بين ليلة وضحاها تحوّل هذا الشعب التونسي العظيم، الذي وقف العالم بأكمله مشدوها امام الانجاز التاريخي الذي حققه يوم 14 جانفي، تحول الى جاهل ومتخلف في نظر بعض النخب واشباه المثقفين في بلادنا. وبلغت الوقاحة بالبعض من هؤلاء الى حد وصف هذا الشعب العظيم بـــ(البهيم) كما جاء على بعض صفحات الفايس بوك.
واللافت ان هذه الاتهامات، غير المقبولة بالمرة، صادرة عن اطراف طالما صدّعت رؤوسنا بشعارات الديمقراطية والحداثة والتقدمية. وكثيرا ما هاجمت خصومها واتهمتهم بالتعصب والانغلاق وعدم التسامح ورفض قبول الاخر.
واذا بهذه الاطراف نفسها تنسى كل تلك الشعارات وتتنكر لكل قيم الديمقراطية التي رفعتها، وتلقي بكل دعاوى الانفتاح والتسامح التي طالما بشرت بها وراء ظهرها، وتستل كل سكاكينها وتوجه كل سهامها المسمومة الى هذا الشعب، لا لشيء الا لأنه قرر واختار بكل حرية.
هذه الاطراف التي كثيرا ما طالبت خصومها بالتسامح وقبول الاخر، من اقليات عرقية وفكرية، وشواذ وغيرهم، لم تقبل خيار الاغلبية، بل وشنت عليها حربا شعواء واتهمتها بأبشع الاتهامات.
ويأتي ذلك في وقت شهد العالم كله لهذا الشعب بعظمة الانجاز التاريخي الذي حققه يوم 23 اكتوبر يوم انتخابات المجلس التأسيسي.
ويأتي ذلك ايضا في الوقت الذي احتضن فيه هذا الشعب العظيم، هذه الفئات رغم كونها شاذة، والشاذ يحفظ ولا يقاس عليه، ورغم مناصبتها العداء له منذ بزوغ فجر الدولة الوطنية غداة الاستقلال، عبر استهدافها له في مقومات هويته، وخدمتها لأجندات اجنبية معلومة.
وتعكس هذه الهجمة على الشعب التونسي مدى الصدمة وخيبة الامل التي اصيبت بها هذه الاطراف، وهي خيبة امل كبيرة، كبر الهوة التي تفصل هؤلاء عن مجتمعهم.
.. بعد صدور النتائج الاولية للانتخابات تناقلت وسائل الاعلام صورا لمجموعة من الانفار امام قصر المؤتمرات بالعاصمة كانت تحتج على نتيجة الانتخابات، وكانت الصدمة بادية بوضوح على وجوه هؤلاء. ولكن صحفيّة من بين المحتجين شدت اليها الانتباه، لأنها كانت في حالة انهيار تام، وكانت تتحدث الى وسائل الاعلام وتقول وهي تبكي: كيف يختار الشعب التونسي هؤلاء؟ وتقصد بهؤلاء حركة النهضة.
سؤال يعكس في الظاهر رفضا لهذا الاختيار، ولكنه في العمق، يعكس عدم فهم لهذا الشعب وهذا المجتمع، لذلك، جاء هذا السؤال، استنكاريا في ظاهره استفهاميا في اعماقه.
انه سؤال يعكس في العمق ازمة هذه النخب، وغربتها عن مجتمعها، وهي ليست غربة وجودية، او ايديولوجية، او سياسية فقط بل هي غربة معرفية تتعلق بجهل هؤلاء بشعبهم وبأهلهم، جهلهم بالأفكار والقيم التي تحرك هذا الشعب وترسم له محددات الاتجاه.
ان هؤلاء الذين يقضون من الاوقات في منتجعات اوروبا وفنادق ومغازات باريس اكثر مما يقضون في بلدهم، ليسو في عزلة فقط عن بيئتهم بل هم في قطيعة تامة معها.
وهذا ما يفسر صدمتهم العنيفة، ولكنه يفسر قبل ذلك الاخطاء الفادحة التي ارتكبوها خلال الفترة التي سبقت الانتخابات، والتي صبت في صالح خصومهم السياسيين.
ان الهجمة التي شنتها هذه الاطراف ضد هوية هذا الشعب، بدعم وتخطيط واضحين من مراكز نفوذ، ومراكز بحث ودراسات اجنبية، ادت الى ردة فعل عكسية.
هذه الهجمة اعادت المقدس الذي حاولت القوى التي تدعي الحداثة والتقدمية اقصاءه من المشهد الى قلب الفعل السياسي، وكان لفيلم برسبوليس ومن قبله فيلم "لاربي لاسيدي" نتائج عكسية، لأنها وببساطة انحرفت بالمعركة السياسية التي كان يفترض ان تدور حول البرامج السياسية والحلول للمعضلات الاقتصادية والاجتماعية، الى معركة حول "الهوية" وهي معركة خاسرة بالتأكيد بالنسبة للتقدميين والحداثيين.
وهنا قد نجد بعض الاجابة عن سؤال الصحفية، في شقه الاستفهامي "كيف يختار الشعب التونسي هؤلاء، وتقصد النهضة".
وعندما ننظر الى نتائج الانتخابات، نجد ان الاطراف التي لم تستهدف الهوية في عناصرها المختلفة هي التي فازت، بينما خسرت اخرى رغم انها كانت مرشحة للفوز، وكأن الشعب اراد من خلال ذلك معاقبتها على المواقف التى اتخذتها والتى اعتبرت معادية للهوية.
فالحزب الديمقراطي التقدمي مثلا، دفع ثمن تصريحات زعيمه الاستاذ احمد نجيب الشابي المتعلقة بالحجاب ومواقفه من عرض فيلم برسبوليس، وهي المواقف التي تسترت بحرية التعبير لتنحاز الى مواقف معادية ومستهدفة للهوية.
وكان واضحا ان الشعب التونسي هب يوم 23 اكتوبر للدفاع عن هويته بعد ان شعر انها اصبحت مهددة او في خطر.
قبل الانتخابات تصدرت بعض الوجوه المشهد الاعلامي وصالت وجالت على شاشات التلفزة، التي فتحت لها دون سواها، لتؤكد ان الانتخابات ستبين لنا هل ان الشعب التونسي مع التقدمية والحداثة ام انه يريد العودة الى الوراء؟
وهذه العبارة المنمقة تجنبا لطرح السؤال بطريقة صحيحة وهي: هل ان الشعب التونسي ما زال متمسكا بهويته العربية الاسلامية؟ ام ان تلك الرابطة التي تشده بهويته قد ضعفت او تآكلت بفعل عمليات "التجريف الثقافي" والمسخ الحضاري الذي تعرض له طيلة 50 سنة؟ يعني ان التصويت سيكون، وعلى حد تعبير اصدقائنا من الحداثيين، على المشروع المجتمعي الذي تطرحه مختلف الاطراف المترشحة للمجلس التأسيسي.
وبعد صدور النتائج مباشرة، تراجع هؤلاء عن هذا الطرح، وبدأوا يروجون لفكرة جديدة تقول ان الشعب لم يصوت لمشروع مجتمعي محدد، بل ان اختياره كان قائما على جملة من .... من بينها الوعود السخية التي تقدمت بها حركة النهضة.
وعلى اي حال فان هذا التراجع لن يغير من الحقيقة شيئا وهي ان الشعب صوت لوعود نعم ولكنه اولا وقبل كل شيء لخيار حضاري كامل يرى انه يمثله.
لقد كنت ولا أزال على قناعة تامة من ان بورقيبة كان من اعتى اعداء الهوية العربية الاسلامية، وانه كان اشد حقدا على هذه الهوية من المتطرفين العلمانيين. وكان بورقيبة يحمل نفس المشروع المجتمعي لهؤلاء وكان يعمل على سلخ تونس عن محيطها العربي الاسلامي والحاقها حضاريا بالغرب وبفرنسا الاستعمارية على وجه التحديد.
ولكن بورقيبة لم يتصادم مع "الهوية" وداور وناور من اجل تحقيق اهدافه دون ان يعلن عداؤه الدفين لهذه الهوية بل انه كان يفعل العكس، اي حاول دائما الظهور بمظهر الذي يعمل من داخل "النسق" الاسلامي، في محاولة لتطويره.
كان بورقيبةّ يعرف المجتمع التونسي جيدا، ويدرك ان اي صدام مع هذه الهوية لن تكون في صالحه، لأنه كان يدرك ان هذا الشعب شديد التمسك بهويته ودينه واسلامه.
والمطلوب اليوم من هذه النخب ان تعيد قراءتها لحقيقة التوازنات التي تحكم المشهد التونسي، حتى تدرك حقيقة حجمها، ولا تغتر بتلك الصورة التي كانت مرسومة لها زمن الاستبداد، حين كانت تلك النخب متمرسة بجهاز الدولة.
وعليها ان تقوم بمراجعات جذرية حتى تستطيع اعادة بناء العلاقة التي تربطها بالمجتمع، على اسس سليمة، وحتى لا تصدم مرة اخرى برفض الشعب لها.
والخشية كبيرة من عدم قدرة هذه الاطراف على القيام بهكذا مهمة لأنها بنت "عقيدتها" السياسية على معاداة هوية هذا الشعب ورهنت قرارها للخارج.
اضافة الى ذلك وفي انتظار ان تنجز هذه المهمة، ان كانت لدى هذه الاطراف القدرة والشجاعة على القيام بالمراجعات اللازمة، لا بد من وقف فوري للهجمة التي يتعرض لها الشعب التونسي، وللاتهامات بالجهل والامية وباتباع النوازع الحيوانية التي باتت تكال له على الهواء مباشرة.
ولا بد من تجريم هذا الفعل، لأنه من غير المقبول ان يعمد أيّا كان على اهانة شعب بأكمله مهما كانت المبررات، وعلى الحكومة الحالية، ان تتحمل مسؤوليتها في هذا المجال.
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: