح الحكم في تونس بعد الثورة أمانة يودعها المجتمع من أراد أن يتحمّلها خدمة لأصحابها. كما اقترنت الأمانة بالحكم، فإنّ السيادة اقترنت بخدمة المجتمع ولن يترك الأحفاد ولا الأجداد ولا الآباء من تحمّلها، إن ضل السبيل حتى يلحقوا به لعنة "Dégage" ليقبع في زوايا التاريخ المظلمة مذؤوما، مدحورا مع من سبقوه بظلمهم واستبدادهم وفسادهم.
شعب تونس اليوم يئن تحت وطأة الخصاصة وشبابها في بحر من اليأس، تونس في أمس الحاجة لحلول تشاورية، تؤمن للمجتمع كل دينار، بل كل مليم، لرفع الضيم على الأهالي ويعيد الأمل لعاطلين/متميّزين سيزداد يأسهم من عدل موعود قد لا يتحقق، فيدفعهم ليكفروا بمساواة بدأت تتجسّد بين متحالفين من أجل الجاه والسلطان فتتقاسموا مناصب سوف لن يبقى منها إلا سؤال بين يدي الله.
لا تحبطوا جيلا فضّل الموت على الحياة، في لحظة بقي غيره مع الخوالف. عيون الحاضر ترقب مستقبلا زاه، يضمن لكل التونسيين، ذكورا وإناثا، إنسانية لا تتحقق إلا بالعمل؛ وعين الرّقيب والرسول والمؤمنين ترقب أعمالكم "وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ"[9]؛ وجنّبوا البلاد وأنفسكم فتنة "لا قدّر الله" قد لن تبقي ولن تذر، " وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ"[10].
------------------
1) Mosaïque. FM 21/12/2011
* ) تصريح السيد رئيس الجمهورية في كلمة التّنصيب 14/12/2011.
** ) مثل شعبي تونسي.
2) موسوعة ويكيبيديا.
3) المصدر:المعهد الوطني للإحصاء. 2011
4) بوابة الحكومة الفرنسية
5) مفهوم أطلقه الكاتب لأول مرة في مؤلفه: ثورة الكرامة، ص: 70
6) سورة الإسراء، الآية 27
*) مثل شعبي تونسي.
** ) في كتاب ثورة الكرامة كنت قد حذّرت من غفلة الثوار والفراغ كأحد منزلقات الثورة التونسية، ص:87 وص: 91
7) سورة الإسراء، الآية 8
8) سورة النساء، الآية 58
9) سورة التوبة، الآية 105
10) سورة الأنفال، الآية 25
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: