د - المولدي اليوسفي - تونس
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 9600
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
نعلم أن العصيان الذي واجه به الشارع التونسي السلطة، لم يكن عند انطلاقه مؤطرا من فاعل سياسي، و إنما كان شعبيا عبر بعفوية عن أن الشعب لم يعد قادرا على تحمل فساد السلطة.
سارعت القيادات الوسطى في الاتحاد العام التونسي للشغل لمساندته و هذا تقليد نقابي تونسي. ثم برز المحامون ليلعبوا دورا مهما. و بدأت بعض العناصر المعروفة في الأطياف السياسية تنزل للشارع.
أما السلطة فقد كان الاضطراب مسيطرا عليها خاصة بعد أن اشتد الشك و التخوين بين أركانها وكل منهم يعلم أن "صديقه" أخون منه و يجمع بينهم تصورهم للشعب على انه يركّع بأقل جهد قمعي مطمئنين لتعوده الرضوخ، و هو ما يعني ان لم يكن في دوائرها من يحظى بأدنى قدر من الثقة لدى الشارع.
كما فقد هذا الأخير الثقة بالنخبة خاصة بعد أن أنهت السلطة، في العشريتين الأخيرتين، دور النخبة كقوة ناقدة للنظام على يد ابرز أبنائها الذين مجدوا "حاكم البلاد" و برروا الجلد و مدحوا الرضوخ.
قد يقال أنهم فعلوا ذلك لما أغدقه عليهم "الحاكم" و هو أمر لا يخلو من منطق التزام الخادم بمصلحة مولاه، إلا أن هذا لا ينفي قراءة أخرى يكشفها التأمل في تاريخ المشهد السياسي منذ نهاية القرن التاسع عشر، إذ نكتشف فريقين رئيسيين الفرق بينهما المرجعية الفكرية- الوجدانية. قسم كان فكره و وجدانه متصلان بالداخل بما فيه مع الوعي بضرورة التطوير مستنيرة بفكر ما سمي عندها بالنهضة التي عرفها العالم العربي الإسلامي. أما القسم الثاني فقد بهر بالغرب و جرى خلف الحداثة بتواصله مع الخارج في علاقة ينظمها منطق المغلوب المولع بتقليد الغالب.
و مع مرور الأيام زاد كل منهما تطرفا و لم يتفطن الاثنان، إلى كونهما خارج الواقع الاجتماعي. فأصحاب التوجه الأول يعيشون على وقع خطاب عمر ابن الخطاب غافلين عن قانون تبدل الأحوال، و أصحاب التوجه الثاني ينظرون من خلال شوارع أوروبا غافلين عن العوارض الذاتية و طبائع العمران كخصائص اجتماعية ظنا منهم أن الحداثة تعني القطع مع الهوية. لهذا لم تنجح، في ثقافتنا العربية إلى الآن، الدولة الوطنية في بلورة الهوية الوطنية و عجز ت عن إنجاز مشروع سياسي يهيمن على الوعي الجماعي فيشغله عن مشروع الماضي و يدمجه في مشروع حداثة.
لقد ظلت هناك قطيعة بين مجالين " مجال النخب " [ بشقيه] و مجال المجتمع بمختلف مكوناته. لم يتمكن المجال الأول من إنتاج مشروع سياسي تلتف حوله جل مكونات المجال الثاني. كما لم تحسم مسألة العلاقة بالماضي و لم يتمكن أي من التيارين من الهيمنة و فرض اختياراته ليجبر الآخر على الانطواء و لو إلى حين.
قطعت التجربة البورقيبية في تونس شوطا في هذا الاتجاه لكن العقلية السياسية لم تكن بالنضج الكافي كما أن حملة المشروع سرعان ما ذهبت جهودهم لما دونه كالتناحر حول خلافة "الزعيم" و على المناصب و المآثر ثم صار الزعيم هو المشروع فصار رئيسا مدى الحياة و ظلل على المشروع لأن المشروع المجتمعي يستدعي الحوار و إقناع الناس بأطروحاته لا إقناعهم بوجوب بقاء الزعيم مدى الحياة و هي السبب الرئيسي في انقسام النخبة السياسية إلى موالية همها ما تقطف، و معارضة لو وصلت إلى السلطة لمارست ما تعيبه على ماسكي السلطة، و هو ما تأكد مع فترة وريث بورقيبة عندما رأينا جامعيين كانوا من معارضي الرئيس الأول يتفانون في مدح وريثه و برروا ذلك بدفع السلطة إلى سحق خصمهم اللدود ( الإسلاميون) و صار ذلك همهم إلى درجة معاداة الهوية ( تجفيف المنابع) لعلاقتها بالإسلاميين، في حين كانت أخلاق العمل السياسي تستدعي القبول بهذا التيار و تطوير أطروحات فكرية للرد عليه و لكن عجزهم عن ذلك جعلهم يفضلون الحل الأمني فشجعوا السلطة على ذلك.
بعد تدحرج صنم الفساد نجد جناحي النخبة من جديد على الساحة القطرية في تونس، و قد برز في الجناح الأول أغلبية طورت أطروحاتها الفكرية للتماشى و الحالة العمرانية التي نعيشها مع بروز شق آخر يعارضها بشدة، و نجد الجناح الثاني و قد طور جزء منه أطروحاته للتأقلم مع الحالة العمرانية في حين تحصنت أغلبيته ببقايا السلطة و الانخراط في منظومة الغرب، و هو بذلك يقطع مع مساحة الهوية و يتفنن في المواراة و افتعال القضايا لإرباك خصمه إذ لم يعد أمامه السلطة التي يتعامل معها لسحق مخالفه. فراحوا "يستغبون" الشعب و يخوفونه من الجيش و من النهضة و كأنهم يريدون من الجيش أن يكون رمزيا في مكان التجمع الذي مثل في انتخابات 1989 القوة التي وقفت في وجه النهضة و هذا طرح خاطئ منهجا و مضمونا و نتيجة.
أما من حيث المنهج فالجيش لا يوازي أي حزب و هذا أول ما يؤمن به المدافعون عن المجتمع المدني و قيمته و قيمه. أما مضمونا فإن النهضة حزب سياسي قد نختلف و قد نتفق معه و في الحالتين لا يجوز إلا أن نعارضه أو نسانده، أما التخويف منه فهذا لا يتوافق مع الدعوة للديمقراطية و ممارستها، كما أن الجيش التونسي لا يمكن أن يتمسك بالسلطة و هذا أمر يعلمه كل المهتمين بالشأن السياسي التونسي، و هم يعلمون أن من الغباء مقارنة الجيش التونسي بالجيش الجزائري أو التركي أو الباكستاني ( و هذه الجيوش الثلاثة مختلف كل منهم عن الآخر).
و بالنتيجة فإن هذا الطرح يستغبي الشعب التونسي، و لكن لنعلم أن هذا الشعب صار له من الوعي ما يحصنه من الانسياق وراء من لا يحترم ذكاءه، و بالمقابل اطمأنت النهضة لحجم اتباعها سنة 1989 و التعويل على منطق التظلم و استثمار معاناتها في العشريتين الماضيتين و هذا حساب غير مأمون العاقبة خاصة و أن النهضة كمعاديها سخرت جهدها للتحاصص مع بقية الأحزاب و اقتسام الشعب كمجموعة أصوات عوض أن تتمترس مع الشعب للدفاع عن مطالبه.
----------- المولدي اليوسفي
دكتور علم اجتماع
أستاذ مساعد بالجامعة التونسية
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: