د - صالح المازقي - تونس
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 8334
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
لقد بات واضحا أن أزمة الجامعة التونسية قد بدأت طفو على السطح بعد طول غياب. هي ساحة خصبة للصراعات الإيديولوجية بين مختلف التيارات السياسية الطلابية إلى جانب أنّها موطن طلب العلم والتأطير والبحث العلمي، غير أنّ هذه الوظيفة الاجتماعية التي ما فتئت تمثل الرّافعة الأساسية للحراك المجتمعي على مدى أربعين سنة، قد انحرفت عن مسارها الذي آمنت به الفئات الضعيفة والمحرومة كمسلك وحيد لتحسين أوضاعنا الاجتماعية والمالية وعملنا على دعمه منذ أن كنّا طلبة وسعينا ونحن أساتذة بهذه المؤسسة العتيدة على تطويره.
مع مرور الأيام بدأ يترسخ شعور عام لدى كلّ الفاعلين الاجتماعيين في هذا المجال أن المؤسسة التربوية قد فقدت مكانتها ودورها في المجتمع، خاصة عند الطلبة الذين أطلقوا منذ عقدين صيحة فزع، بليغة في صياغتها، عميقة في مضمونها، حين هتفوا بصوت واحد (تقرا ما تقراش المستقبل ما ثماش)[*]. تعبر هذه الصيحة/المقولة عن مدى الإحباط الذي عشّش في لاوعي هذه الشريحة الشبابية، المكوّنة للعمود الفقري للمجتمع التونسي ولكل المجتمعات العربية من ناحية وعمق أزمة المؤسسة التربوية بمستوياتها الثلاثة، الابتدائي والثانوي والعالي وانفصالها عن محيطها وعجزها عن توفير المستقبل الآمن لخريجيها من ناحية ثانية في ظل التّخلي المتدّرج للدولة عن مسؤولياتها في خلق مواطن الشغل لطالبيه، أي استفحال ظاهرة البطالة التي تجاوزت شكلها الأفقي لتبلغ في مداها عمقا عموديا لم يكن مألوفا من قبل.
لم تكن الدولة التونسية (قبل الثورة) بكل أجهزتها لتأبه بموقف الشباب، المتعلّم والحاصل على شهادات جامعية عالية، التي تحولت من وسيلة للتّرقي الاجتماعي وانتشال الأسر التونسية من الفاقة والفقر إلى عبء يثقل كاهل حامله وأسرته التي لم تتأخر في دفع الغالي والنّفيس في سبيل تعليم أبنائها على أمل جني ما استثمرته طيلة سنوات الدّراسة، لتنعم في نهاية المطاف بنقلة نوعية، تخرجها من دائرة الخصاصة والحرمان إلى دوائر الرفاهية والعيش الكريم.
واليوم بعد ثورة الكرامة التي فتحت (جدلا) المجال أمام كل طبقات الشعب في الانتقال من وضع مشين إلى وضع أفضل، نشاهد أحداث تجري في حرم الجامعة التونسية، تتمحور حول مسائل لا تغني ولا تسمن من جوع، لا تتعدى في كنهها قشورا من شأنها إعاقة العمل السياسي الذي دفعت المجموعة القومية ثمنه باهظا، دماء الشباب الطّاهرة وأرواحهم الزّكية.
ما من شكّ أن البلاد تمر الآن بما يشبه الانعدام الأمني والضعف السياسي نتيجة الفراغ الدستوري، الشيء الذي سمح لبعض الشباب أن يتحركوا بحرية مطلقة، تلامس الفوضى في ظل غياب إطار مرجعي، يؤسس لضوابط قانونية وأخلاقية تضمن للجميع مناخا إيجابيا يساعدنا على تأدية وظائفنا الاجتماعية والتربوية المختلفة، تحقق تقدمنا وتوفر لنا مكانة لائقة بين الأمم الفاعلة في التاريخ.
يبدو لي أن ما تتعرض إليه بعض الكليات من أحداث شغب، تعطل معها سير الدروس وبلغ الأمر ببعض المجالس العلمية، كالمجلس العلمي بكلية الآداب والفنون والإنسانيات بمنوبة إلى تعليق الامتحانات هي في جوهرها أحداث مفتعلة بالأساس، قامت بها فئة من الشباب الجامعي وآخرون لا تربطهم بتلك المؤسسة أية صلة على خلفية فرض سلوك هندامي لبعض الطالبات المنقبات والمناداة بالفصل بين الجنسين في قاعات الدرس، إضافة إلى مطالبتهم بتعيين أساتذة من النسوة لتدريس الفتيات.
بعيدا عن كل حكم مسبق ومع احترام كل الآراء على اختلاف مذاهبها الفكرية وانتماءاتها الإيديولوجية، نقول أن احترام القوانين الجاري بها العمل داخل الجامعة وخارجها، واجب وطني على كل تونسي راشد وتونسية عاقلة ما لم يأت ما يخالفها، هذا في المقام الأول وحتى لا تؤول الأمور إلى فوضى يصعب على الجميع التّحكم فيها في المقام الثاني؛ ثم على الجميع أن لا ينتهز فرصة ضعف الدولة (إن لم أقل غيابها) في مثل هذه المرحلة الانتقالية التي وضعتنا (من حسن حظنا) في طليعة الشعوب المحبة للحرية والديمقراطية في المقام الثالث.
تونس هذا البلد الذي أقام الدنيا ولم يقعدها، واقع تحت أنظار الأعداء المتربصين قبل الأصدقاء، من هذا المنطلق، فنحن جميعا محط رقابة دولية وإقليمية وقطرية، الكل ينتظر مخاض هذه التجربة الفريدة، التي وضعتنا في صدارة الأحداث العالمية. المسؤولية التاريخية الملقاة على عاتقنا جسيمة ونجاح التجربة التونسية عليها أن تكون فاتحة الطريق أمام شعوب العالم الثالث عموما والشعوب العربية خصوصا. إننا نقف في مفترق الطرق الحضارية، فإما أن نكون قاطرة التقدم العربي في المستقبل أو أن نكون قاطرة التّخلف والرّدة.
بعد هذا العرض الموجز علينا أن نبحث عن الحل الموضوعي لأزمة، أعتقد أنها سابقة لأوانها (إن كان لها أوان أصلا). لقد تردّد على ألسنة القاصي والدّاني، أن ما يحدث في الجامعة التونسية هو أمر طبيعي، إلا أن التوصيف الأدق هو أمر عادي. إن الفرق بين الطبيعي والعادي هو فرق جوهري، الأمر الطبيعي لا يقبل الإصلاح باعتباره من السّنن غير القابلة للتغيّير ولا التحويل "فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلًا "[1] يندرج في سياق طبيعة الأشياء التي تتمتع باستقلالية الفعل الذي يفلت عن إرادة الإنسان، فهي لا تخضع إلا لإرادة خالقها كأن تقول أن الشمس تطلع من الشرق وتغيب في الغرب وهو المسار الطبيعي للشمس الذي لا يتغيّر مهما كانت إرادة الإنسان ملحة في تغيّيره. في حين أن الأمر العادي يشير إلى سلوك تعوّد عليه المرء وفي استطاعته تغيّيره و/أو تطويره و/أو إبطاله. في هذا المجال يمكن إدراج كل الضوابط والقواعد الاجتماعية المنّظمة لحياة المجموعة البشرية ولسلوكياتهم المرتضاة؛ وفي نفس الوقت تحدّد الذّوق العام والشعور المشترك والأحاسيس والوجدان الجماعيين وغيرها... حسبما اتفقت عليه هذه الجماعة أو تلك. فبحكم الصيرورة التاريخية يتحول السلوك المتّفق عليه من ناحية والمتوارث عبر الأجيال والذي تترقبه الجماعة من أفرادها إلى عــــادة.
من خصائص الضوابط الاجتماعية أنها نسبية ومتغيّرة حسب الزمان والمكان والسّن والجنس... الخ، فتتأثر بتغيّرها سلوكيات الأفراد والجماعات والمجتمعات، فيتّم تعديلها وربما الاستغناء عنها استجابة لإرادة الجماعة حتى تتمكن من نحت شخصيتها الأساسية، فتتميّز بمقتضاها الشعوب عن بعضها البعض. تعتبر الضوابط الاجتماعية وما تفرزه من سلوكيات الطريق الأمثل وربما الوحيد، لتحقيق القدر الأكبر من القيمة الاجتماعية والأخلاقية التي تبقى بالأساس متسامية وثابتة عبر العصور ومشتركة بين كل بني البشر. لو أمعنا النظر في مسالة الديمقراطية مثلا، لوجدنا أنها في الأصل قاعدة اجتماعية وتطبيقها لا يتجاوز خطوة من جملة خطوات أخرى على درب قيمة الحرية، التي يسعى الجميع إلى الاقتراب منها كل حسب اجتهاده. كلما كانت سلوكيات الأفراد والجماعات لصيقة بالديمقراطية، كان المجتمع أقرب إلى الحرية ومنها إلى العدالة التي هي الأخرى قيمة مطلقة، لا يمكن تحقيقها إلا من خلال آلية المساواة بين الأفراد (باعتبارها قاعدة اجتماعية).
قد ينحرف فرد أو مجموعة من الأفراد عن القاعدة فلا يتقيّد هذا بتطبيقها ولا يلتزم ذاك باحترامها، فيأتون بسلوكيات مخالفة للعادة. تصنف هذه السلوكيات غير العادية ضمن مفهوم المنحرف، بما يضطر الجماعة والمجتمع إلى اتخاذ التدابير الرادعة لحماية وجودهما وضمان استمراريتهما؛ فالشرائع السماوية ومن بعدها القوانين الوضعية، ما وضعت إلا لتضمن للفرد كرامته وتؤمن سلامته وتحافظ على حياته وأسرته وممتلكاته وتصون عرضه من الفوضويين والمنحرفين الذين لا يقرّ لهم قرار إلا في ظل قانون الغاب، الذي يهدم ولا يبني، يعيق التقدّم ويعطل عمل العقل الذي تفرّد به الإنسان عن سائر البهائم.
يمر المجتمع التونسي بعد الثورة بهزّات على جميع المستويات الحياتية، أعتبرها عادية وليست طبيعية، فهي هزّات مؤهلة لتقويض النظام المجتمع القائم الذي تعوّدنا عليه تحت جناح وصاية الدولة الوطنية، التي فرضت على المجتمع إرادتها وغيّبت الجميع عن ساحة القرار والفعل وطمست كل علامات الديمقراطية. هذا الممر الحر والديمقراطي لا يمكن أن يتحوّل إلى فوضى ولا يجب أن يتهاون المجتمع مع من يحاول العبث بثوابته و/أو التلاعب بمكتسباته وفي مقدمتها الثورة. إن الثورة التي تعجز عن حماية مؤسسات المجتمع هي ثورة مبتورة الإرادة، مشلولة الفعل، يجب على الكل إعادة النظر فيها، بتصحيح مسارها وكبح جماح التّسيّب ولجم الرّغبة في الانفلات الفردي والجماعي.
الجامعة التونسية التي نعتبرها من أَجَلِّ وأسمى مكاسب المجتمع التونسي خلال ستين سنة من الاستقلال، نراها اليوم وهي توشك أن تنهار أمام ضربات الفوضويين، المتّسترين تحت عباءة الدّين. ويبقى السؤال الملّح مطروحا علينا جميعا، هل أن الجامعة من مؤسسات الدولة التونسية أم لا؟ فإن كانت الجامعة من مؤسسات الدولة فعلى المجتمع بكل ألوان طيفه السياسي والأمني والثقافي... الخ أن يحميها (قبل الدولة) ويحول دون احتراقها. أما إذا عجز المجتمع على انجاز هذه المهمة وتقاعس عن هذا الواجب، فعلى الجيش أن يتقدم لحماية الجامعة كما سبق له وحمى باقي مؤسسات الدولة وهي في أضعف حالاتها. ألم يحمي الجيش الوطني الإدارة التونسية؟ إلى الآن ما زالت قواته ترابط أمام المؤسسات الحكومية التي نعتبرها رمز سيادتنا. قوات جيشنا تحمي الوزارات والبنوك ومراكز الولايات والمعتمديات وغيرها من الهياكل الرسمية، أليس من الأنسب، والحالة الأمنية على ما هي عليه، منبئة بمخاطر غير محسوبة العواقب، أن يتقدم لحماية الجامعات والكليات والمعاهد العليا ويحافظ على هيبتها ويؤمن لأسرة التعليم العالي ما تستحقه من تقدير واحترام؟.
تعيش هيأة التّدريس بالجامعات التونسية في ظل الثورة التي باركتها وكتب الأساتذة الأجلاء بإسهاب في شرح ميكانزماتها وشاركوا في تنوير المجتمع من خلال وسائل الإعلام المكتوبة والمسموعة والمرئية، شعورا منهم بالواجب المقدّس في إرساء قواعد الديمقراطية. هل يعقل أن يكون جزاؤنا مثل "جزاء السّنمار"؟. لماذا تمنع أستاذة من دخول الفصل بدعوى أنها غير محجّبة، أو يضرب عميد كلية ويحتجز في مكتبه، لا لشيء إلا لأنه دافع عن حرمة الجامعة من الدخلاء و/أو منع استقواء هذا الفريق على بقية الطلبة وفضّل احترام الطلبة على إهانتهم باللجوء لقوات الأمن؟. أليس هذا دليلا على القطع مع الماضي الجامعي المتميّز بالقمع والاضطهاد، يقدّمه العميد، المُعْتَدَى على شخصه ووظيفته التربوية؟.
إن الفوز في الانتخابات السياسية العامة لحزب ما، لايعطي أنصاره أو المتوافقين معه في الفكر الحق في التّصرف بحرية مطلقة في ممتلكات الدولة التي هي ملك لنا جميعا و/أو الاعتداء على الأشخاص الذين خوّلهم المجتمع حق الدفاع عن الجامعة والحفاظ عليها. إن للجامعة حرمة ولمن لا يفقه معنى هذا المصطلح، نقول أن الحرمة من التحريم وتحريم الشيء أو الفعل هو منعه، يوجب معاقبة من يأتي به أو يقدم على فعله. ألم يعلم هؤلاء المعتدين على حرمة الجامعة وسمحوا لمن هم ليسوا من الطلبة باقتحام حرم الكلية، قول الله تعالى"... وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ"[2]، ثم نحيل هؤلاء على ما جاء في تفسير قوله تعالى في (الجلالين): "وَالْحُرُمَات جَمْع حُرْمَة مَا يَجِب احْتِرَامه، قِصَاص أَيْ يَقْتَصّ بِمِثْلِهَا إذَا اُنْتُهِكَتْ" فاتقوا الله يا من تحسبون أنفسكم على الله، في مكتسبات هذا الشعب واحترموا مؤسسات هذه الدولة حتى تنهض وتستعيد عافيتها من جديد. ليس هذا من باب النّصح ولست ممن يدّعون تقديم الموعظة، لاعتقادي الجازم برشد مجتمعنا وفي مقدمته الشباب الذي عليه أن يعتبروا بإخوانهم الذين سبقوهم بالإيمان فنالوا أرقى الحسنيّين، الشهادة، فليعمل العاملون ممن لم يلحقوا بهم على طلب العلم حتى ينالوا "الشهادة".
الجامعة التونسية مفخرة الجميع على وشك الاحتراق، بسبب عدم وضوح رؤية سياسة وغياب برنامج تنموي لمقاومة الآفات الاجتماعية القاتلة وفي طليعتها البطالة وانتشال مناطق الظل من الفقر والتخلف، ولعلي أحسب الهجوم على الجامعة هو من قبيل تحويل الأنظار عن فشل محتمل لسياسة مرتقبة. إنّ توجّه الشباب (بشكل تلقائي أو بفعل فاعل خفي) إلى ما يسمونه (التصدّي أو مقاومة) السلوكيات الاجتماعية المرضية واجتثاثها من إطار الممارسات اليومية للمجتمع التونسي، هو في قراءتي الشخصية، إزاحة لقضايا أساسية، لتلهية الرأي العام عن مشاغله الحياتية.
إذا استقر الرأي أنّ سلوكياتنا الجماعية هي سلوكيات مَرَضِيَّةٌ وربما منحرفة، فهل نقوّمها بالعنف ونسمح رغم أنوفنا بإعادة إنتاج منظومة العنف التي تخلصنا منها بالدّم ونترك الحبل على الغارب؟. هل سنغض الطرف على ما نستشعر قدومه مع الأيام من دوامة العنف والعنف المضاد، نسال الله أن لا يحصل؟. هل يكفي تعبير أساتذة التعليم العالي بالإضراب العام عن التّدريس لمقاومة الحريق الذي يتهدد الجامعة؟ هل سنقبل مجتمعا ومؤسسات بمنطق "العزري أقوى من سيدو"[*]. الجميع مطالب الآن وأكثر من أي وقت مضى، أن نقطع الطريق على هذا المنطق غير القويم ووضع حدّ (قبل فوات الأوان) لكل معوّقات المسار الديمقراطي.
-----------
*) لمن لا يعرف اللهجة التونسية الصيحة مفادها "تدرس أو لا تدرس لا مستقبل لك".
1 ) سورة فاطر الآية 43
2 ) سورة البقرة الآية 194
*) مثل شعبي تونسي يطلق لتوصيف ضعف الآمر أمام المأمور او الرئيس أمام مرؤوسه.
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: