د - صالح المازقي - تونس
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 9806
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
لقد استفاق وعي الإنسان العربي (من الخليج إلى المحيط) وقطع أولى الخطوات باتجاه الفعل التاريخي، فأسقط رموز الفساد والاستبداد، فالشعب التونسي مثلا، قد شرع (ولو متأخرا) في محاكمة بعض أصحاب السلطان ومن ولاهم من ذوي الفساد الأكبر"حضوريا" و "غيابيا"، من آكلي السّحت وأموال أرامل الشعب التونسي وأيتامه "إِنَّ الذِّينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ اليَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا"[1] بمباركة قيادة خانة الأمانة وحنثت في أغلظ الأيمان.
على نفس الخطوات وبالتوازي مع ما يجري في تونس، يقدم الشعب المصري رئيسه المخلوع الذي لا يزال الكِبْرُ يركبه، فيمنعه من الاعتذار لشعبه ومن ورائه أمة بأكملها تعطلت صيرورتها التاريخية بتعطّل قاطرتها. لقد أصابني الذهول وأنا أتابع على الهواء مباشرة، نقل أطوار تلك المحاكمة التي نعتها العديد بالتاريخية. نعم هي محاكمة تاريخية بكل المقاييس، حتى في ما لحق هيأة المحكمة من إهانة مباشر مرتبة بكل عناية ودراسة. أقصد دخول الرئيس المصري المخلوع، صبيحة يوم 3/08/2011 ممدّدا على سرير طبي متحرك، وكفّا قدماه موجهتان إلى وجوه كل من الحضور، ولسان حاله يقول "ما زلتم تحت أقدامي". ثم لم يكلف نفسه عناء الوقوف تحية لرئيس الجلسة وأعضائه، ساعة وقف كل من في القاعة، إلى حين جلس القاضي وأذن لهم بالجلوس. كيف لم يتفطن القاضي إلى الإهانتين المقصودتين، الموجهتين لشخصه أولا وللإدعاء العام ثانيا وللشعب بأكمله من خلالهما ثالثا.
فهل من أجل هذا فقط قامت الثورات العربية أم من أجل بناء دولة ثورية تتجسد فيها كل قيم الحق والعدل والحرية، بما يمهد لإقامة مجتمع يطيب فيه العيش ويرتقي فيه الإبداع الفكري والعلمي، ليثبت الإنسان العربي أحقية وجوده في عالم لا مكان فيه للضعفاء؟ لماذا يثاقل المثقف العربي ويهدر فرصة العمل التلقائي الحرّ؟
لقد أتاحت الثورة التونسية للمثقف العربي حيث ما كان فرصة التّخلص من شعوره القديم وذريعة غيابه عن الساحة "بأنه لا تكاد تتوفر فرص كافية لعملية المشاركة في صلب المؤسسات سواء في اتخاذ القرار أو في تطوير الهياكل وتحديثها من أجل النّهوض بأدائها…"[2]. لقد أسقطت الثورة مثل هذه الذّرائع التي إن تواصل استعمالها لتسببت في تعميق القطيعة بين المثقف وبين المجتمع. لقد فُتِحَ باب الفعل فجأة أمام الجميع والفرصة متاحة لِيُقْدِمُوا في شجاعة على إحداث التّغيير بشكل ممنهج، لملء الفراغ الناتج عن غيابهم القسري بحضور تطوعي، نشيط، يصب في المسار الثوري؛ إلى أن تؤسس الثورة العربية شريحة جديدة من المثقفين القادرين على ابتكار أساليب إبداعية تؤطر الفرد والمجتمع وتهيئة الأجيال للفعل والتفاعل مع مبادئ الحرية والديمقراطية بعد طول غياب. لن تحقق الثورة العربية أهدافها ما لم يعانقها المثقفون بعد مراجعة النّفس بالتّواضع للشعوب وإعادة صياغة الواقع في كل أبعاده ومكوّناته الاجتماعية والاقتصادية والسياسية.
المجتمعات العربية الثائرة في أمس الحاجة لثقافة جديدة، قائمة على أرضية التحولات السياسية والاجتماعية، تكون قادرة على خلق طبقة من العلماء والفلاسفة في المنظور المتوسط، ترتوي أفكارهم من ثراء تراثهم وتورق فروعهم متوهّجة في الحاضر، شرطان أساسيان لبناء مستقبل أفضل، لتكون "كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٍ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ"[3]. تتأتى هذه الحاجة من ضرورة استرجاع المجتمع استحقاقه الثّوري ومكانته ودوره بوصفه صاحب الحق الشرعي في الحل والعقد وهو حق دفع ثمنه غاليا من دم الشهداء. أما الآن والحال على ما عليه من انفتاح الساحة السياسية أمام الوصوليين والانتهازيين القدامى الذين ركبوا موجة الثورة، ليعودوا إلى العمل السياسي مجدّدا في أثواب جديدة لممارسات التّغييب والوصاية، لتقاسم "كعكة مفقودة" (*( والفوز بنصيب الأسد على حساب كل الذين ضحوا في سبيل الحرية والكرامة.
يعزي البعض سبب تفريط الثائرين في حقهم الثوري إلى ما يعتبرونه افتقار أو غياب اللاوعي الثوري. لقد قيل أن شباب الثورة في كل من تونس ومصر، كان ينقصهم لاوعي ثوري، يحدّد سلوكياتهم على أرض الواقع؛ ذلك لخلو ذاكرتهم الجماعية "الشابة" من تجارب ثورية من ناحية وعزلهم عن تاريخ بلادهم المعاصر، تاريخ أجدادهم المليء بالمقاومة والثورة على الاستعمار من ناحية أخرى.
غياب عنصر التجربة الثورية وإن وجدت خطوط باهتة، للثورة الفلسطينية قبل المهادنة ونهج السّلام الذي اتبعته الحكومات العربية منذ "أسلو" في 13 سبتمبر 1993، كبح الفعل الجماهيري/الشبابي في ذروته وأهدرت فرصة إنجاز واكتمال الفعل الثوري. توقفت الثورة عند عتبات دولتين منهارتين وعجزت عن السيطرة على مختلف أجهزتهما المتهرمة، لتقيم مقامها دولة شبابية، ثورية، حديثة، لا تستجيب لمطالب الشعب فقط، بل تأمر وتنهي باسم الجماهير الثائرة، صاحبة الحلّ والعقد.
هذه المسألة قد تجد مرتكزاتها في عوامل متفاوتة الأهمية منها ما هو ضارب في القدم ومنها ما يتصل بالتاريخ الرّاهن للمجتمع العربي عموما والتونسي خصوصا.
أبرز المرتكزات القديمة
عديدة هي المرتكزات الموغلة في تاريخ الأمة العربية، في هذا الصدد يمكن إحالة القارئ على الكتابات التي اهتمت بالشخصية القاعدية للتونسيين، نذكر منها كتاب الأستاذ "هشام جعيط"(**) وما كتبه الأستاذ "المنصف ونّاس"(***)، في تونس وكتابات نجيب إبراهيم وفؤاد إسحاق الخوري[****] . يكاد يجمع كل الذين حاولوا تحليل الشخصية الأساس "la personnalité de base" للمجتمعات العربية والمجتمع التونسي على وجه الخصوص، على أنها شخصية تتميز بمرونة عالية وبقدرة فائقة على الانصهار والتّكيّف " ولعل ذلك ما يمكن أن نسميه بعبقرية التّكيّف مع ظروف العسر… مع الاحتفاظ بالخصوصية النّفسية والثقافية والحضارية…"[4].
ومن أبرز سمات الشخصية التونسية الأساسية أو القاعدية، التي يمكن اعتمادها كركيزة في فهم سكوتها على ظلم الحاكم، قدرتها على المهادنة وهي محلّ خلاف بين المحلّلين، فمنهم من اعتبرها ميزة، تنّم على "حسن التّقدير أولا والعقلانية في تشخيص الأهداف وكيفية الوصول غليها والمرونة في التّنفيذ"[5]. أما الرأي المعاكس فيرى فيها حسب الأستاذ المنصف ونّاس " ولمن مثل هذه الصّفات المهمّة لا يجب أن تخفي من الناحية العملية… بعض الظواهر غير الإيجابية. فقد تترافق الواقعية مع قدرة على احتساب المواقف وعلى نوع من تعطيل المشاركة الاجتماعية والسياسية… كما قد تخلق شخصية لا مبالية بالشأن العام وحريصة على النّفع الخاص… عنوان عقلية تونسية محليّة… ذهنية معيّنة تفضّل المهادنة على المواجهة واللامبالاة وعدم الاكتراث على تحمّل المسؤولية".
أرجو أن لا أكون مخطئا إذا ذهبت في تفاؤلي بعيدا وقلت، بأن الوضع قد تغيّر مع الثورة، فالتونسي والمصري (على حدّ سواء) الذين أسقطا دكتاتورية السلطة والمال، لن يقبلا بالانسحاب مجدّدا من الشأن العام، تاركين إدارة شؤون حياتهما حاضرا ومستقبلا لمن قد تغويه السلطة فيتمسك بها ولو على الجثث.
لا يمنعني تفاؤلي (المفرط) من التأمل في ضعف تفاعل التونسيين مع انتخابات المجلس التأسيسي، المزمع انتخابه في أكتوبر 2011. فالعزوف الجماعي/التلقائي من شأنه أن يحيلنا على خصوصيات الشخصية القاعدية للتونسيين، الذين قد أخذهم الحنين إلى تقوقعهم التاريخي/المرضي، الذي وصفه الأستاذ المنصف ونّاس "بظاهرة الانجحار". إحياء الذاكرة الأنثروبولوجية الميّتة في هذا الظرف، مضرّ بدون شكّ بسيرورة الثورة. في هذه اللحظة التاريخية المتميّزة بحراكها السياسي والاجتماعي، يتجلّى الدور الريادي/المفقود للمثقف العضوي والسياسي المتنوّر في صياغة شخصية قاعدية عربية جديدة، متشبّعة بروح الثورة والمشاركة في تقرير مصير البلاد والعباد، بتفعيل التاريخ الثوري العربي المخزّن في لاوعيهم الجماعي دون تمييز.
المرتكزات الرّاهنة
تتمثل أبرز المرتكزات الرّاهنة في المجتمع التونسي على وجه التّحديد والمتسببة في قطع الصّلة بين وعي ولاوعي الثورة، في سياسة التصّحر الشامل وفصل المجتمع عن جذوره الثقافية وأصوله العربية الإسلامية والعمل على مسح كل رموزه السياسية والعلمية والدينية والفكرية من ذاكرته الجماعية وإضافة إلى محاولة التلاعب بقيمه والعبث بمبادئه وتشويه عاداته وتقاليده. لقد تغيّرت الرافعات القيمية والأخلاقية لغالبة التونسيين، خاصة الشباب منهم، الذين سقطوا في تيار الاستهلاك والربح السريع والتّربح السّهل، بعيدا عن كل قيم العمل والإنتاج والضوابط الدينية الأخلاقية، كالحلال والحرام، المنظمة لحياة المجتمعات قديمها وحديثها.
ساهمت وسائل الإعلام الرسمية في نشر ثقافة (التّخريب الممنهج) من تصحر فكري وعقم سياسي وجفاف أخلاقي بواسطة بروبغاندة مأجورة، شرسة، متحرّشة بالفرد والمجتمع، همّشت "التوانسة" عن قصد وساهمت بدهاء في "تسمين العجول وتغيّيب العقول" بالحثّ على الاستهلاك البهيمي/اللاعقلاني. أوقع الإعلام التونسي بكل شرائح المجتمع التونسي، دون استثناء، في "مصيدة" الأنا المتعالية و"شراك" النّفعية الضيّقة والفردانية المرضية (individualisme pathologique) " أنا ومن بعدي الطوفان après moi, le déluge". لقد تآمرت وسائل الإعلام التونسية/الرسمية طيلة عقود على الفرد والمجتمع، فقضت عمدا على مسالك الفردانية المنهجية (individualisme méthodologique) التي بنت في الغرب الأنا والآخر، كوحدة أساسية في نسق إنتاج، متكامل الأبعاد، محدّد الأهداف، أسقطت عقلية " نفسي، نفسي لا ترحم من مات" و" أخطى راسي واضرب"، عقلية لا تزال سائدة فينا، توجّه مواقفنا وتحدّد سلوكياتنا.
أوغلت سياسة الرئيس المخلوع في تفكيك المجتمع التونسي أخلاقيا وحولته إلى ما يشبه الهباء المنثور، لا تربط بين أفراده رابطة ولا تجمع بين شرائحه صلة، فحلّ الشكّ والرّيبة بين أفراده محلّ الثّقة، وانتشار شعور عام بالخوف من الآخر وعمّ الحسد والسّعي لنيل كل الرّغبات حتى المستعصية، بكل الوسائل والطرق حتى غير المشروعة منها. تنوعت السلبيات واختلفت الأساليب، لتؤسس طيلة عقدين متتاليين من الزمن، لشعور جماعي بالإحباط واليأس، غذّى الرّغبة الجامحة عند شريحة الشباب في الهجرة بكل أشكالها. إحساس عام بخيبة الأمل في الحاضر والمستقبل، ادخل المجتمع في نفق شديد الظلمة، قلّص من لاوعيه وكاد أن يفقده وعيه.
بعد خمسة عقود ونيف من التّعثر الشامل، تعطلت بفعله حواس المجتمع وتكلست مشاعره، إلى أن جاءت لحظة تاريخية منفلتة قطعت الخيط الرّفيع بين أنانية الوعي المرتجف وغيرية اللاوعي المتمرد، فنهلت الثورة من ثراء التّراث المفعم بالمجد وارتوت من منابعه المتدّفقة شهامة وإيثارا، لتطّهر المجتمع، بدماء شباب قدّموا أرواحهم فداء للوطن وكرامة المواطن. إلى متى يبقى أصحاب الحق المسترجع يستجدون مستحقات دفعوا أرواحهم الزّكية في سبيلها، من الوصوليين وراكبي الأمواج بعد مرور العاصفة.
--------------
1) النساء، الآية 10
2) المنصف ونّاس، الشخصية التونسية. محاولة في فهم الشخصية العربية.الدار المتوسطية للنشر، أكتوبر 2011
3) سورة إبراهيم، الآية 24
*) العبارة للدكتور برهان غليون.
**) La personnalité et le devenir arabo-islamiques, éd. Le Seuil, Paris, 1974
*** ) الشخصية التونسية. محاولة في فهم الشخصية العربية.الدار المتوسطية للنشر، أكتوبر 2011
****) "نجيب إبراهيم" قيمنا الاجتماعية وأثرها في تكوين الشخصية. مكتبة النّهضة المصرية، القاهرة 1962
"فؤاد إسحاق الخوري" الذّهنية العربية: العنف سيّد الأحكام. دار السّاقي، بيروت 1993
4) المنصف ونّاس, المصدر السابق
5) المنصف ونّاس، نفس المصدر.
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: