لعل حيل أعداء الثورة أخبثها هي تحريف المفاهيم عن دلالاتها والكلم عن مواضعه. فآخر تحريفاتهم التي صار لوبانة الإعلام المأجور تعلق بمفهوم المصالحة. لكني ما علمت في التاريخ مصالحة يجريها بقايا النظام وحلفاؤه الذين وقعت عليهم الثورة إلا إذا كان المقصود بالمصالحة عكسها أعني أن الثوار يصبحون كالمتسولين العفو من أعداء الثورة لئلا يعاقبوهم على ما اقترفوه عند الثورة عليهم. أما ما عهدناه تاريخيا في ما يمكن أن يسمى مصالحات لنا منه مثالان مضادان حديثان ومثالان موجبان أحدهما قديم والثاني حديث. ولنبدأ بهذين فكلاهما لم يحصل إلا بعد انتصار الثوار واستسلام أعدائها لهم لتكون المصالحة مبادرة من الثوار بالعفو عند المقدرة على أعدائهم السابقين لا العكس.
المثال الأول
فأما المثال الأول فهو ما حصل بعد فتح مكة. كان الجميع ينتظر من المسلمين أن ينتقموا ممن أهانهم وطردهم من بلادهم وافتك أرزاقهم وحرمهم من حرية المعتقد والضمير بل وعذب المستضعفين منه شر العذاب. لكن قائدهم كان ذا حنكة سياسية وكرم خلقي فقال قولته الشهيرة: اذهبوا فأنتم الطلقاء. لم يكن الصلح مبنيا على الزعم بأن الكل في الهوى سواء والثورة لا صاحب لها ولا أعداء بل تم الصلح بعد أن تم الفرز وانتصر أصحاب الثورة على أعدائها النصر الحاسم بحيث يكون الصلح ناتجا عن عفو القادر لا استسلام العاجز كما يراد للثوار حاليا لكأن أعداء الثورة هم العافون والثوار هم المعفو عنهم.
المثال الثاني
وأما المثال الثاني فهو ما حصل في جنوب إفريقيا. كان الجميع ينتظر أن يستبد سودان الجنوب على بيضانها بعد ما ساموهم شر التمييز العنصري. لكن حكمة مانديلا جعلته يعفو بعد المقدرة. فأصبح الحكم السياسي والاقتصادي والتربوي والثقافي بيد الثوار وأصبح بيضان الجنوب ومن تعامل معهم من سودانه مواطنين مثلهم مثل غيرهم خاضعين لقانون الدولة التي صارت بيد الثوار. لم يبق الحكم السياسي والاقتصادي والتربوي والثقافي بيد العنصريين.
ما يقصده أعداء الثورة بالمصالحة
المثال المضاد الأول
لكن المثالين المضادين هما ربما مقصد أعداء الثورة. فما يسمونه مصالحة في تونس أشبه بما حدث في بعض بلاد أمريكا اللاتينية حيث رضي المستبدون على بعض مطالب المعارضة للحفاظ على سلطانهم فأعطوهم إياها تفضلا منهم وسموا ذلك مصالحة. إنهم إذن يعتقدون أن نظام ابن علي ما زال قائما بل هم يواصلون بأكثر حرصا منه استغفر الله من مافيته الأولى لأن مافيته الثانية أكثر حذرا واستفادة من تجربة الأولى. وقد يكونوا إلى حد الآن محقين في معتقدهم:
فرئيس الدولة المؤقت هو أكبر شاهد زور في نظام ابن علي إلى يوم الثورة بل وإلى الآن.
ورئيس الحكومة المؤقت ليس دونه في هذه المهمة على الأقل إلى حد نوبته في مجلس شهود الزور.
ورئيس الهيئة السفلى الذي يتصرف وكأن الثورة رزق بلا أصحاب ليس إلا من أعيان خبراء ابن علي والقوى الأجنبية التي ساعدته بدليل تعيينه دون نقاش من قبل حكومته الأولى والثانية والثالثة بعد ا لثورة.
ورئيس اللجنة المستقلة ليس في كل الأحوال ممن يمكن أن ينتسب إلى صف الثوار إلا بمعنى إيديولوجيته المغالية في العسار وتبعية مستعمر الدار.
وكل من بقي في الهيئة السفلى لا يمكن بأي حال أن يدعي أنه مؤمن بحق بأهداف الثورة وإلا لغادرها بعد أن غولط في الانتساب إليها.
وعلى كل فلا أحد من هؤلاء له ضلع في الثورة ولا في المعاناة التي سببها نظام ابن علي للشعب. لكن اعتقادهم هذا رغم ما يبدو عليه من وجاهة هو ما نعتبره علامة بقاء الدولة بيد الثورة المضادة بخلاف الأقوال لأن المهم هو الأفعال. وهو أمر لا يمكن أن يقبل به الثوار مستقبلا وعلى كل فهم لن يقبلوا بهذا المفهوم للمصالحة. لا شك أن هذا المفهوم هو ما كان يطمع إليه موزع الكسكروتات وزميلة اللذين هرولا للانتساب إلى حكومات ابن علي وواصلا الحرب على كل شريف في هذا البلد وتمجيد كل نذل في نظام ابن علي حتى يمكنوهم ما ثمن الكسكروتات واللافتات والدعاية التي لا تقنع حتى أغبى الفتيان والفتيات فضلا عن الثوار والشعب الذي عانى طيلة عقود كانوا فيها يعيشون على تمويل ابن علي لنواب بعضهم وجرائده وندواته.
لكننا لن نقبل بذلك. فدم الشهداء ليس بضاغة بخسة إنه يحول دون كل خيانة. وليس من شك في أنهم لم يموتوا من دون أن يكون في البلاد جماعات معادية لمطالب الثورة وأهدافها بل وللشعب ومصالحه. وهؤلاء لا يمكن أن تحصل المصالحة معهم إلا بعد أن يُغلبوا نهائيا فيتحرر البلد من سلطانهم السياسي والاقتصادي والتربوي والثقافي الأمر الذي لم يحصل منه شيء. ورغم أنهم الآن بخطابهم يهادنون للثورة فإنهم هم الحاكمون باسم الثورة المضادة لا باسمها. والدليل أنهم لا يمثلون إلا من يكفر بكل ما يؤمن به هذا الشعب من قيم أصيلة وحديثة في آن:
أعني الهوية المستقلة عن التأثير الاستعماري الذي يريد لها أن تكون كجلد الحمار الوحشي بالتقازيح التي لا يوحد بها نظام حتى يسهل عليه ابتلاعها حضاريا.
والديموقراطية الحقيقية التي لا يكون فيها الحكم بيد أقلية لا تستطيع أن تحكم إلا بالاستبداد والفساد ومساعدة مسعتمري البلاد والعباد.
المثال المضاد الثاني
كما أن ما حدث في المغرب لا يمكن أن تقاس عليه المصالحة المطلوبة في تونس. ففيه لم تحدث ثورة كانت المكاشفة حصيلة لها بل هي نوع من الوقاية من الثورة استباق لمفاعليها في المغرب لحكمة الملك الذي أراد أن يجنب بلاده ما كان يمكن أن يحصل نتيجة لما قام به أبوه من سعي لفرض نظام الاستبداد المدافع عن سرطان الفساد. فكانت المكافشة والمصالحة من جنس الترضيات الحائلة دون الثورة وليست مصالحة بين أصدقاء ثورة وأعدائها.
مستوى المصالحة الأعمق
سيتهمني الكثير ممن تابع محاولاتي في يوميات الثورة بالتناقض إذ كنت ربما أول من دعا إلى المصالحة. لذلك فلا بد من بيان القصد من المصالحة التي دعوت إليها. فالمصالحة التي دعوت إليها مباشرة بعد قيام الثورة ولعلي أول من فعل ذلك تنتسب إلى مستوى مختلف تماما عما يتكلم عليه دعاة المصالحة المقلوبة والمغشوشة. فالمفاهيم قلبت إلى الحد الذي صرنا نسمعه هذه الأيام ونقرؤه في بعض المبادرات من "العالفين من كل المخالي مثلهم مثل حمير البياعة" الداعين إلى الخلط بين الغث والسمين ومستبلهين الشعب بدعوى المساواة بين الثوار ون لا ملة له ولا دين من قوادة الزين ودعاته إلى البقاء في حمايتهم بمافيته إلى يوم الدين.
إن المصالحة التي دعوت إليها ولا زلت تسعى إلى جمع فرعي حركة الإصلاح في تونس بعد ما لاحظته من سعي لتحويل الأنظار عن حلفاء ابن علي الذين زينوا دولته ومدحوا أفعاله الشنيعة تفضيلا لدكتاتورية المافية على ديموقراطية من يعتبرونهم عامة.إنهم أعداء هوية البلاد وحرية العباد من فاسد التجمع وانتهازيي اليسار واليمين الذين هم في الحقيقة من جنس الحركيين الجزائريين حتى وإن لم يتبين هذا الطابع إلا بعد الثورة. فهؤلاء يسعون إلى لأنهم بخلاف حركيي الجزائر بقوا ولم يصحبوا جلاء المستعمر. ونحن نرى أن سياستهم الحالية هي الإيقاع بين شرفاء الحزب الدستوري المتقدم على التجمع وعقلاء الإسلاميين الذين فهموا العالم واستفادوا من التجارب السابقة في جل بلاد الإسلام.
فبعد انقسام حركة الإصلاح التونسية بداية القرن الماضي وحصول الفرقة بين صفيها الفرقة التي دامت ثلاثة أرباع القرن رأيت أنه لا بد لفرعيها الممثلين بإفراط وتفريط لبعدي كل حركة تاريخية أصيلة مؤثرة أن يعيدا وحدة الصف ليستكملا تحرير البلاد نهائيا ممن اندس في شرايينها من الحركيين بالمعنى الجزائري للكلمة الذين نراهم اليوم يفعلون كل ما يستطيعون لبث الفتنة بالحرب على رموز الأمة القديمة والحديثة بهدف إدخال البلاد في حرب أهلية هي الشرط الوحيد لبقائهم ماسكين بمقاليد الإدارة والإعلام والثقافة والتربية خدمة للفاسدين من أرباب الاقتصاد والسلط الخفية أعني بقايا مافيات ابن علي. وجميعهم توحد بينهم العمالة للغرب والعداء لهوية البلاد ولحرية العباد لأنهم لا يمكن أن يكون لهم وجود إلا بالاستناد إلى الدكتاتورية الاستئصالية وبدعم الفساد والاستبداد وتزيين ما يسميه منجزات الحداثة الوهمية:
فالحزب الدستوري الجديد أفرطت قياداته التي انفصلت علن الحزب الدستوري القديم بدعوى النجاعة السياسية إلى حد إهمال الأصالة الحضارية.
والحزب الدستور القديم أفرطت قياداته في إهمال مقتضيات السياسية والتاريخ الحديث لتضاءل دورها بدعوى الحفاظ على الأصالة الحضارية.
والمصالحة بين هذين الفرعين من حركة الإصلاح هي ما دعوت إليه أعني ضرورة توحيد هاتين الحركتين بممثليهما بعد أن جرب كلاهما خياراته واكتشف قصورها. ويشبه ذلك ما يمكن أن يحصل من صلح بين ثوار مصر وحركة تحرير مصر قبل ما يسمى بالثورة الناصرية. وأولى مهام هذا الصلح هي تحرير البلاد من أعداء هوية الأمة وحرية الوطن وكل القيم التي يؤمن بها هذا الشعب تحريرها من كل عملاء القوى الأجنبية غربية كانت أو شرقية ما يعني أن التجربة تقتضي أن يتصالحا ليتصديا لمن يريد أن يبث الفتنة فيفسد على الثورة سعيها إلى أهدافها. وكانت دعوتي تقتضي أن نميز في الحزب الحاكم بين من تقدم فيه على ابن علي ومن انتدبهم ابن علي من أفسد ما في الحزب مع أفسد ما في اليسار واليمين ليكونوا في خدمة مافيته. وهم يواصلون الآن نفس السياسة والمؤامرات.
شروط المصالحة التي تطابق أهداف الثورة
لكن المصالحة لا يمكن أن تكون نفيا لسنن التاريخ. لا بد أولا أن تنتصر الثورة على أعدائها النصر البين حتى يكون المبادر إلى المصالحة هم الثوار بعد أن تكون مقاليد الحكم بأبعاده السياسية والاقتصادية والتربوية والثقافية قد أصبحت بيدهم. عندئذ تكون المصالحة من جنس العفو عند المقدرة. عندئذ يمكن للثوار أن يقولوا لأعداء الثورة: اذهبوا فأنتم الطلقاء لكم ما لنا وعليكم وما علينا.
لكن لا بد من تجنب ما حصل بعد هذه القولة في ماضينا من تغول الطلقاء على الثوار في تاريخ الإسلام. لا بد من إجراءات ومؤسسات تحول دون عودتهم إلى الاستبداد بالدولة حكما واقتصادا وتربية وثقافة نظرا إلى ما لديهم من وسائل حصلوها خلال العقود الأخيرة مع ما يعتمدون عليه من حلفاء خارجيين قد يمكنوهم ثانية من رقابنا.
وأعداء الثورة معلومون للجميع فنفاقهم لا ينطلي على أي مواطن تونسي. لا يمكن لمن نرى بيدهم مقاليد الدولة أن يكونوا قد أصبحوا مؤمنين بقيم الثورة في حين أن الثورة قامت عليهم. وهم ليسوا بالغباء حتى يجهلوا ذلك أو يتجاهلوه. وما رمز الخياط الروماني لكسوة خروتشاف ببعيد حتى نفهم أنهم فاهمون. فما حصل في القصبة الثالثة ومناورات الحكومة إعلاميا وأمنيا وتحيلات الهيئة السفلى على نظام الانتخاب وتحولها إلى سلطة تشريعية من دون التنويب الشرعي وسفسطات الناطقين باسمها وخاصة رئيسها الذي يكاد ينفجر بخيلائه الكاذبة إذ يأكل لحم أسياده من الثوار في قناة العار كل ذلك كاف وزيادة ليجعل أعداء الثورة قابلين للتحديد العيني. إنهم بقايا نظام ابن علي وحلفاؤهم من فاسد اليسار واليمين والبعض من المعارضة التي انضمت إلى صفهم مباشرة بعد الثورة وكل من شارك في مظاهرة الخيانة والعار بعد القصبة الثالثة والأحزاب الفقاعية التي انتشرت تفريخا من بقايا نظام ابن علي. وما عدتهم بالأسماء بالدالة على عدة فعلية لأنها مجرد حيلة لإفساد الانتخابات فلا يخرج عنها أغلبية قادرة على حكم مستقر للبلاد. فجمعهم لا يتجاوز واحد في المائة من الشعب التونسي. أما الثوار فهم شباب الأمة أعني كل من ينتسب إلى صف من خوف ضربهم ابن علي من الدستوريين الصادقين ومن الإسلاميين وبعض اليسار واليمين الشرفاء والمخلصين لقيم الأمة.
--------------
وقع تحوير طفيف في العنوان الأصلي للمقال
محرر موقع بوابتي
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: