فوزي مسعود - تونس
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 11267
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
رغم وقوع الثورة وانجاز الانتخابات، فإنه قد كتب علينا نحن التونسيين أن لا ننعم بثورتنا وبإنجازاتها، لقد ابتلينا من دون كل العرب برهوط زرعت بيننا منذ الاستقلال، أفسدت علينا أمرنا وأحالت أفراحنا أتراحا حينما أردنا أن نبتهج بثورتنا، هؤلاء الذين خسروا مناصبهم وامتيازاتهم بعد الثورة، هؤلاء الذين يرتعدون من أن تطالهم المحاسبات، هؤلاء الذين يمثلون نماذج متميزة للمنبت عن واقعه الكاره لذاته المنفك عن لغته ودينه، هؤلاء الذين لشدة تطرفهم في محاربة هويتهم جديرون بان يكونوا حالات دراسية، هؤلاء هم الذين يتحدون الآن لبث الفوضى وإثارة الشبهات في كل أركان البلاد، هاته القطعان التي لايجمعها جامع اتحدت الآن لاتحاد هواجسها في الرعب من مآلات الثورة كالخوف من فقدان المناصب والخوف من نضوب التمويلات التي طالما قدّت على حسابهم.
شراذم اليسار الانتهازي الفرانكفوني تتحالف الآن مع فلول "التجمع" المنحلّ، وتتلاقى مع نسوة منبوذات اجتماعيا أكثرهن مفكك الأسرة لم يجدن من شاغل يملئن به فائض الوقت لديهن من بعد أن لفظتهن العلب الليلية والحانات وتعالت عنهن نزوات الرجال، غير احتراف العبث وإخراج ذلك في شكل نشاط منظمات مشبوهة يزعم أنها تنتمي للمجتمع المدني.
هؤلاء الذين يبدون لسبب ما مولعين بموهبة التباكي، وهم يفلحون في ذلك أيما فلاح أين منه بكاء الثكالى واليتامى، يصرون على التحرك في الوقت الضائع من التاريخ، ولا يريدون ولعلّهم لايستطيعون التفطن للواقع الجديد، هؤلاء يأبون فهم حقيقة أن وجود أمثالهم، يمثل خطآ تاريخيا مرت به بلادنا، وأن ذلك كان قوسا فتحه سيئ الذكر بورقيبة، وقد أغلقت الثورة ذلك القوس، وجدير أن تندثر وتنقشع عن وجوهنا نحن التونسيين كل المحتويات العفنة لذلك القوس ومن ضمن ذلك هؤلاء المناكيد أنفسهم من حيث أنهم ظاهرة وأداة لإنتاج وتكريس التبعية.
المسائل المطروحة
وهؤلاء البكاؤون المتحدون الذين نصبوا أنفسهم أوصياء على التونسيين، يتناولون كل ما يمكن أن يثير الاهتمام لدى الغرب، وما يمكن أن ينتج لغطا لدى وسائل الإعلام بتلك الدول لكسب التأييد وإدامة ذكرهم خوفا من أن يطالهم النسيان من بعد أن طالهم الرفض الشعبي.
وتتركز مجمل تحركاتهم في مايقولون انه دفاع عن حقوق المرأة وصون للمكاسب الحداثية بزعمهم، وهم يقصدون بذلك بعض المظاهر محل الرفض الاجتماعي، من ذلك فإنهم يدافعون عن الزانيات ويطالبون بتشريع وضعياتهن ويعقدون لذلك الندوات والتجمعات، ويدافعون عن التعري ويقولون ان ذلك من مقومات الحرية الفردية التي يجب صونها.
كما إنهم من منطلق حرصهم على حقوق المرأة من وجهة نظرهم فإنهم يوشكون أن يحرقوا الأرض وينزلوا السماء من الأعلى أن لبست طالبة نقابا، إذ يرون أن ذلك يمثل تهديدا للمكاسب الحداثية للمرأة بتونس.
وهم حين يشتد النقاش مع مخالفيهم ممن يقول بإعادة النظر في العديد من التشريعات بتونس والتي يرون فيها مما يخالف هويتهم، وحين تعجزهم الحجة فإنهم يتكؤون على حائط الدفاع المتمثل في القول بأن ماحصل طيلة خمس عقود بتونس هو مكسب حضاري لا يجب التراجع عنه مهما كان، وحينما يواجهون بالقول بأن التونسيين هم الذين يطالبون بإعادة النظر فيما يخالف عقيدتهم ولغتهم وهم بذلك ليسوا موافقين بان الواقع المراد تغييره يمثل مكسبا حضاريا والا لما طالبوا بتغييره، يكون ردهم ان ذلك مرفوض بدعوى معارضته لمنجزات تونس التي تفتخر بها بين الدول، وأن ذلك أصبح من الخطوط الحمر.
ثم إن هؤلاء البكاؤون يتحركون في مجالات أخرى، من ذلك مسائل مايقولون انه دفاع عن حرية الفن والإبداع، وإذا ماقال لهم الناس إن ما يقع ببعض الإنتاجات يمثل تعد على معتقدات التونسيين وهو بذلك المعنى تعد على حرية الغير، ردوا بان مثل تلك المطالب تمثل حدا للحريات وإنها مما يعيق حرية المبدعين.
كما أن هؤلاء يتحركون في مسائل أخرى ذات أبعاد سياسية وهي من تلك التي يحاولون بها إحراج حركة النهضة وعرقلة مساعيها لقيادة البلاد.
فأساس الأمر لدى هؤلاء هو اعتبارهم الواقع المتكون منذ الاستقلال إطارا مرجعيا ينطلقون منه للحكم على الأمور، وعلى ضوئه يقع الرفض والقبول بالسلوكيات والمواقف، كما إن الرموز التي أنتجت هذا الواقع هي رموز مرجعية لدى هؤلاء كبورقيبة مثلا.
ولذلك أقول:
النقاش في مسالة خلافية مع هؤلاء – لتكن مسالة تحكيم الإسلام في أمور المجتمع وجعله ضابطا – يكون نسبة لإطار مرجعي متفق عليه أو لا.
إن كان النقاش لا يتم على أساس مرجعي مشترك فإن منطلقات الفهم للأمور المتناولة والحكم عليها يستحيل اتفاقها، لان أدوات إنتاج الحكم مختلفة، وان اتفقت ظاهرا.
إن كان النقاش يتم على أسس مرجعية مشتركة، فإن الأمور ستمضي بيسر، لأن المفاهيم تنطلق من نفس الأسس وتدور في حقول مفاهيمية متفق عليها، وهي لايمكن إلا أن نتتج آراء متقاربة وهي على أية حال ليس مما يمثل خلافا.
الأسس المرجعية تكون اجتهادا بشريا أو عقيدة، وتوفر هاتين النوعيتين من المرجعيات لدى طرفي حوار واحد، يعني ذلك آليا أنهما ليسا على مرجعية مشتركة. كما إنه يمكن تمييز الاجتهاد البشري عن المرجعية العقدية - ولتكن الإسلام - وان ارتكز عليها، حينما ينتج ما يناقضها، ولذلك فإنه يعتبر اتخاذ البعض مواقف بورقيبة وما قام به في تونس، مرجعية بشرية لأنها غالبت وتمايزت عن المرجعية الإسلامية.
وعليه فإن جماعات اليسار الفرانكفوني ودعاة الحداثة بتونس عموما يمثلون طرف النقاش المتخذ الواقع المنتج بشريا مرجعية، مقابل الذين يتخذون الإسلام مرجعا.
ثم إن الواقع موضوع النقاش والمطالب بتغييره هو نفسه المتخذ مرجعا لدى دعاة الحداثة، وهذا أمر لا يصح عقليا لأنه يدخل في باب المصادرة على المطلوب، وثبت بالتالي أن سجالات هؤلاء فاسدة في أساسها، من قبل أن يقع الدخول معهم في نقاش تفاصيل المواضيع المتناولة.
ولكي نفهم هذه النقطة، أقول إن النقاش البرهاني يحمل دليلا ومدلولا، والدليل الذي هو المرجعية يعيننا على تفهم المدلول الذي هو موضوع النقاش، ولكن حينما يكون المدلول هو الدليل أو جزء منه (في حالتنا فإن الواقع الذي هو موضوع النقاش يصبح لدى هؤلاء هو نفسه المرجع) فإن الدليل يصبح متأخرا في الوجود عن المدلول لان وجوده محتاج إليه، وهذا لايجوز لأنه يصبح دورانا، أي أن الدليل محتاج للمدلول في وجوده والمدلول محتاج للمدلول في وجوده، وهكذا يكون مثل هذا النقاش مستحيلا وإن وقع فإنه يكون نقاشا فاسدا.
ثم إنه يمكن إثبات فساد منطلقات المتخذين الواقع مرجعا للحكم على أمور هي نفسها من الواقع المطروح للنقاش، من خلال ملاحظة كون أداة الحكم يجب أن تكون مستقلة عن المواضيع المتناولة، وإلا لم تكن أداة الحكم تامة حين استعمالها بما أن نهاياتها مرتبطة بالموضوع المناقش، ولما كان الموضوع غير منتهي والدليل تناوله بالنقاش، كانت أداة الحكم ذاتها غير محدودة، وأداة حكم غير ذات حد لا يصح استعمالها لانعدام التمكن منها.
وإذا نظرنا للمسالة من زاوية أخرى، أي زاوية إمكانية الاتفاق، ولما كان طرفا النقاش ينطلقان من مرجعيات مختلفة، فإن المسالة المطروحة هي أولوية المرجعية المتناولة للحكم من خلالها، هنا فإن الحكم أيضا لا يكون إلا نسبة لإطار مرجعي معين، والإطار المرجعي إما يكون من داخل إحدى الطرفين او من خارجهما.
إذا انطلقنا من داخل إحدى الطرفين، فإن مرجعية المتكلم هي الأولى بالاحتكام إليها، ولا معنى للمرجعية غير الاحتكام إليها، ولذلك فإن كلا الطرفين دعاة الحداثة وعموم مخالفيهم لكل منهما الحق ان يدافع عن أولوية تحكيم إطاره المرجعي.
بمعنى آخر فإنه عقليا، ليس اتخاذ احدهم الواقع مرجعا للحكم على الأشياء بأولى من الذي يقول برفض ذلك الواقع والمطالبة بمراجعته.
ولكن مثل هذا التصور لايحل المشكلة، وعليه فانه يجب النظر لإطار مرجعي اشمل يكون جامعا للاثنين ومحتويا لتحركاتهما، وهذا يكون إما بقبول التحاق احد الطرفين بمرجعية الطرف الثاني كأداة للحكم في شؤون المجتمع، وإما يكون باستعمال أدوات القهر لفرض اطار مرجعي معين، كما فعلت السلطات المستبدة في زمن بورقيبة وبن علي حينما اقتلعت الناس من هويتهم.
والتحاق طرف بالآخر يكون إما عن قناعة وإما عن توافق من غير تخلي عن المبدأ، والتوافق يكون إما بتخلي طوعي وإما بالتحاق منظم في شكل انتخابات. ومن كل الاحتمالات لنا بتونس لم يبق لنا لفض الإشكال المطروح في اعتماد مرجعية واحدة لتونس، بين دعاة التبعية وعموم التونسيين الا طريقة التحاق احدهما بالآخر، ولما كان الالتحاق الطوعي غير متاح او غير ممكن التتبع ظاهريا، بقي احتمال القبول بمرجعية الطرف الآخر المنتصر بالانتخابات، ولما كان هذا هو الذي وقع بتونس، فانه يفترض أن يكون المرجع المعتمد بتونس هو الذي ارتضاه عموم التونسيين وليس المرجع المعتمد من طرف أقلية تدعو للتبعية.
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: