فوزي مسعود - تونس
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 11934
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
تناقلت الأنباء أن يوسف القرضاوي رئيس منظمة "الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين"، قد أصدر فتوى رسمية ب"أن المشاركة بانتخابات تونس و انتخاب الأصلح للإسلام فرض عين".
في هذه المداخلة لن أتحدث عن مسالة شرعية الانتخابات من عدمها، ولكن سأتناول ما هو اخطر من ذلك، وهو تضخم الصنمية في حياة المسلمين، ممثلة في اتخاذ بعض الأشخاص كقدوات، خاصة إذا كان هؤلاء مشبوهين ممن ثبت تواطئهم مع الأطراف الغربية وقدموا خدمات جليلة لها.
وتكمن خطورة هذه القدوات المصنّعة، في سعي وسائل الإعلام والتثقيف الجماعي على تقديمهم على أنهم نماذج يجب الإصغاء إليها وطاعتها، بل إن البعض لايجد حرجا في الإسراف والإسفاف فيصور أن طاعة هؤلاء النماذج المقدمة ترتقي للواجب الديني، تحت زعم أن هؤلاء علماء وأنهم أصحاب علم شرعي وان لحومهم مسمومة لايجوز الاقتراب منهم بالنقد وبالمراجعة.
الكهنوت وتفريخ الفتاوي
لا أريد الإطالة ولكن سأقتصر على الفتوى الحالية، فأقول :
- يوحي اسم "الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين" أنها منظمة تحتوي علماء المسلمين كلهم باختلاف مشاربهم، والحقيقة أنها منظمة لا تكاد تجاوز شخصيات تدور في فلك مدرسة الإخوان المسلمين، ولما كانت هذه المدرسة معروفة بخطها الارجائي عموما، ونظرتها المنكسرة دوما نحو الواقع والقائمين عليه، الذي نتج عنه مراوحتها لمكانها منذ عقود، فإن هذه المدرسة ومنظمة "الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين" من ورائها كانت اكبر الأدوات المكرسة للواقع والقائمين عليه، وانتهت منظمة "الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين" للعب دور أداة الدعاية لمجمل النشاطات الأمريكية، فهي كانت الداعم الأكبر لاحتلال العراق وتقتيل الآلاف من أبنائه واستباحة أعراض المآت من نسائه، وكلنا يعرف أن القرضاوي الذي مافتئ يصدر الفتاوي بمناسبة وبدونها، أصابه الخرس ولم يصدر فتوى تدعو للتصدي لاحتلال العراق ولاستباحته من طرف الكفار الغربين، بل انه أفتى لأمريكيين مسلمين يعملون بالجيش الأمريكي بوجوب طاعة رؤسائهم خوفا من أن يعرضوا وظائفهم للخطر. وكلنا يذكر فتاوي القرضاوي للمجاهدين الصوماليين بان ينضموا للشيخ شريف المقرب من أمريكا.
- كما إن القرضاوي كان من اشد المتصدين للجماعات الجهادية التي كانت تقاتل أنظمتها ومنها الجماعة الإسلامية المقاتلة بليبيا، ولكنه فجأة حينما تغيرت المعطيات لدى شيوخ قطر الذين بدورهم أوعزت لهم أمريكا بذلك على ما يبدو، اصدر فتوى ليس فقط بجواز قتال القذافي، بل بوجوب قتله.
- إذا ما انتقلنا لفكرة الفتوى ذاتها بقطع النظر عن محتواها، فإن الفتاوى –أيّ فتوى كما تصدر من شيوخ الفضائيات أو من القرضاوي وأمثاله- بأشكالها وبوتائرها المتداولة حاليا وبالنظر للأطراف المنتجة لها، تمثل انحرافا بالإسلام واختزالا له، واستخفافا بالمسلمين. فتفريخ الفتاوي أصبح عملا تؤطره هياكل منظمة تحتكر هذا النشاط دون غيرها، ولأنها هياكل ناشطة محترفة، فإنها تسرف في إثبات جدارة نشاطها مما ينتهي إلى تعقيد مجال الفرد المسلم وتكبيله، بحيث أن كل أمر تقريبا لدى محترفي الفتاوى يتحول لمحرّم ما لم يصدر منهم هم ما يثبت إباحته، مما يجعل كل مصائر المسلمين مرهونة بأيدي هؤلاء، والحال أن هذا التصور أساسا خاطئ، فالأصل الإباحة ما لم تثبت حرمة، والمسلم يستطيع أن يعيش حياته كلها هانئا من دون أن يكون في حاجة لأي متحدث باسم الإسلام يكدر عليه حياته ويحيلها لمجموعة من القيود، فباستطاعة أي كان أن يطلع على رأي الإسلام من خلال المطالعة وبالاجتهاد الذاتي، باستثناء بعض القضايا الدقيقة التي بإمكانه أيضا إن أراد، أن يطلع عليها ذاتيا بمزيد من الاجتهاد باستقلالية.
- والإسراف في الفتاوي يحيل حياة المسلم لمجموعة من القيود الضمنية، ويجعل هؤلاء أنفسهم أسارى بيد محترفي الفتاوى ممن يقرر مصائرهم من خلال تحديد اتجاهات اختياراتهم، وهذا ينتهي آليا ليس فقط لتجميد الأفق الفكري للناس، وإنما يعمل على تكريس كهنوت يتدخل في حياة الناس ويقرر مسبقا أبعاد مجالاتهم المختلفة التي يتحركون فيها، وهذا فضلا على انه أمر غريب عن الإسلام، فهو يعمل على تكوين طبقة من رجال الدين تحتكر تفسير الإسلام والخوض فيه، وهذا ينتهي للتضييق لان مفهوم الطبقة ذاته يعني عدم الترحيب عموما بالتدخل من خارج الطبقة، فيغدو أي تحرك من الخارج يخص طبيعة إنتاج تلك الطبقة (الذي هو الخوض في أمر الإسلام) مرفوضا بحكم تعارض المصالح، مما يعني أن هناك أساسا شبهة إنتاج فتاوي من دون جدوى في كل ماينتج من طرف هياكل الإفتاء كما هي عليه الآن، وهو ما يعطي شرعية لدعوة عدم قبول الفتاوى التي تنتجها الهياكل الحرفية المخصصة للإفتاء، وإنما يجب ان تقبل الفتاوى فقط ممن ليس محترفا، أي ليس منظمة تقف ورائها أطراف داعمة ماليا لانعدام المصلحة الموجبة للتعارض هذا من جهة، أما من جهة أخرى فإن احتراف التحدث باسم الإسلام أي تلقي الأجر عن ذلك، يخلق عائق تعارض المصالح بين مصالح من يقوم بخلاص الأجر ومصلحة المتحدث ضمنيا من جهة، ومصالح الشرع من جهة ثانية، فتاتي من جراء ذلك فتاوي تراعي مصالح مطلق الفتوى ومن يقف ورائه، أكثر من مراعاتها مصالح الشرع، وهذا مايفسر تناقض الفتاوي، وهذه كلها أسباب تعطي شرعية لدعوة النظر في استحداث قاعدة جديدة تعنى بتعارض المصالح لدى المفتي.
- ثم إن أساس الانحراف لدى الناس حينما يقدسون من يقدم كعالم دين، مبني على افتراض فاسد، يقول بأن من تحدث في أمر من أمور الإسلام، فهو آليا ملتزم بذلك، وهذا كلام لايستقيم، فعقليا هذا أمر غير مبرهن عليه، إذ علوم الإسلام هي معارف لا تخرج من حيث هي كذلك على أي معرفة، والمعرفة مستقلة في ذاتها عن تلقيها والتمكن منها، بمعنى أن الالتزام بشيء والتمكن منه، أمر مضاف لذلك الشيء وزائد عنه، أي أن الالتزام بالمعارف الإسلامية ومنها أمور الشرع أمر آخر غير الحديث فيها، وبطل بالتالي عقليا الافتراض الذي يسبغ تلقائيا على المتحدث بأمور الشرع صفة الملتزم بذلك. وأما واقعيا فإنه ثابت أن نسبة كبيرة من المتحدثين في أمور الشرع ممن يتحرك بحرفية، أي بطريقة مأجورة كأن يكونوا موظفي فتاوي أو عاملين في منظمات، هم أقرب للارتزاق منهم للالتزام الشرعي، مما يبطل الافتراض الذي يسبغ تلقائيا على المتحدث بأمور الشرع صفة الملتزم بذلك.
من يعطي الدروس لمن؟
- إذا نظرنا لتونس، فان التونسيين هم الذين أعطوا درسا للعالم في الكرامة والتعلق بالحرية والأنفة، فهم الذين ثاروا ضد حكامهم لإحساس لديهم بالكرامة، وهم الذين لم يقبلوا بالتدخل الأجنبي في شؤونهم إذ قرروا مصيرهم بأنفسهم حين طرد طاغيتهم، والتونسيون رفضوا التدخل الفرنسي والأمريكي ولازالوا يرفضون ذلك ويسفهون من يقوم بتلقي الدعم الأجنبي، والتونسي الذي يرفض مرتزقة الحداثة وعبيد فرنسا والغرب عموما هو الذي يجب عليه ان يرفض أيضا مرتزقة الإسلام وعبيد حكام الخليج.
- والتونسي الذي يقوم بذلك، يجب عليه بنفس القدر ومن نفس منطلق رفض التدخل الأجنبي أن يقوم برفض تدخل القرضاوي واتحاده للعلماء هذا، أولا لان التونسيين ليسوا متفقين أن اتحادا مثّل ولازال ما يشبه أداة الدعاية والتكريس لأمريكا يمكن أن يمثل المسلمين فضلا على أن يمثل علمائهم، كما أن التونسي يرفض أساسا فكرة التدخل الأجنبي كمبدأ، وعليه فلا يفهم كيف تقوم أطراف برفض التدخل الفرنسي مثلا وتقبل بتدخل القرضاوي.
- ثم إن فكرة التدخل وإعطاء النصح والدرس ليست تصلح إلا ممن هو قدوة، وأنا لست متأكدا أن الذي ما انفك يخدم أمريكا حد تطويع الإسلام وشرائعه لذلك، يصلح أن يكون قدوة يقدم النصائح للناس، فضلا على أن يكون موضوع نصحه التونسيون، ويمكن لأحدهم أن يتوقع أي شيء من شيوخ الناتو إلا أن يكون تقديم الدروس للشعوب في تقرير مصائرهم.
- إذا كان لطرف الحق أن يعطي النصائح للآخر، فإن التونسيين الذي حركتهم الأنفة والإحساس بالحرية حين اقتلعوا طاغوتهم جديرون أن يقدموا النصح ويعطوا الدروس للقرضاوي الذي لايبدو انه يملك تلك المعاني بالقدر الكافي، كيف لا وهو الذي ماعرف إلا مجاورا ومواليا لحكام الخليج خدم وعبيد أمريكا، بل إن القرضاوي نفسه ما انفك يسخر جل مناشطه لخدمة أمريكا. كما إن التونسيين الذين مافتئؤوا يرفضون التدخل الأجنبي في أمورهم الداخلية جديرون أن يعطوا الدروس لمن لم يجد حرجا أن يقبل بالتدخل الأمريكي بالعراق بل ويدعمه ضمنيا، ولم يجد حرجا في التدخل الأمريكي بالصومال فيدعو لدعمه، ولم يجد حرجا في التدخل الغربي بليبيا وتدميرها فيصدر فتوى تدعم ذلك.
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: